النسوية وفلسفة العلم ..اختراق لأجواء المسكوت عنه


*حازم خالد

النسوية في أصولها حركة سياسية تهدف إلى غايات اجتماعية، تتمثل في حقوق المرأة وإثبات ذاتها ودورها. والفكر النسوي بشكل عام أنساق نظرية من المفاهيم والقضايا والتحليلات تصف وتفسر أوضاع النساء، وسبل تحسينها وتفعيلها وكيفية الاستفادة المثلى منها. النسوية إذن ممارسات تطبيقية واقعية؛ ولما تنامت مؤخراً وباتت قادرة على التأطير النظري حتى تبلورت النظرية ونضجت، ظلت الرابطة قوية بين الفكر والواقع.

هكذا بدأت النسوية مع القرن التاسع عشر حركة اجتماعية، توالد عنها فكر نسوي، وفي مرحلة لاحقة نشأت عنها منذ سبعينيات القرن العشرين فلسفة نسوية، ظلت بدورها أكثر من أي فلسفة أخرى ارتباطاً بالواقعي والعيني واليومي والمعاش والعادي والشائع، حيث لا نظرية منفصلة عن الممارسة العينية ولا فعل في الواقع منبت الصلة بالفكر. الخلاصة أن النسوية فكر وواقع متحاوران، حتى يصح القول إن الفلسفة النسوية أتت كتركيب جدلي من هذين الجانبين للحركة، اللذين تطورا معاً.
في مطلع ثمانينيات القرن العشرين ظهر ما يسمى “فلسفة العلم النسوية في الفكر الغربي”، وسارت قدماً على مدار العقدين الأخيرين منه، حتى أقبل القرن الحادي والعشرون فباتت من ملامح المشهد الفكري كتيار ذي معالم مميزة، يمثل إضافة حقيقية لميدان فلسفة العلوم ونظريات المعرفة العلمية وفلسفة العلم النسوية بمنطلقاتها المستجدة ورؤاها المغايرة وموقفها النقدي الرافض التسليم بالوضع القائم، النازع إلى إلقاء الضوء على مثالبه وقصوراته والهادف إلى تطويره.
وتؤكد د. يمنى طريف الخولي في كتابها “النسوية وفلسفة العلم” – الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة – أن فلسفة العلم النسوية جاءت لترفض التفسير الذكوري الوحيد المطروح للعلم بنواتجه السلبية، وتحاول إبراز وتفعيل جوانب ومجالات وقيم مختلفة خاصة بالأنثى، جرى تهميشها وإنكارها والحط من شأنها بحكم السيطرة الذكورية، في حين أنها يجب أن يفسح لها المجال وتقوم بدور أكبر، لإحداث توازن منشود في مسار الحضارة والفكر.
وترى العلم علماً بقدر ما هو محمل بالقيم والأهداف الاجتماعية، ولا بد أن يكون ديمقراطياً يقبل التعددية الثقافية والاعتراف بالآخر. إنه الانفتاح على الطبيعة والعالم بتصورات أنثوية ليست أحادية الجانب، لا تنفي الميثودولوجيا العلمية السائدة أو تريد أن تحل محلها، بل تريد أن تتكامل معها من أجل التوازن المنشود.
هكذا تحاول الفلسفة النسوية أن تضيف إلى العلم قيماً أنكرها، فتجعله أكثر إبداعا وإنتاجاً وأكثر مواءمة إنسانية، مستجيباً لمتطلبات الواقع الثقافي والدور الحضاري؛ وتجعل فلسفة العلم ذاتها تطبيقية مرتبطة بالواقع الحي، بحيث يمكن القول إن فلسفات العلم التقليدية المنحصرة في منطقه ومنهجه جميعها تبلور إيجابيات العلم وتستفيد منها، تأخذ من العلم، أما الفلسفة النسوية فهي تحاول أن تضيف إلى العلم ما ينقصه ويجعله أفضل.
لقد كان ظهور الإبستمولوجيا وفلسفة العلم النسوية، تطوراً ملحوظاً للفلسفة النسوية عموماً التي ظهرت في العقود الأخيرة، حيث ترفض المركزية الذكورية Androcen- trism ورفض مطابقة الخبرة الإنسانية بالخبرة الذكورية واعتبار الرجل الصانع الوحيد للعقل والعلم والفلسفة والتاريخ والحضارة جميعاً، وتجدّ لإبراز الجانب الآخر للوجود البشري وللتجربة الإنسانية الذي طال قمعه وكبته.
وفي هذا تعمل الفلسفة النسوية بسائر فروعها على خلخلة التصنيفات القاطعة للبشر إلى ذكورية وأنثوية، بما تنطوي عليه من بنية تراتبية هرمية سادت لتعني وجود الأعلى والأدنى، المركز والأطراف، السيد والخاضع.
امتدت في الحضارة الغربية من الأسرة إلى الدولة إلى الإنسانية جمعاء، فكانت أعلى صورها في الأشكال الاستعمارية والامبريالية. الظلم الذي نراه في معالجة أرسطو للنساء والعبيد هو عينه الظلم في معالجة شعوب العالم النامي، إنه تصنيف البشر والكيل بمكيالين.
