سعاد العنزي*
مع بداية معارض الكتب تظهر دوما الكثير من الانطباعات الأولية والتعليقات وردود الأفعال ذات الطبيعة الاستغرابية والانفعالية، راثية حال الثقافة الأصيلة والمثقفين، وتكيل الكثير من الانتقادات السلبية لجسد الرقابة المصاحب لكل معرض، باعتباره مؤسسة كاشفة لاستراتيجية التوزيع الثقافي في البلد التي قد تكون على طرفي النقيض، إما أن تكون منظمة جيدا، أو تسير باعتباطية تامة.
ظهرت في الأيام الأولى لمعرض الكتاب تغريدات تويترية ومنشورات في الفيسبوك تدين مستوى الكتابة، لأحد المؤلفات المكتوبة بالعامية، الذي يختزل في داخله سيلا من الإصدارات المشابهة في المستوى والمضمون. وهو ما دفع كلا من عالية شعيب وأحمد العنزي، والشاعرة سعدية مفرح للاعتراض على هذه الظاهرة، بتغريدات مختلفة تؤكد تخلف وتراجع المستوى الثقافي في الكويت، ومن المفارقة أن يتمنى البعض أن يكون للرقابة دور، وهم من الذين حاربوا فكرة وجود الرقابة مسبقا.
تقول عالية شعيب: «كتاب بمعرض الكتاب يكتب عن «التخرفن» بلغة سوقية. أين الرقابة والإعلام والمجلس الوطني للثقافة والآداب وأين.. عيب استحوا..» أما أحمد عقلة العنزي، فيقول بهذا الصدد مستغربا: «مؤسف أن تتصدر الكويت الدول العربية في انتشار الأدب الهابط، مع تحفظي على كلمة أدب». مما يؤكد أن هناك تحولا ثقافيا كبيرا في الكويت عما كان عليه في الماضي، حيث الرصانة والجودة إلى ما هو أقل من ذلك، وهو انحدار يتماشى مع انحدار عام في المجتمع ولا ينفصل عنه.
أحد الكتاب حسين الفيلكاوي، كاتب رواية «مكياج رجال»، و»عاشق في الطب النفسي»، رد على سعدية مفرح ردا ينم عن الجهل والسطحية، والإصرار على المغالطة، ومن المفارقة أنه يقول للشاعرة المعروفة على أقل تقديرعند أهل الثقافة النخبوية:
«بداية، شكرا على هذا الكلام الهابط، ثانيا هذه وجهة نظر وكل كاتب يحترمها، هذا كان كتابي الأول ولابد من الأخطاء في إصداري الأول، احترم رأيك».
عندما يشكر الكاتب سعدية على الكلام الهابط، فهذا يعني إننا نعيش في زمن انقلاب المفاهيم وتصورنا للهابط والرفيع، فإن كان كاتب ناشئ يقول لكاتبة محترفة إن كلامها هابط، لأنها وجهت اعتراضها على ما يكتب، فهذا يعني أننا أمام ثقافة عامة تحول القيم المشتركة وما يسمى بـ Common sense»» الفهم العام والمشترك، إلى شخصي ونسبي وفق النظرة الشخصية والهدف والمصلحة، والعاطفة، والرؤى السطحية التي لا تستند إلى شيء. كما أنه من جانب آخر يحول السؤال لسعدية مفرح، ويقول: «ولكن هل أنت فعلا أديبة؟ لكي اقرأ لك وأرد عليك؟ أين ترعرعت أنت؟ 17 مؤلفا ليس لها صدى».
بسؤاله يشكك بأن الكاتبة أديبة، وبالطبع هي ليست أديبة بتصوره المتواضع للأدب، ومن الطبيعي ألا يسمع بها ولا يقرأ لها، فهو كما يبدو لي إن أقصى مصادره الثقافية الأفلام، والمسلسلات، وما يراه في المجتمع من أحداث، لذا هو لا يسمع ولا يقرأ لسعدية أو حتى غيرها. هذا الحوار رغم تواضعه، يشكل مادة غنية للتحليل الثقافي، كما يكشف عن انفصال الرؤى بين طبقتين من المؤلفين/ طبقة الكتاب المحترفين، والكتاب الموجودين بالحقل الأدبي فعليا يتحقق لهم هذا الوجود عبر نسبة عالية من القراء الاستهلاكيين، من دون احتفاء بنوعية القارئ، ولا بقيم الثقافة الرصينة، فهم موجودون بالقوة، رغما عن الجميع. الأمر لا مراء فيه، هو حق أصيل لأي إنسان أن يكتب وينشر ما يريد، ولكنه يحمل بين طياته أيضا مسؤولية أخلاقية للكاتب ووقفة استنكارية، توجب على الرقابة أن تقف وقفة جادة أمام هذه الثقافة الهزيلة وتمنع ما لا يصلح نشره من أفكار هشة وأساليب ركيكة، ولغة عامية تحارب وجود الفصحى.
من الغريب أن تمنع الرقابة كتاب «السلطة والثروة» لأحمد العنزي، ورواية «لا تقصص رؤياك» لعبد الوهاب الحمادي، وتفتح المجال لكتاب اللغة العامية السوقية الهابطة، كتاب عميقون فكريا يغيبون عن المعرض، وكتاب دخيلون على التفكير بمعطيات ثقافية، يوقعون إصداراتهم بـ»زفات جماعية».
