ميلان كونديرا‮: ‬ أحلم بعالم‮ ‬يحتفظ فيه الكتاب بهوياتهم سراً


*فلورنس نوافى ترجمة‮ :‬‮ ‬أحمد عثمان
منذ البداية،‮ ‬تنبيه‮:”‬هذا ليس بحوار مع ميلان كونديرا بالمعني المألوف للكلمة‮. ‬إنه‮ “‬حوار مع نتاجه‮”. ‬ببساطة‮: ‬يتعلق الأمر بمساءلة كتبه،‮ ‬رواياته،‮ ‬مقالاته‮.‬
‮ ‬منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما،‮ ‬ومؤلف‮ “‬كائن لا تحتمل خفته‮” ‬يبتعد عن الحوارات الصحافية‮. ‬في عام‮ ‬1986،‮ ‬يكتب في‮ “‬فن الرواية‮”: “‬قررت بحزم‮: ‬لا حوارات صحافية أبدا‮”. ‬ليس خوفا من انتحال كلامي،‮ ‬وانما ربما علي وجه الخصوص،‮ ‬كما قال ايزاك سنجر‮ “‬للنتاج فقط أهميته،‮ ‬وليس الرجل‮. ‬حينما نجوع،‮ ‬نسخر جيدا من حياة الخباز‮”.‬
‮ ‬فقط للنتاج أهميته،‮ ‬وكل الأجوبة علي التساؤلات المتعددة متوفرة في الكتب،‮ ‬هكذا ردد كونديرا كثيرا‮ ‬هذا الكلام،‮ ‬علي مدار سنوات من النقاشات المتبادلة‮.‬
‮ ‬هل صدور جزءين من أعماله الكاملة عن سلسلة‮ “‬البلياد‮” ‬الفرنسية الشهيرة،‮ ‬والمكرسة‮ “‬لأموات‮” ‬الكتاب عن أحيائهم،‮ ‬مناسبة مثالية للمساءلة؟ كونديرا الاستثناء انضم الي اللعبة،‮ ‬بل الي‮ “‬الكوكبة‮”. ‬وكان اختيار الموضوعات،‮ ‬الكلمات-المفاتيح،‮ ‬اختياره‮. ‬
‮ ‬عن كل سؤال،‮ ‬يجيب بجمل من‮ “‬فن الرواية‮”‬،‮ “‬الوصايا المغدورة‮”‬،‮ “‬الحياة في مكان آخر‮”‬،‮ ‬وغيرها‮.‬
‮ ‬بالتالي،‮ ‬النتاج يتكلم‮.‬

‮*‬لنبدأ بسؤال بسيط‮: ‬لماذا تبغض‮ “‬البيوجرافيا‮” ‬؟ لماذا تنفر من الكلام عن نفسك؟

‮- ‬على الفنان أن يعتقد بالمستقبل الذي لم يعشه،‮ ‬كما قال فلوبير‮. ‬منع موباسان أن يصدر بورترهاً‮ ‬مكتوبا عنه في سلسلة مكرسة للمشهورين من الكتاب‮: “‬الحياة الخاصة للانسان وصورته لا تنتميان الي الجمهور‮”. ‬كما كتب هرمان بروخ عن نفسه،‮ ‬عن روبرت موزيل،‮ ‬عن فرانتس كافكا‮:”‬ليست هناك بيوجرافيا حقيقية عن ثلاثتنا‮”. ‬مما يعني أن حياتهم كانت فقيرة في أحداثها،‮ ‬بيد أنها‮ ‬غير منذورة لكي تكون مميزة،‮ ‬جماهيرية،‮ ‬حتي تكون بيوغرافيا‮. ‬وفوكنر يتمني من ناحيته أن يكون‮ “‬علي اعتبار أنه رجل مفسوخ،‮ ‬محذوف من التاريخ،‮ ‬لا يترك أثرا خلفه،‮ ‬لا شئ سوي الكتب المطبوعة‮”. (‬نذكر الكتب والأعمال المطبوعة،‮ ‬وليس المخطوطات‮ ‬غير الكاملة،‮ ‬الرسائل،‮ ‬اليوميات‮”. ‬حسب استعارة شهيرة،‮ ‬يهدم الروائي بيت حياته لكي يبني بيتا آخر بالآجر،‮ ‬بيت روايته‮. ‬ينتج أن بيوجرافيا الروائي تحطم ما حققه الروائي،‮ ‬تعيد بناء ما خربه‮. ‬لا يضئ عملها،‮ ‬السلبي من وجهة نظر الفن‮. ‬في اللحظة التي جذب كافكا الانتباه عن جوزيف ك،‮ ‬تم الإعلان عن سيرورة موت كافكا‮. (‬عن‮: ‬فن الرواية‮).‬