وتعمل الفسلفة النسوية على فضح كل هياكل الهيمنة وأشكال الظلم والقهر، وإعادة الاعتبار للآخر المهمش والمقهور، والعمل على صياغة الهوية وجوهرية الاختلاف، والبحث عن عملية من التطور والارتقاء المتناغم الذي يقلب ما هو مألوف ويؤدي إلى الأكثر توازناً وعدلاً.
أمعنت تلك الفلسفة في تحليلاتها النقدية للبنية الذكوية التراتبية، وتوغلت في استجواب قسمتها غير العادلة، وراحت تكسر الصمت وتخترق أجواء المسكوت عنه، حتى قيل إنها تولدت عن عملية إعطاء أسماء لمشكلات لا اسم لها وعَنونة مقولات لا عناوين لها.
لئن كان ظهور الفلسفة النسوية إنجازاً لافتاً للحركة النسوية، فإن امتدادها إلى مجال الإبستمولوجيا وفلسفة العلم ضربة استراتيجية حقاً، أحرزت أكثر من سواها أهدافاً للحركة وللفكر النسوي، وجعلت الفلسفة النسوية استجابة واعية أكثر عمقاً للموقف الحضاري الراهن.
وتلقي الكاتبة الضوء على النسوية في الفكر الغربي: ماهي؟ كيف بدأت؟ ما أصولها وجذورها؟ كيف اتجهت وسارت؟ كيف نضجت وتطورت وبلغت المرحلة التي تطرح فيها فلسفتها الخاصة، بالمفهوم الأكاديمي لمصطلح الفلسفة، وتتوغل حتى تقتحم ميدان فلسفة العلوم، وهي من أعقد فروع الفلسفة وأصعبها مراساً، وأيضاً أكثرها راهنية ومستقبلية، والأقدر على تجسيد وتجريد روح العصر وتطلعاته.
في هذا الإطار العريض الشامل، تضم النسوية كل جهد عملي أو نظري لاستجواب أو تحدي أو مراجعة أو نقد أو تعديل النظام البطريركي (الأبوي) السائد طوال تاريخ الحضارة الغربية. الاستثناءات القليلة للنظام البطريركي إما قبل التاريخ المدون للحضارة الغربية، وإما خارج نطاقها. وفي كل حال نجد الاستثناءات نادرة – أو ببساطة استثناءات – بطول الحضارة الإنسانية وعرضها.
وتضيف الكاتبة: لقد اقتضت مصالح السلطة الذكورية حصر المرأة في قيمتها بالنسبة للرجل، أي في دورها كأنثى.. كزوجة وكأم. فتبدو الأنوثة حتمية بيولوجيّة مفروضة على المرأة، تحصرها داخل الأسرة التي يرأسها الرجل، ووفقاً لشروط ومتطلبات الرجل؛ ولأن الأسرة تبدو مؤسسة ضرورية لاستمرارية الحياة، كانت الحتمية البيولوجية وضرورية الأسرة هما الذريعتان اللتان جعلتا وضعية المرأة الأدنى الخاضعة للرجل والمسخرة له هي الأمر الواقع الذي لا واقع سواه، والطبائع الضرورية للأشياء. بدا هذا طبيعياً وأيضاً عادلاً، لأنه مصلحة السلطة الذكورية الأقوى. وقديماً ناقش أفلاطون في جمهوريته المقولة التي تفرض نفسها أحياناً وتنص على أن العدالة هي مصلحة الأقوى.
تؤكد النسوية أن هذا جزئياً في صالح الرجل، لكنه كلياً ليس عدلاً وليس في صالح المسار الحضاري والإنسانية جمعاء التي هي الرجل والمرأة معاً، وليست الرجل فقط أو أساساً – كما تزعم القيم الذكورية للبطريركية التي سادت – لقد خسرت البشرية طويلاً من هذا الإهدار الجائر لحقوق المرأة ولدورها الحضاري، خصوصاً وأنه ارتد في صورة بخس وإهدار والحط من شأن قدرات وملكات وخبرات نفسية وشعورية، فقط لأنها أنثوية.
ولئن عملت النسوية في موجتها الأولى في القرن التاسع عشر على نيل حقوق المرأة، فإن النسوية الجديدة تعمل الآن على إبراز وتفعيل مثل هذه الخبرات الأنثوية زاعمة أن هذا قادر على الإسهام في علاج أدواء مزمنة تعاني منها الحضارة المعاصرة وممارساتها العلمية، بسبب من المركزية الذكورية التي سادت وانفردت بالفعل الحضاري.
هكذا يتضح أن النسوية اتجاه ذو مراحل وطيف عريض ومتغيرات وبدائل شتى. وهي ككل الاتجاهات الفكرية الكبرى، إطار عام يضم فروعاً عديدة وروافد شتى، أوجه الاختلاف بينها كثيرة، لكنها تتفق جميعها على مساءلة البطريركية وقيمها بحثاً عن حقوق ووجود المرأة.
______
*ميدل إيست أونلاين

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *