الجيوب الخلفية لحروب المثقفين في مصر


*ممدوح فرّاج النَّابي

أثار قرار تعيين إسماعيل سراج الدين مدير مكتبة الإسكندرية، مُستشارًا لرئيس الحكومة إبراهيم محلب لشؤون الثقافة والعلوم والمتاحف موجةً مِن الاحتجاج بين المُثقفين والمهتمين بالشأن الثَّقافي على هذا التعيين في ضوء وجود وزير ثقافة بحجم جابر عصفور -على الأقل علميًّا- في الحكومة، لكن ما أبداه الروائي يوسف زيدان من اعتراض كان بمثابة الحجر الذي جدّد صراع/ جدلية العلاقة بين المثقف والسُّلطة التي حتى الآن ظلّت عصيّة على الفهم، فأصدر بيانًا معلنًا فيه اعتزاله وتعليق نشاطه الثقافي بكافة أشكاله الكتابية والشِّفاهية “المحاضرات والندوات والصالونات” كنوعٍ من الاحتجاج على هذا التعيين في سابقة لم تحدث من قبل.

جاء في البيان “الفيسبوكي” الذي نشره يوسف زيدان على صفحته الخاصة: “معروفٌ أن خلافًا جرى بيني وبين د. إسماعيل سراج الدين بسبب “مكتبة الإسكندرية” وليس لسببٍ شخصي”.
وأضاف زيدان: “معروفٌ أن الدكتور المذكور يُحاكم منذ ثلاثة أعوام بسبب أفعاله في المكتبة، ويديرها في الوقت ذاته! وكان قد أحيل إلى النيابة في 107 قضايا، جرى التصالح في بعضها، وذهب بعضها الآخر إلى المحكمة، وظلت الجلسات تؤجّل حتى كان التأجيل رقم 15 منذ أسبوع، إلى جلسة شهر ديسمبر المقبل، وهو في الوقت ذاته يدير المكتبة”.
وأكّد زيدان في بيانه: “لن أعود عن قراري، ما دام الدكتور إسماعيل سراج الدين باقيا في مكانه كمدير لـ”مكتبة الإسكندرية” (أو تعلن المحكمة براءته من القضايا التي يُحاكم فيها بسبب أعماله في المكتبة)”.
كما أنه أعلن بعد يومين استقالته من عضوية اتّحاد الكُتَّاب قائلاً في استقالته مُوجِّهًا خطابه لمحمد سلماوي رئيس الاتحاد “يؤسفني إبلاغكم باستقالتي من عضوية الاتّحاد بعد قرابة ثلاثين عاما من مشاركتي فيه كعضو عامل، منذ كنت في العشرين من عمري”.
وأضاف أنّ هذه الاستقالة تأتي لأسباب عدّة “منها ما يجري في الاتحاد في الفترة الأخيرة من مواقف تخرج به عن إطار المرجوّ منه، مثل شراء الاتحاد من ميزانيته الخاصة أسهما بملايين الجنيهات لصالح مشروع تطوير قناة السويس، والاعتراض هنا ليس على المشروع، بل على هذا الشروع في ما لا دخل للاتحاد به”. وهو الأمر الذي استلزم الاتحاد إصدار بيان لتوضيح بعض الأمور منها أن زيدان ذاته لا يواظب على دفع اشتراكاته، وهو الأمر الذي يستوجب فصله من الاتحاد كما ذكر بيان الاتحاد قائلًا له “معلوماتكم مغلوطة وبعيدة عن الحقيقة”.
نيران صديقة
لم تكن استقالة زيدان هي القشّة التي قسمتْ ظهر البعير، فمثلما كثيرون شاركوا زيدان تعاطفهم مع قراره في الاستقالة (البيان الفيسبوكي)، هناك كثيرون -في الجانب المقابل- سخروا من هذه الاستقالة باعتبار أن المُثقف لا يستقيل أو يتقاعد، فبقلمه يواجه خفافيش الظلام وما دام تخلّى عن دوره فهو يُعلن سلبيته وانهزاميته، العجيب أن هذه الاستقالة التي اعتبرها البعض نوعًا من الاستعراض أو بطولة من ورق، فتحت نيران جهنم على زيدان ذاته، فقد ذهبَ نَفَرٌ إلى التفتيش في الأوراق القديمة لزيدان، وبدأوا يعيدون التشهير بحكاية عزازيل وإعادة ترديد الأقوال السّابقة إبان حصدها جائزة البوكر العربيَّة في نسختها الثانية سنة 2009، بأنها مسروقة، على نحو ما فعل الكاتب المصري المهاجر رؤوف مسعد على حسابه الشّخصي الفيسبوك، مُفنِّدًا عورات الرِّواية التي كَتَبَ عنها جابر عصفور وزير الثقافة الحالي أربع مقالات في جريدة الحياة مُظهرًا جمالياتها وإشكالياتها ومرواغاتها، متسائلاً في استنكار:”لماذا تفوز عزازيل وهي لا تستحق الفوز؟ في بنيوية جائزة البوكر العربية!” ورغم أن ما كتبه يُعدّ مراجعة أو مساءلة للجائزة وأعضاء لجنة التحكيم، باحثًا عن سبب وجود الجائزة في هذا التوقيت وغيرها من الأسئلة، التي ينفد منها إلى غرضه بنقد رواية زيدان التي يراها أنها لا تستحق هذه الجائزة.