هذا يقودنا للحديث عن أنواع الأدب، فمنذ فترة كتبت مقالة عن مفهوم الأدب العادي، وأقصد به الأدب الذي يمتثل لشروط الكتابة الإبداعية من دون إجادة وحرفية تامة، والذي من الظلم أن نسميه أدبا رديئا. وهي كانت محاولة مني لفهم الخريطة الثقافية الأدبية الحالية، بين الأدب المتميز الذي يشد ويبهر القارئ، وأدب عادي لا يحقق أثرا كبيرا مع محافظته على عناصر وخصوصيات السرد وتقنياته. أما أن يتحول بنا الأمر إلى أن نقرأ أدبا أقل من الأدب العادي، إلى أدب رديء ينطلق من اللهجة العامية، وكتابة سوقية، فهذا أمر أيضا يحتاج لتفهم واع لثقافة انتجت هذا المجتمع، بقرائه وكتابه أيضا.
شعب يعيش طقوسا من الرغبة في خلق اللاموجود ثقافيا وإبداعيا بالمادة، وبالمجاملة، بثقافة هشة لا تبحث عن أساسيات الثقافة، وتأصيل الأشياء على ركائز معينة، قادر على القبول بهذا الشكل من الكتابة، بعيدا عن تعقيدات اللغة الفصحى، المرتبطة بالذاكرة الكويتية بصورة مدرس اللغة العربية المحافظ ذي الدم الثقيل على نفوس الطلبة. ولنلاحظ بهذا الصدد تمثيل مدرس اللغة العربية في السينما المصرية، لنفهم سبب عقدة المواطن الكويتي من مدرس اللغة العربية، واللغة العربية الفصحى، مما يرجح إنه يكون سببا في إقبال العامة على هذا النوع من الكتابة، وينذر بالخطر الحقيقي، فكما يقول يوسف زيدان: «اضمحلال اللغة هو اضمحلال الجماعة»، فتراجع الفصحى هو تراجع لقيم الجماعة المتوارثة وإحلال ثقافة بديلة.
يلي ذلك، بالنسبة إليّ، أهمية البحث في نوعية الثقافة في الكويت والقراءة الحقيقية في فهم هذه الظاهرة، فنحن ليس لدينا قراء نهمين بمعنى الكلمة، ولو صنفنا القراء إلى الأنواع التالية: القارئ الخبير: الأكاديمي والباحث، وقلة من غير المنتمين للاختصاص، إضافة إلى الأدباء المحترفين، والقارئ الديني، والقارئ الأيديولوجي، والقارئ العادي: وهو المهتم بكتب الثقافة العامة وكتب تنمية الذات، والقارئ العاطفي الباحث عن قصص الحب وهو الوريث الشرعي لقراء أجاثا كريستي، وروايات عبير، ولكنها معدلة باللهجة والمرجعية الكويتية، لتصبح وسيطا مشتركا بين قارئ وكاتب ولدتهما الثقافة المشتركة نفسها. وهذا ما أود قوله، إن الثقافة الجماهيرية الخليجية تنتج كتابها وقراءها بطريقة طردية سببية طبيعية. ومن المؤسف أن تكون ثقافتنا الجماهيرية تخلق كتابا على شاكلتها، كما أن القارئ الواعي له ذائقة معينة تجعله يبحث عن نوعية معينة من الكتاب محليين أو عالميين. فعلاج هذه الظاهرة لا يذهب للكاتب مباشرة، لأن الهجوم على الكاتب يتضمن هجوما على الجسد الثقافي الراهن خلفه.
علينا استيعاب هذه الثقافة، لكي نغيرها ليس عبر الهجوم والتصادم، بل عبر الحوار ونشر الوعي بأهمية البحث عن الذات الثقافية العربية الأصلية، مع عدم الانغلاق على الذات ورفض الجميل والأصيل من كل ثقافة.
كما أن استيعاب فكرة وجود كاتب لجماعة شبابية أو عرقية أو دينية أو سياسة، هذا أمر مفصلي ومقبول، كأن يجود كاتب شيعي، يهودي، كردي، شريطة أن يكون هذا الكاتب منطلقا من ثقافة ووعي رصينين، وألا تكون الكتابة المنطلقة من الجهل، علامة تضييع وتشتيت لهذه الجماعة، بدلا من تنويرها وإمتاعها.
كل هذا لا ينفي أن هناك تماسا وشفافية ومصداقية في التعبير عن الهوية الجمعية للمجتمع، مثل روايات كتاب كنا نحسبها من الأدب العادي والأقل جودة من غيرها، قريبة من تمثيل قضايا المجتمع بلغة بسيطة وأداء وصفي من دون نظرة تحليلية عميقة، مثل: هيثم بو خمسين، وعلياء الكاظمي، خولة العتيقي، ولكننا اليوم أمام ظاهرة كتابية جديدة تحتاج لمعالجة اجتماعية ثقافية عميقة لآليات إنتاج الثقافة في المجتمع، وليس الهجوم على منتج مغيب ثقافيا خارج من ظروف ثقافية عميقة ومترسبة لم يكلف أحد من المهاجمين والمتباكين على حال الثقافة في الكويت نفسه بفهمها وتسليط الضوء عليها بطريقة أعمق.
*كاتبة كويتية
( القدس العربي )