*عبد الرحيم التوراني
( ثقافات )
ظل رحال ممتنعا زمنا عن الكلام حول سبب عدم تناوله اللحوم. وكان إذا اضطر لذلك يكتفي بالقول:
– إن اللحوم من أسباب الإصابة بالكوليسترول. ويصمت.
كان لا يشرح كثيرا كيف أصبح نباتيا. ويقول:
– الكائن النباتي هو من لم يذق طعم اللحوم أبدا.
وعندما استضافه السي حمادي صديق العائلة، لحضور وليمة نجاح ابنته في امتحان البكالوريا، قدم له أكلة معدة بلحم الأرانب بالسفرجل، قام رحال عن المائدة وابتعد مرتعبا. ثم أحس بدوار وغثيان ومغص، اضطر معه المضيف إلى أخذه إلى قسم المستعجلات بمستشفى “موريزكو”.
شككت امرأة رحال في أن يكون هناك من قام بتسميم زوجها. من يدري؟ فالزوج معتقل سياسي سابقا، ولا زال على أفكاره مناهضا لسياسة النظام. لم تنل منه السنوات التي قضاها في السجن المركزي بالقنيطرة، ولم تأخذ منه “لا حق ولا باطل”. ولا أحنت رأسه حصص التعذيب المتوالية بالمعتقل السري “درب مولاي الشريف”، على يد زبانية أشهر جلادي “مملكة سنوات الرصاص”: قدور اليوسفي.
لكن الجميع ممن كان حاضرا في الوليمة، شهد أن الرجل لم يلمس شيئا من الأكل المقدم، و ما حدث هو أنه أصيب بما أصابه، بمجرد سماعه السي حمادي يرحب بضيوفه قائلا إن الطبق الشهي يضم أربعة أرانب مهيأة وفق ألذ وصفات المطبخ الفرنسي.
عندما هدأ رحال وعادت إليه الروح، ناولوه كأس شاي بالنعناع الأخضر وبالزعتر البلدي. قال السي حمادي بنبرات تحتمل الجد والهزل:
– في المرة القادمة حين تريد أن تودع، مت في بيتك يا أخي ولا “تطيح علينا باطل”.
ضحك الجميع، لكن النجار السي المحجوب بقي صامتا مطرقا في التفكير، قبل أن يتكلم ويسأل كمحقق في فيلم بوليسي:
– دعونا من الهزل قليلا، لنمر إلى الجد. باسمكم أطلب من رحال أن يحدثنا عن حالته، فأنا أعرفه جيدا، لكني لا أفهم سر تحوله إلى كائن نباتي متطرف، خصوصا وأن المرحوم والده كان سائق سيارة نقل اللحوم.
حملق رحال في نجار الحي، فبادر المحجوب إلى القول:
– سأبدأ بنفسي وأحدثكم أنا أولا عن سبب ابتعاد ابني الأكبر عن تناول اللحوم، ليست لذلك صلة بفلسفة ولا أية أفكار بيئية يعتنقها.
كنا في إحدى العطل عائدين من البادية لما اصطدمت الحافلة التي نركبها بقطيع أغنام تائه، نزل الركاب وابني من ضمنهم، ويا ليته ما نزل، ليشاهد لحم الأغنام “مبغوجا” مضغوطا فوق الإسفلت، أصابه ساعتها غثيان حاد، ومن يومها صار يتقزز من أكل اللحوم.
ثم عاد لسؤال رحال، لكن رحال ظل على سكاته.
فتكلم الخياط السي علال وقال:
– أما أنا فنباتي أيضا، أستهلك الخضروات فقط، ولا ألمس اللحوم مطلقا، بكل أنواعها، كانت حمراء أو بيضاء، أو من أي لون سميتموه. والحكاية بدأت عندما تم اعتقال “عينين الكاس”، واسمه من عينيه الجاحظتين خلف نظارة طبية سميكة كقعر الكأس. كان “عينين الكاس” يبيع في رأس الدرب ساندويتشات النقانق، واعتقاله لم يكن بسبب ممارسته تجارة غير مرخص بها، بل، ويا للأسف لكونه كان يصنع ساندويتشاته اللذيذة من نقانق محشوة بلحوم الكلاب. ويا للأسف الشديد ثانية، كنت من زبنائه اليوميين. وقد رأيت في نومي، منذ هذا الاكتشاف الرهيب، كوابيس مزعجة، كنت فيها أنبح مسعورا وأسير على أربع، لأصحو مذعورا.
ضحك رحال من حكاية علال ونباحه، فألح عليه الجميع أن يحكي هو الآخر قصة نباتيته.
تردد رحال، ثم وزع نظرة غامضة على المتحلقين حوله. استوى في جلسته، ثم قال:
– أما أنا فلم تقدني أية فلسفة نباتية لأصبح نباتيا. وحكايتي حدثت عندما كنت في السجن أقضي حكما قاسيا بتهمة الإخلال بالنظام العام والانتماء إلى تنظيم سري.
قاطعه المحجوب ضاحكا:
– ولا زلت تعاني من أعراض السرية، يبدو أن السرية صارت جزءا منك.
ابتسم رحال، وعاد إلى حكايته.
– كنا في السجن نعاني من أشياء عديدة، لكن زيارة العائلات كانت تخفف من وطأة معاناتنا. ولن أحدثكم عن التغذية السيئة، فنحن في سجن ولسنا مدعوين لوليمة كهذه. لكن يوم الجمعة كان يعتبر لدينا يوم عيد، فيه ننعم بزيارة أهلنا وبقفاتهم المليئة بالملذات، أذكر أن بعض الحراس وكنا نجود عليهم بما تيسر، صرحوا لنا أنه لم يسبق لهم أكل مثل هذه الشهيوات، إلا بفضلنا.
وكان البعض يشتهي ويطلب من عائلته أن تعد له ما يريده. كان الاعتقاد هو أن الأكل اللذيذ يخفف من وطأة السجن.
وجاء يوم استقبل فيه واحد من رفاقنا أكلة معدة بأربعة أرانب،”طحنا فيها عميين”، وأصبحنا نطلب من والدته أن تطبخ لنا نفس الأكلة كل جمعة. صرنا نسمي يوم الجمعة “يوم الأرانب”. إلى أن توقفت والدة الرفيق عن طبخ الأرانب، فخجلنا من تكرار طرح سؤال اختفاء الأرانب.
وذات زيارة عاد الرفيق حزينا بعد لقاء والدته، ظننا أن مكروها أصاب عائلته، لكنه أخبرنا أن والدته امرأة تؤمن بالشوافات وبالشعوذة، وقد ذهبت عند إحداهن تسألها متى يطلق سراح ولدها، فنصحتها الشوافة أن ولدها يلزمه أكل لحم حيوان حر، وحتى لا تظن الوالدة أن الأمر يتعلق بالطير الحر، أكدت لها الشوافة أنه ليس هنالك في الدنيا حيوان أكثر حرية من القط. هكذا أصبحت الوالدة تطبخ القطط وتقدمها لابنها ورفاقه ليطلق سراحهم وينعموا بحرية القطط. لكن الأسابيع والأشهر امتدت، ولم يطلق سراحنا، فتوقفت الوالدة عن اختطاف القطط وذبحها وطبخها ليأكلها وحيدها وأصحابه المسجونين.
من يومها أصبحت أكره القطط والأرانب واللحوم بصفة عامة. وكلما ماء قط اعتصرت معدتي، أعتقد أن لحم الأرانب – القطط لا يزال عالقا بمصاريني.
ضحكت زوجة رحال، وفهمت لماذا يمنع زوجها ولدهم الصغير من امتلاك قطة.