*ما الذي يجب عمله لكي نتحاشي كشف بيوجرافيا الكُتاب،‮ ‬تدريجيا،‮ ‬عن نتاجهم ؟

‮- ‬أحلم بعالم يصبح فيه الكتاب مجبرين علي الاحتفاظ سرا بهويتهم وأن يخفوا أسماءهم بأسماء مستعارة‮. ‬ثلاث مزايا‮: ‬التحديد الجذري لهوس الكتابة،‮ ‬تقليل حدة العدوانية في الكتابة الأدبية،‮ ‬اختفاء التأويل البيوجرافي للنتاج‮. (‬عن‮ : ‬فن الرواية‮).‬
*بخصوص هوس الكتابة،‮ ‬لديك تعريف شخصي عنه‮.‬

‮- ‬هوس الكتابة ليس هوس كتابة الرسائل،‮ ‬اليوميات،‮ ‬المختارات العائلية‮ (‬أي الكتابة لأجل الذات أو المقربين‮)‬،‮ ‬وانما كتابة الكتب‮ (‬وبالتالي امتلاكه لجمهور من القراء المجهولين‮). ‬ليس الخوف من تكوين شكل ما وانما فرض الذات علي الآخرين‮. ‬أنها الترجمة المضحكة للغاية عن ارادة القدرة‮. (‬عن‮ : ‬فن الرواية‮).‬

* ‬اذا كنت تحتقر كثيرا الحوارات،‮ ‬فهذا لأنه يتم‮ “‬اعادة كتابتها‮”‬،‮ ‬كما يقال‮. ‬الي أي مدي تعتبر هذه الممارسة خطيرة ؟
‮- ‬مقابلات،‮ ‬حوارات،‮ ‬أحاديث‮. ‬اعداد،‮ ‬تدوين،‮ ‬سينمائي،‮ ‬تليفزيوني‮. ‬إعادة الكتابة روح العصر‮. ‬ذات يوم ستتم إعادة كتابة الثقافة الماضوية كليا وستنسي خلف عملية اعادة كتابتها‮. (‬عن‮ : ‬فن الرواية‮).‬
*طوال حياتك مارست‮ “‬فن الرواية‮”. ‬ومع ذلك في‮ “‬الوصايا المغدورة‮” ‬كتبت أن الرواية‮ “‬نوع أدبي‮” ‬بسيط‮. ‬بعمق،‮ ‬ماذا يعني أن تكون روائيا؟
‮- ‬أن أكون روائيا يعني أكثر من ممارسة نوع أدبي،‮ ‬إنها ممارسة،‮ ‬حكمة،‮ ‬حالة تستبعد أي تماهي مع السياسة،‮ ‬مع الدين،‮ ‬مع الايديولوجيا،‮ ‬مع الأخلاق،‮ ‬النزعة الجماعية،‮ ‬إنها لا تماهي واع،‮ ‬عنيد،‮ ‬حانق،‮ ‬يلاحظ كمقاومة وتحد وتمرد،‮ ‬وليس كهروب أو سلبية‮. (‬عن‮: ‬الوصايا المغدورة‮).‬
*‬هل تستطيع أن تعطينا مثالًا؟
‮- ‬انتهيت من هذه الحوارات الغريبة‮: “‬هل أنت شيوعي،‮ ‬يا سيد كونديرا ؟‮” “‬لا،‮ ‬أنا روائي‮”. “‬هل أنت منشق؟‮”. “‬لا،‮ ‬أنا روائي‮”. “‬هل تنتمي الي اليسار أو الي اليمين؟‮”. “‬لا هذا ولا ذاك‮. ‬أنا روائي‮”. (‬عن‮ : ‬الوصايا المغدورة‮).‬
*عنصر بيوجرافي،‮ ‬عنصر واحد‮. ‬ولدت في عام‮ ‬1929‮ ‬ببرنو،‮ ‬أي في العصر التشيكوسلوفاكي‮. ‬ما الذي يستدعيه اسم‮ “‬تشيكوسلوفاكيا”؟
‮- ‬لا أستعمل أبدا اسم تشيكوسلوفاكيا في رواياتي،‮ ‬في حين أن الفعل قائم أساسا‮. ‬هذا الاسم المركب،‮ ‬ولد في عام‮ ‬1918،‮ ‬بدون أي جذور عبر الزمن،‮ ‬بدون جمال،‮ ‬واغتال الخاصية المركبة والشابة‮ (‬التي يتم اثباتها عبر الزمن‮) ‬للشئ المعين‮. ‬اذا استطعنا أن نؤسس بصرامة دولة باسم راسخ الي حد ضعيف،‮ ‬لا يمكن أن نكتب رواية عنها‮. ‬ولذلك أستعمل دائما اسم بوهيميا القديم،‮ ‬للاشارة الي بلد شخصياتي‮. ‬من وجهة نظر الجغرافيا السياسية،‮ ‬ليس هذا بالأمر الدقيق‮ (‬في الغالب،‮ ‬يقاوم مترجميني‮)‬،‮ ‬ولكن من وجهة نظر الشعر،‮ ‬هو ذا التعيين الممكن الوحيد‮. (‬عن‮ : ‬فن الرواية‮).‬
*لنمكث قليلا مع الجغرافيا والثقافة‮. ‬ما هي رؤيتك عن أوروبا ؟
‮- ‬في العصور الوسطي،‮ ‬كانت الوحدة الأوروبية تستند علي الدين المشترك‮. ‬في العصر الحديث،‮ ‬تخلي عن مكانه للثقافة‮ (‬الفن،‮ ‬الأدب،‮ ‬الفلسفة‮)‬،‮ ‬التي أصبحت تحقيق القيم السامية التي بواسطتها يتعارف الأوروبيون،‮ ‬ويعرفون أنفسهم‮. ‬ومع ذلك،‮ ‬اليوم،‮ ‬تتخلي الثقافة عن مكانها‮. ‬ولكن لماذا ولمن؟ ما المكان الذي يمكن أن تتحقق فيه القيم السامية،‮ ‬القادرة علي توحيد أوروبا؟ الاستغلال التقني؟ السوق؟ السياسة المطعمة بمثالية الديموقراطية،‮ ‬ومبدأ التسامح؟ ولكن هذا التسامح،‮ ‬اذا لم يصن أي ابداع ثري ولا أي فكر قوي،‮ ‬ألا يصبح فارغا وعديم الجدوي؟ أو بالأحري،‮ ‬هل يمكن أن نفهم تخلي الثقافة عن مكانها كشئ من الخلاص الواجب الاستسلام له بكل‮ ‬غبطة ؟ لا أعرف‮. ‬فقط أعتقد أن القافة تخلت عن مكانها‮. ‬وهكذا ابتعدت صورة الهوية الأوروبية عن الماضي‮. ‬أن يكون المرء أوروبيا‮ : ‬أي أنه يحتفظ بنوستالجيا أوروبا في دواخله‮. (‬عن‮: ‬فن الرواية‮).‬
*‬في هذه الطبعة من‮ “‬البلياد‮”‬،‮ ‬هناك قاموسك الشخصي‮. ‬أي ما أطلقت عليه الكلمات-المفاتيح،‮ ‬الكلمات-المشاكل،‮ ‬الكلمات-الحب‮. ‬ومن بين هذه الكلمات‮ : “‬Infantocratie”. وبالتالي،‮ ‬ماذا تعني هذه الكلمة؟
‮- ‬جدية الطفل،‮ ‬وجه العصر التقني‮. ‬هذه الكلمة تعني مثالية الطفولة المفروضة علي الانسانية‮. (‬عن‮ : ‬فن الرواية‮).‬
*‬وكذا في فصل حرف‮ “‬I”،‮ ‬هناك كلمة مهمة في عالمك‮: “‬سخرية‮” (‬Ironie). ،‮ ‬كما تقول،‮ “‬تكشف عن العالم كما عن الغموض‮”.‬

‮- ‬من لديه الحق ومن لا يملكه؟ هل تعتبر ايمي بوفاري‮ ‬غير محتملة؟ أو شجاعة وتثير العطف؟ وفرتر؟ حساس ونبيل؟ أو عاطفي حاد المزاج،‮ ‬عاشق لذاته؟ كلما قرأنا الرواية بانتباه،‮ ‬كلما أصبحت الإجابة مستحيلة لأن‮ – ‬بالتعريف‮ – ‬الرواية فن ساخر‮: ‬حقيقتها مختفية،‮ ‬غير ملفوظة،‮ ‬غير ظاهرة‮. “‬لتتذكر،‮ ‬رازوموف،‮ ‬أن النساء والأطفال والثوريين مارسوا السخرية،‮ ‬رفض بكل الغرائز الكريمة،‮ ‬بكل المعتقدات،‮ ‬بكل الإخلاص،‮ ‬بكل الأفعال‮”‬،‮ ‬كما قال جوزيف كونراد لأحد الثوريين الروس في‮ “‬تحت عيني الغرب‮”‬،‮ ‬السخرية تغضب‮. ‬وليس أنها تهزأ أو تنقد وانما لأنها تحرمنا من الثقة بكشفها عن العالم كما عن الغموض‮” (‬عن‮ : ‬فن الرواية‮).‬

*‬لديك كلمة محورية أخري‮ “‬كيتش‮”.‬
‮- ‬حينما كتبت‮ “‬كائن لا تحتمل خفته‮”‬،‮ ‬كنت قلقا من أن تؤخذ الكلمة‮ “‬كيتش‮” ‬ككلمة-مفتاح الرواية‮. ‬في الواقع،‮ ‬آنئذ،‮ ‬كانت الكلمة مجهولة نوعا ما في فرنسا،‮ ‬أو بالأحري معروفة بمعني بائس‮. ‬في الترجمة الفرنسية لبحث هرمان بروخ الشهير،‮ ‬ترجمت الكلمة‮ “‬كيتش‮” ‬علي اعتبار أنها تعني‮ “‬فن البضائع المشحونة مجانا‮”. ‬تفسير خاطئ،‮ ‬لأن بروخ بين أن الكيتش شئ آخر مثل نتاج بسيط ذي ذوق متواضع‮. ‬هناك العادة‮ “‬كيتش‮”. ‬حاجة الكيتش لدي انسان الكيتش‮: ‬أنها الحاجة الي النظر في مرآة الكذب المجمل ومعرفته برضي منفعل‮. (‬عن‮ : ‬فن الرواية‮).‬
*وشيخوخة ميلان كونديرا ؟ في‮ “‬الحياة في مكان آخر‮”‬،‮ ‬تخيلت عالما عجوزا يلاحظ الشباب ويكتشف مظهرا طارئا ومقويا للشيخوخة‮. ‬هل تتذكر هذه الفقرة ؟
‮- “‬لاحظ العالم العجوز الشباب الصاخبين وفهم فجأة أنه الوحيد في الصالة الذي يتمتع بمزية الحرية،‮ ‬لأنه عجوز‮”. “‬فقط،‮ ‬حينما يكون المرء عجوزا،‮ ‬يستطيع أن يتجاهل رأي القطيع،‮ ‬رأي الجمهور والمستقبل‮. ‬أنه وحيد صحبة موته المستقبلي،‮ ‬والموت ليس له عينان ولا أذنان،‮ ‬ليس في حاجة لكي يثير اعجابه،‮ ‬من الممكن أن يفعل ويقول كل ما يريد أن يفعله ويقوله لنفسه‮”. ‬رامبراندت وبيكاسو‮. ‬بروكنر ويانيك‮. ‬باخ في‮ ‬فن الاختفاء‮. (‬عن‮ : ‬الحياة في مكان آخر‮).‬
_____
*أخبار الأدب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *