د.فيصل غرايبة*
(ثقافات)
قبل أن يعرض الأستاذ الدكتور عبدالعزيز أبو نبعة في كتابه في عمان حديثا، نظرية في ينابيع الابداع، يضع في أول كتابه بسيط المظهر بليغ الرسالة،أهداء الى كل من تحركت انامله لتعمل لا لتعبث،والى كل من راقبت عيناه ما تفعله يداه،والى كل من جعل من بصيرته رقيبا على بصره،ويفضي بعدها الى الحديث عن نظريته التي ترى أن للابداع قواعد وأصول،اذا اتبعناها فسوف تقودنا الى الوصول اليه،اذ لم يعد الابداع موهبة فقط،وانما أصبح صناعة وعلما نحتاج الى التعرف عليه،حتى يتخرج من بين صفوفنا المبدعون القادرون على النهوض بمجتمعاتنا،وتصل الى حالة من التقدم والرفاهية.
ولما كان عبد العزيز ابو نبعة أميل الى العزلة، قليل اللعب في المرحلة الاعدادية من تعليمه، فقد دفعه اعتزاله الى القراءة والاطلاع، وصاريتمكن –آنذاك- من انهاء قراءة كتاب في كل أسبوع،وهكذا قرأ مئات القصص لمختلف الأدباء العرب ومعظم الأدباء العالميين،وفي تلك المرحلة المبكرة من العمر تشكلت لديه ثقافة عميقة،وطموحا كبيرا بأن يصبح أديبا مرموقا. الأمر الذي قاده لكي يبلور أول مبدأ من مبادىء الابداع وبناء الشخصية، ألا وهو”القراءة والاطلاع”.أما المبدأ الثاني للأبداع الذي قادته اليه التجربة والممارسة،فهو “الحافز الداخلي أو قوة الرغبة للبحث عن التميز والانجاز”.ولا يخفي بعد ذلك اقراره المبدأ الثالث للأبداع، الذي تمثل ب “الارادة الحديدية لتحقيق الهدف ولا عمر لانجاز الابداع”،اذ ثبت له أن قوة الرغبة مصحوبة بقوة الارادة تصنع العجب.ويكشف في المبدأ التالي أي المبدأ الرابع،عن أن “الحب لما نعمل أو نتعلم حبا غير عادي يصل الى أعلى درجات العشق”، يشكل شرطا من شروط الابداع،أما المبدأ الخامس للأبداع،فهو”الحرية المسؤولة”، اي لا تنطوي على تسيب أو اهمال أو احتكار.الى أن يبلور المبدأ الخامس والأخير،وهو الذي يعطي الأهمية القصوى، لكي “يكون عملنا دائما خالصا لوجه الله تعالى فهو المكافيء الحقيقي”، وعنده – سبحانه وتعالى – “العدالة المطلقة” ويستشهد هنا بقول الشاعر:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
الى أن يختم عرضه بالتنبيه الى اننا اذا أردنا للمواهب أن تبرز وتستمر في العطاء،لا بد من تقوى الله واصلاح أمور دنيانا،وأن تكون كل حياتنا في مختلف جوانبها،وفي كل مؤسساتنا ومدارسنا وشركاتنا وجامعاتنا،مليئة بالمسابقات والجوائز والمكافآت والتقدير لاظهار هذه المواهب،والعمل على تشجيعها،حتى يستمر اصحابها في العطاء والانجاز.
ويأخذ أبونبعة بعرض نماذج الابداع التي ابتدعها،ليقدم نموذج الابداع الأول على النحو التالي:
الرغبة 1× الارادة 1 = النجاح 1
الرغبة 2× الارادة 2 = التفوق 2
الرغبة 3× الارادة 3 = التميز 3
الرغبة × الارادة = العبقرية.
ويدلل على هذا النموذج بالجزء الأول من ابداعه، وهو المتمثل بالمجموعة الشعرية التي نظمها،والتي تدلل بدورها على أن الحب نبع الشعر،ويرسخ القناعة بأن الحب هو الينبوع الأزلي للابداع، وملهم الشعر والشعراء،وصانع الأدباء،وينوه بحصوله على جائزة لابداعه الشعري،وهو ما يزال على مقاعد الدراسة الثانوية، ويختار بعض تلك القصائد،مثل:يا قلب عذبتني،ووبكيت دما، وعذاب طال مداه،و ليلى،ويا نجمة، وعناوينها تدل على أنها قصائد غزلية.
أما المجموعة الثانية فهي المجموعة القصصية التي تضم قصصا كتبها في مرحلة سابقة من حياته،في المرحلتين الثانوية والجامعية من تعليمه، وعلى اعتبار أن القراءة نبع القصة. فالقراءة تلك الكلمة السحرية التي تصنع الابداع والمعجزات،وقد كان في تلك الاثناء قارئا لمئات القصص من غالبية الأدباء العالميين،والتي تدور دائما حول الحب،كقصص ديكنز من بريطانيا،وهمنجواي من أمريكا، وبلزاك من فرنسا،وديستوفكسي وتولستوي من روسيا،وبيرل بك من الصين، ومعظم الأدباء العرب المعروفين مثل طه حسين ونجيب محفوظ واحسان عبد القدوس وتوفيق الحكيم ويحيي حقي ومحمدعبد الحليم عبدالله،وعباس محمود العقاد،وآخرون من مصر،وغالب هلسه وفخري قعوار ومؤنس الرزاز وآخرون من الأردن،ولما كانت معظم قراءاته في القصة،فقد عرف ابو نبعة كلمة الحب بكل معانيها،والتي وجدها انها أكبر من مفهومها الضيق لمعظم الناس،وهوالحب بين الذكر والأنثى. اذ أن للحب الوان وأشكال متعددة،وهي التي تصنع الابداع والمبدعين، مدللا على ذلك، أنه اذا لم يكن الطالب يحب عمله فكيف يتفوق فيه؟ واذا لم يكن الموظف يحب شركته أو مؤسسته فكيف سيكون مستوى انتاجيته؟… وهكذا .. الى أن يخاطب القراء والناس،ويدعوهم الى ان يزرعوا الحب في كل مكان،في أطفالهم،في جامعاتهم،في شركاتهم ومؤسساتهم،وفي بيوتهم لكي تلحق امتهم بركب الأمم المتقدمة.
ويورد في هذ السياق قصة “الفلاح الصغير” التي كتبها وهو في المرحلة الثانوية، وقد اذيعت في 31/3/1961 عبر أثير اذاعة المملكة الأردنية الهاشمية،وأجمع النقاد في حينها ومن خلال البرنامج الاذاعي أنها تؤشر الى موهبة جديدة في كتابة القصة القصيرة.و كانت هذه القصة من بين أربعة قصص تقدم المؤلف بها لنيل جائزة القصة القصيرة في جامعة القاهرة،في السنة الجامعية الأولى،ونالها بالفعل عندما كان يدرس في تلك الجامعة.
اما قصته الثانية “أأحبها”،فقد كتبها في السنة الجامعية الثانية، وهي أحب القصص اليه كما يشير،وقد كتب القاص المصري المعروف يحيي حقي،الذي قام بتحكيمها،على حاشيتها يقول:لقد رشحتها لجائزة كأس المرتبة الأولى في القصة القصيرة، لأن بها أسلوب ذاتي،وهو بعنى أن كاتبها أصبح لديه طريقته الخاصه في التعبير،لا يقلد فيها أحدا،وانه قد خرج من عباءة كتاب القصص الذين قرأ لهم.
فازت قصته الثالثة”منتهى الشقاء” هذه بجائزة الميدالية الذهبية للقصة القصيرة في جامعة القاهرة،وفي السنة الجامعية الثالثة من دراسته فيها،رغم ان اسمها يبعث على الحزن،وربما من الأحزان يخرج أعذب الشعر وأرقه،ويخرج في القصة أكثرها تأثيرا في المشاعر،ويقول في ذلك: فمن الألم يقوم المحار باخراج اللؤلؤ.
اما قصته الرابعة “غلطة واحدة”،فقد فازت بجائزة الميدالية البرونزية في السنة الجامعية الرابعة،وهي أقل جائزة حصل عليها في القصة القصيرة،ويعلل ذلك بأنها كانت سنة التخرج،عندما قرأ اعلانا بأن الجامعة الأردنية تطلب تعيين معيدين، يكونوا حاصلين على تقدير جيدا جدا مع مرتبة الشرف، مما حداه الى الانصراف الى الدراسة الجادة في تخصصه كامل الوقت.
التحق هذا المبدع الذي نتحدث عنه،ونطالع كتابه عن الابداع، بالعمل حال تخرجه من المرحلة الجامعية الأولى، رغم تفوقه المتميز بتلك المرحلة، وحصوله على بكالوريوس الادارة بتقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف الثانية، وعندما كانت الفرص الوظيفية شحيحة،ليقوم بتدريس الرياضيات في مدرسة قرية نائبة في المملكة العربية السعودية،وفي أيامها لم يكن التلفاز ووسائل الاتصال الحديثة متوفرة كما في مثل هذه الأيام، وحدث أن غاب مدرس الفنون الجميلة،فكلف بتدريس هذا الموضوع،وهو لا يعرف عن الرسم شيئا،فصار يتمرن على الرسم ليلا،ليتمكن من تدريسه للطلاب صباحا ولمدة ستة شهور، الى أن جاء مدرس مصري الجنسية،يحمل ماجستير فنون جميلة من جامعة القاهرة،الذي رغب أن يرسم لوحة يهديها الى سلفه،فطلب هذا السلف منه أن يشاهده وهو يرسم،ومن هناك تكونت لدى هذا المبدع الرغبة والارادة في هذا الفن،ثم انطلق يمارس الرسم الزيتي ليل نهار حتى اتقنه تماما،وهجر فيها كتابة القصة الى الأبد،عندما لمس أن أغلب الناس لا تحب المطالعة،أما اللوحة الزيتية فلا تحتاج لأكثر من نظرة واحدة حتى يبدي المرء اعجابه وارتياحه لما شاهده.
تكونت لدى المبدع “ابونبعة” مجموعة كبيرة من الفن التشكيلي بنوعيه الكلاسيكي والتجريدي،مما حداه الى أن يعرضها في كل من جامعة اليرموك في اربد وجامعة الاسراء في عمان وجامعة الزيتونه في عمان وكذلك في كلية الأمير سلطان للسياحة في أبها في السعودية.وقد لاقت لوحاته استحسانا كبيرا من أحد اساتذة كلية الفنون الجميلة في جامعة شمال ولاية تكساس الحكومية،حتى أنه عرض عليه الالتحاق ببرنامج الماجستير في الفنون الجميلة بدون الحصول على البكالوريوس في هذا المجال،اذ اعتبرها معادلة لذلك،لكنه فضل الاستمرار بالدراسة في مجال تخصص الادارة والتسويق، للحصول على الدكتوراه فيه.
في وقت لاحق أقام هذا الأكاديمي المبدع معرضا لانتاجه،وهو استاذ بكلية ادارة الأعمال في جامعة اليرموك،وعندما افتتح رئيس الجامعة د.علي محافظة المعرض قال له مازحا:نريد أن ننقلك الى قسم الفنون الجميلة. وقد نشر في الكتاب الذي نتناوله مجموعة لوحات من الفن الكلاسيكي،منها لوحة منزل والد المؤلف في قريته شمال فلسطين ولوحات أخرى تدل عليها عناوينها مثل:الغروب،ونظرة الى المستقبل،والاطلالة،والأسرة،والبادية،والقرية،والفتاة.ومجموعة أخرى من اللوحات التجريدية،كان من عناوينها:الجمال،والحياة والموت،والصراع،والفارس،والعلوم،والأحلام.وثمة مجموعة ثالثة من لوحات الورد، ركزت على دورة الحياة والشروق والغروب والأفراح والألعاب النارية والربيع وليالي الصيف. ومن بين ما ورد في تعليقات المشاهدين للمعرض الفني العبارات الجميلة التالية:انه جهد جميل يعبر عن حس مرهف،المعرض جميل ومعبر جدا والصور جميلة وألوانها جذابة،ادركنا ما أردتم التعبيرعنه خلال لوحاتكم البسيطة بأفكارها والكبيرة بمعناها.وجاء أيضا:ان الجهود لمباركة تلك التي تبذلها من أجل تعميق رؤى الآخرين بهذا الفن الرفيع،والذي ان دل فانما يدل على عمق التفكير وانبلاج الضوء من أعماق النفس لكي ينعكس على وجه الآخرين في شكل ابتسامة، هذا ليس مهما ما دام ان الفن هو خلق الأشياء الممتعة،ذهنيا ونفسيا وعقليا،انه لشيء نتمناه من كل أستاذ لكي يتعامل مع طلبته بصور أخرى غير كونه استاذا أكاديميا.وكتب المشاهدون ايضا يخاطبونه:رسوماتك تعبر عن أرائك المنطقية،بل حاولت اظهارها الى جانب كل الجهود والألتزامات والواجبات التي عليك، تعكس آراءك العلمية والدينية وتعكس رسالتك التي تقدمها الى طلابك،حينما تتسع دائرة الرؤيا تصبح الكلمات عاجزة عن التعبير، ويكون الصمت لوحة تستمر عليها صور الحقيقة العارية بطريقة لا منطقية.
يخاطب المؤلف قراءه في الختام قائلا:أدركتم المغزى أو الرسالة التي اود ايصالها،وهي أن الابداع ممكن وليس مستحيلا،اذا توافرت (الرغبة بلا حدود)،و(الارادة بلا حدود)،و(الاطلاع بلا حدود)،هذا هو (ثالوث الابداع) لمن أراد أن يكون له مكان تحت الشمس،وأن يضيف الى الحياة لا أن يكون رقما زائدا عليها.
وهذا هو عبد العزيز ابونبعة الذي يحمل درجة الدكتوراه في ادارة الأعمال(تخصص تسويق دولي) مع درجة الشرف من جامعة ولاية تكساس الأمريكية، والذي انجز اربعين بحثا علميا محكما نشرت في مجلات علمية متخصصة،وألف عشرة كتب علمية، ونظم ثلاثين دورة تدريبية في الأردن والسعودية والأمارات المتحدة وقبرص، وقدم عشرين استشارة تسويقية وادارية لشركات وبنوك وجامعات، وقام بتحكيم خمسة وثلاثين بحثا وكتابا لمختلف الجامعات الأردنية.واللافت ان هذا المبدع الجاد وضع على الغلاف الأخير للكتاب عبارة: “الكتاب غير مخصص للبيع”، واعقب تلك العبارة فقرة عن الدرس المستفاد من جهوده جاء فيها: يظن كثير من الناس أن الابداع (موهبة) فقط او (ذكاء) فقط، بينما أن الابداع في الحقيقة (صناعة) أيضا، يمكن الحصول عليه من خلال (التوجيه الصحيح) و(التدريب الفعال) و(التعليم السليم). وايمانا منه بذلك قرر ألف هذا الكتاب،ووضع فيه خلاصة تجربته مع الابداع، فهو ليس خارق الذكاء أو الموهبة- كما يقول عن نفسه- ولكن لديه ارادة قوية ورغبة ملحة في انجاز ما يريد تحقيقه، وهذا ما أوصله- كما رأى- الى ما هو عليه الآن.ويفصح عن أنه قرأ سيرة حياة العديد من العباقرة فوجد أنهم لا يتمتعون بالذكاء ولكن بالارادة الحديدية التي لا تعرف المستحيل، ولديهم حب لعملهم بلا حدود،وهذا ما أوصلهم الى انتاجيتهم الفذة.
* كاتب وأكاديمي من الأردن