ربما الأمر الإيجابي الوحيد في استقالة زيدان، أنَّها كشفت عن تراجع حقيقي في دور المثقفين، منذ أن توقفت أقلام كثيرة عن الكتابة من قبل كعلاء الأسواني، وعزالدين شكري، وبلال فضل (بعد منع مقالاته في الشروق)، أو برامج مثل برنامج “البرنامج” لباسم يوسف، وهو ما علّق عليه أسامة فاروق في مقالته في المدن بأن ما مفاده أن “الرسالة لم تصل” وإن كان يقصد بطبيعة الحال رسالة زيدان، إلا أنّه يمكن تعميم الطرح بعدم وصول الرِّسالة من الجميع.
عندما انسحب عزالدين شكري عن الكتابة وجد مبرره في تساؤله الذي أنهى به مقالته “هيستريا” التي نشرها في جريدة المصري اليوم: “أليس الصمت وسط الهستيريا أكرم؟ ليس سؤالي هذا يأساً ولا انسحاباً، وإنما بحث حقيقي عن إجابة!” أما في حالة زيدان فكانت الاستقالة. نوعًا من البحث عن بطولة ورقيّة بعد أن أدرك خسارته المعركة مع سراج الدين التي بدأت مُبكِّرًا ومازالتْ تنتظر أحكام القضاء، لكن فيما يبدو أن قرار رئيس الحكومة حسم المعركة لصالح سراج الدين، وهو ما اعتبره زيدان خسارة فادحة له، رغم إعلانه أسباب أخرى لهذا الانسحاب، وارى بها هزيمته، وإن كانت خسارته الكبرى تَكْمُن في إدراكه “أنّه يَقِف عاجزاً أمام ما يمثّله سراج الدين، الوجه الحقيقي لنظام حسني مبارك” كما ذكر أسامة فاروق في مقالته.
ذكرى قديمة
لم يكن تعيين سراج الدين فتح معركة بينه وبين زيدان وفقط، بل فَتَحَ ـ أيضًا ـ معركة جانبية ـ لم يكن وقتها الآن ـ بين رئيس الحكومة محلب والمثقفين الذين رأوا أن هذا التعيين بمثابة كارثة خاصة في ظل حجم القضايا المرفوعة أمام المحاكم ضد سراج الدين من قضايا الفساد، وإهدار المال العام، والكسب غير المشروع كما ذكرت عبلة الرويني في عمودها “نهار” في جريدة الأخبار بالإضافة إلى تجاهل رئيس الحكومة كافة الأسئلة المثارة حول سراج الدين كأمين صندوق (حركة سوزان مبارك للسلام) ومدير (معهد دراسات السلام) في جنيف، وقيامه بعمليات نقل الأموال، وتلقي التبرعات دون رقابة.
وفي ضوء هذه الحقائق التي لا نعلم هل غضّ عنها رئيس الحكومة الطرف أو لا يعلمها؟ هدّد بعض المثقفين خاصّة في ظل احتمالية أن يكون هذا المنصب تمهيدًا للإتيان بسراج الدين وزيرًا للثقافة، في ظلِّ حالة الصّمت الذي يبديه وزير الثقافة الحالي مِن تواجد سراج على رأس القرار بجانب رئيس الوزراء، وفي حال خطوة تعيينه وزيرًا كما ذكر يسري حسان بمقالته في المساء “مستشار محلب المستفز” “فعليه أن ينسى. وقبل أن ينسى عليه أن يتذكر ثورة المثقفين ضدّ وزير ثقافة الإخوان واعتصامهم في مكتبه ـ كنت (أي يسري حسّان) واحداً من المعتصمين ـ الذي كان الشرارة الأولي لثورة الثلاثين من يونيو هذه المرة ـ لو حدث يعني ـ سيكون الاعتصام بالآلاف وليس المئات لأن الناس مخنوقة فعلاً ومش ناقصةْ!”.
هكذا بين ليلة وضحاها صار قرار رئيس الحكومة بمثابة صداع له، بعدما أبدت أطراف عِدّة في الوسط الثقافي امتعاضها مِن الشَّخص الذي وقع عليه الاختيار، ومن زاوية أخرى كشف هذا القرار وجها آخر من وجوه علاقة السلطة بالمثقف، التي يتمثلها قول معاوية لأبي بكر بن عبدالرحمن ابن الحارث – ورآه لا يلي له عملاً، ولم يقبل منه نائلاً – : “يا ابن أخي، هي الدنيا، فإما أن ترضع معنا، وإما أن ترتدع عنا”. فهل تسفر الأيام القادمة عن انتصار جديد يحسب للمثقفين أم ستصبّ النار على الزيت بتجاهل أُولي الأمر لاعتراضات المثقفين على التعيين؟! خاصّة أن سراج الدين أبدى قبوله المنصب بدون أجر، إثر عودته من رحلته الخارجيّة؟
____
*العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *