مريم الساعدي *
يميل المثقف في تجلياته المُثلى إلى التحرر من فكرة الوطن الجغرافي المحدود، بُغية الانتماء للوطن الإنساني الأكبر، فيطرق أبواب الريح يقول لها خذيني، أنا ابنك، أنا إنسان، أنا طائر حر، أنا بحر، وشجرة وزهرة، أنا روح حرة محلقة تذوب عشقاً في انحنائة الإنسان على ظله، أنا إلى الكون الأعظم أنتمي. فيرنو بقلبه إلى الكون الأوسع ويشيح به عن كل ما هو قريب ومحدد بحدود ومنظم بقانون ومقنن بقوالب، ومؤطر بؤطر، يريد أن يحطم القوالب، وينفذ من بين الأُطر وتختلط عليه الرؤى ويظن أنه بذلك ينفذ، ولكنه حين يقف على أبواب الريح يحاورها، يجدها ترمقه بتشكك وقبل أن تقبل به، تقلّبه على وجوهه العديدة بحثاً عن أثر من تراب تستدل به على هويته، فتميز ملامحه، وتصيخ السمع لتلتقط أذنها مخارج حروفه وتميز لكنته، ثم تحيله إلى أصله وهويته تسأله من أين أتى وأين نبت، ويندهش لماذا تهتم الريح بهكذا أسئلة وهي تعرف على وجه اليقين أنه مثله مثل كل البشر جاء من طين، لكنها تصرّ أن تحيله إلى موطن جذره فتسأله عما يرتديه وعما يأكله وماذا يدور برأسه حين يخرج من عتبة بيته، وعن الأحلام التي تغزوه في دفء سريره، وكيف يصنع قهوته، ومتى يستدير عائداً لو ضل الطريق..
وتصر أنك للسماء المسقوفة وللأرض المكشوفة تنتمي، وحين تشتد الريح تبحث عن جذع متين تتمسك به، فتمسك بثوب أبيك، بوجه أمك، بظل بيتك، بسارية علم، بحفنة تراب، بالتاريخ، بالجدران الأربعة، بالحدود، بالآمال الوطنية، بالفخر في العيون، وتتشبث بها كي لا تطير، كي تظل إنساناً يتأمل ويحلم ويتمنى أن يبدع في مسيرة الإنسان ويصادق الريح دون أن تقتلعه. وتدرك أن وطنك جذرك، ومهما بعدت ستظل دوماً متصلا بأرضه، لتظل قادراً أن تعود. وأن جذرك ليس قيداً إنما قاعدة أمان، وإحساس بأن لك ملامح تميزك، وأن لك بيتاً تعود إليه تحرسه عين حانية واعية. وتدرك بأن الكون الأكبر يبتدئ من مرآتك، تقف أمامها وترى نفسك وبأنك إن لم تر حولك فلن ترى أبداً ما يدور بالبعيد ولن تكون في دوامة الريح البشرية الكبرى سوى قشة عمياء هيّنة، ولن تهم حينها أحدا.
– الاتحاد