أين أنت يا كتاب الجيب؟


*إبراهيم اليوسف

باتت كتب الجيب تحتل جزءاً لا بأس به من مكتباتنا البيتية، بل وحتى العامة منها، في آن، فيما إذا كنا من متعاطي القراءة، أو مدمنيها، أو المواظبين عليها، خارج ما هو محفوظ في بطون الكتب المنهجية، أو الرسمية، نعود إليها، نستفيد منها، نلتقطها من الأرفف، بعدأن نختار ما يناسبنا من عناوينها، أو بعد بعض من البحث عنها، نركنها جانباً إلى جانب الحاجات الشخصية التي نحملها، كما البطاقة الشخصية، أو جواز السفر، أو محفظة النقود، أو الهاتف، أو رزمة الأوراق الرسمية، أو النظارات، بالنسبة إلى مستخدميها، أو مفاتيح البيت، بل وربما كما علبة الدخان، بالنسبة للمدخن، أو علبة الدواء، ننكب على قراءتها، في أي وقت فراغ، خارج البيت، بل وتصبح هذه الكتب ضرورية عندما ننتقل من مكان إلى آخر، ليكون هذا الكتاب رفيق السفر .

لا يمكن تحديد تاريخ ولادة فكرة كتب الجيب، حيث نحن هنا أمام معلومات متناقضة، إذ هناك من يرجح أنها ولدت في القرن التاسع عشر، مقابل آخرين، وجدوا أنها كانت منتشرة في القرن الثامن عشر، بيد أن الانتشار الواسع لها، لم يتم إلا في ثلاثينات القرن العشرين، وتم الإقبال عليها، من قبل جمهرات قرائها، في قارات العالم كلها، أنى وجد هناك إقبال على القراءة ما دامت تتمتع بمزايا فريدة .
استطاعت كتب الجيب، أن تلفت الأنظار إليها، على نحو واسع، منذ أن لوحظ أنها تحقق انتشاراً غير طبيعي، بل وإنها تحقق-في المقابل- تأثيراً في قرائها، حيث كانت البداية مع الكتاب الأدبي، لا سيما السردية منها، رواية، وقصة، إلى جانب القليل من المجموعات الشعرية التي راحت تحافظ على بعض ارستقراطيتها، بل إن المؤسسة الدينية راحت تنتبه إلى هذه الظاهرة، فبدأت تنتقل من مرحلة الكراريس السريعة، إلى مرحلة كتاب الجيب . وقد نشرت وكالات الأنباء، أن بعض منظمات حقوق الإنسان، أقدم مؤخراً على ألفباء حقوق العاملين، ضمن مجالات رصدها، لنشر أبجدية هذه الثقافة، وليدرك هؤلاء ما لهم، وما عليهم، لجأوا إلى كتب الجيب .
لا بد من معرفة أمر مهم، أن الكتاب الجيبي، هو مختلف عن الكتاب الكلاسيكي، من حيث علاقته بالمكان، إذ صحيح أن له مكتبته الخاصة، في أي مكتبة بيتية أو مؤسسية، إلا أن الأرفف المخصصة له تكون صغيرة، قياساً إلى حجم الأرفف المخصصة للمجلدات، والمعاجم، والموسوعات، والكتب ذات الحجم الكبير، أو حتى المتوسط، إذ يصح فيها قولنا “الكتاب صغيرالحجم” أو”الكتاب الصغير” إلى جانب اسمه الحقيقي، الشائع، الأغلب عليه: “كتاب الجيب” . وهو من هنا كتاب يتخذ من المكتبة محطة، حيث إن إقامته فيها مؤقتة، مقابل إقامة الكتب الأخرى الدائمة في حاضناتها المكتبية، إذ إن الكتاب الجيبي قد يستعمل في حدود البيت، شأن الكتاب دائم الإقامة، أو أنه يرافق حامله خارج عنوان إقامته .
وإذا كانت المكتبة البيتية-أكثرثباتاً وديمومة وصموداً- أمام عوامل تبديدها، وزوالها، من حيث العمرالطبيعي للكتاب، في ظل الظروف المناخية، أوغيرها، أو حتى إمكان تعرضها للسطو الشرعي-عبر الاستعارة أوغيرها من الأساليب المشابهة التي سنفرد لها دراسة خاصة- فإن المكتبة الجيبية تكون في الأغلب -سيارة- أو طيارة- بحسب التوصيف الشعبي، لأنها متحركة، غيرمستقرة، سهلة الحمل، بل إنها سهلة التلف، وذلك فإن الكتاب التقليدي يعتني بورقه، وغلافه، وحبر طباعته، بل وبطريقة خرزه، بيد أننا نجد أن ورق الكتاب الجيبي غالباً ما يكون من النوع الهش، سريع التلف، بل ومطبوع بأنواع رديئة من الحبر، ناهيك عن أن أغلفتها نفسها تكون من الورق المقوى جزئياً، وأن جمع صفحاتها يكون بوساطة مادة الغراء، لذلك سرعان ما تتآكل أغلفة وأوراق هذا النوع من الكتاب، بفعل الاستخدام، حيث هناك من يرى أن كتاب الجيب، قصيرالعمر، بل إنه لايصلح للتداول، والقراءات المتكررة، حيث يرمى، ويغدو غير قابل للاستخدام .
عالم الحب
سجلت تلك الكتب التي تتناول حكايات الحب، عبر لغة السرد، على نحو خاص قائمة الأولوية، في مبيعات عالم الكتاب الجيبي، لاسيما في مرحلة ما قبل انتشار الكتاب الإلكتروني، إذ إن وسائل التقانة الجديدة، قد أوجدت بدائل لا تنتهي عن مثل هذه الحاجة إلى الكتب، عبر شبكات التواصل الاجتماعي التي باتت تشكل تحدياً كبيراً، لما هو ورقي: صحيفة، وكراساً، ومجلة، وكتاباً، في آن، وإن كنا نجد حقيقة، أن لا شيء في هذا العالم الافتراضي يغني عن متعة قراءة الورقي .
العالم في جيبك
كان من الممكن، أن يتم استبدال هذا العنوان الفرعي-أعلاه- العالم في جيبك، بعنوان آخر، هو “عباقرة، ومبدعون، عالميون في جيبك”، ورغم استفزازية هذا العنوان الفرعي الذي تم إقصاؤه، إلا أنه في الحقيقة واقعي جداً، إذ إن في إمكان هذا الكتاب، وفي ظل اتباع موشور مسرده الافتراضي أن نصل إلى واقع إمكان أن يجد أي علم معرفي، أو أثرعلمي، ثقافي، معرفي، إبداعي، فني، طريقه إلى جيوبنا عبر هذا الكتاب، وكأن هذا الكتاب، في وجهه الآخر “جوازسفر لأعلام وآثار” لكي تتم بوساطته اختراق حدود المكان، والزمان، وليكون بين أيدينا .
وإذا كان كتاب الجيب، قد وصل جيب قارئه، قبل وصول الكتاب الإلكتروني إلى جيبه عبر قرص مضغوط، أو “فلاش ميموري”، فإن فرصة احتذاء كتاب الجيب حذو منافسه الإلكتروني متوافرة، هي الأخرى، حيث إنه يكاد لا يشغل المزيد من الوقت، عبرقراءته إلكترونياً، بل لايشغل إلا القليل من الحجم، بحيث يمكن أن تكون، بفضل هذه التقانة، مكتبة جيبية إلكترونية، تكون في مجرد فلاش من سنتمترات قليلة .
تسمية كتاب الجيب أتت من حيث إنه من الممكن أن يحمله القارىء معه في جيبه، ويكاد يكون الكتاب المكتبي المقروء خارج البيت، لذلك فهو رفيق القارىء في حافلات النقل الداخلي، أوفي الميتروات، والسفن، والبواخر، والطائرات، بل وتمتلىء به صالات الفنادق، وأجنحتها، وغرفها، بل تجد كتب الجيب في صالونات الحلاقين، وبعض المقاهي، ينهمك عليها قراؤها، لمدد طويلة، على ضوء المتاح من أوقاتهم، ولطالما كانت هذه الفصيلة من الكتب، بمثابة جسور إلى عوالم “آرسين لوبين”، و”أجاثا كريستي”، ولعل الرواية البوليسية-حصراً- احتلت موقعها الخاص ضمن هذه المكتبة الجيبية .
ثمة أقيسة متعارف عليها-عالمياً- بالنسبة للكتاب، حيث نجد أن من مواصفات الكتاب كبيرالحجم أن يكون 24-17 سنتمتراً، نجد أن مقياس الكتاب الطويل جداً يكون حوالي 30-22 سنتمتراً، بينما أن مقياس الكتاب متوسط الحجم يكون حوالي 20-14 سنتمتراً، غير أننا نجد أن كتاب الجيب يتراوح مقياسه حوالي 14-9 سنتمترات .
أما فيما يتعلق بصفحات الكتاب، فإننا نجد أن الكتاب الكبير جداً يكون عدد صفحاته بضع مئات من الصفحات، بيد أن كتاب القياس الكبير قد يكون عدد صفحاته ما بين 300-200 صفحة، وأن الكتاب المتوسط يكون حوالي المئة والعشرين صفحة أوأكثر أو أقل، لكن الكتاب الصغير يكون عدد صفحاته ما بين ال 60-90 صفحة، وهي جميعها أقيسة وأرقام تقريبية، قد يتم الالتزام بها، من قبل مؤلف الكتاب، أو صاحب دار النشر، أو قد لايتم الالتزام بها أيضاً .
كتاب الجيب لا يتحمل الموضوعات المتناولة على نحو عميق، لذلك، فإنك لن تجد في عالم هذه الكتب مايتعلق بالنظريات العلمية، أو الكشوف الكبرى، أوعوالم الرياضيات، وإن كان من الممكن أن نجد كتباً فيها بعض عجائب الطبيعة، أو الحيوان، أو العالم، أو ما هو مسل
وإنه لمن نافل القول، أن نبين-هنا- أن دورالنشر ذات الشأن والحضور في المشهد القرائي أوالثقافي، تتبارى عادة، في أن تتوافر في الكتب التي تطبعها، المواصفات الراقية، من حيث نوع الغلاف، بل جلده، أو الورق المصقول، وحبرالطباعة، أو حتى الإخراج، والتقنية، والرسوم، واللوحات إلخ، وهي جميعها مايعيرها ناشركتاب الجيب، الذي يركز-عادة- على الحد الأدنى من كل هذه الأدوات .
ناشروكتاب الجيب
غالباً، مايصدركتاب الجيب عن المؤسسات، ودورالنشر، وليس عن طريق الكتاب أنفسهم، بل ويستوي في عالم الموضوعات المتخيرة للنشر، ضمن كتب الجيب، ما هو قديم، إلى جانب ما هو جديد، بمعنى أن الكتب القديمة التي ألفت قبل قرون بعيدة، بل وبمختلف اللغات، حيث يلتقي ما هو مترجم، بما هو مكتوب باللغة الأم، وكأن من شأن هذا الكتاب هدم الحدود بين الثقافات، والتجسير بينها، وإن كنا-في المقابل- أمام فجوة، من الممكن أن يتم استغلالها، عبر نشر الكتاب الرديء، بل ونشر رؤى ومفاهيم محددة، في إطار الأجندات التي تعمل عليها هاتيك المؤسسات، لاسيما أن بعضاً من هذه المؤسسات تابع لجهات ممولة، لها استراتيجياتها الخاصة .
وليس بخاف علينا، أن بعض الصحف والمجلات، وعلى نطاق عالمي، باتت تنتبه إلى أهمية كتاب الجيب، ماحدا بها إلى أن تصدر بعض أعمال الكتاب، والعلماء، والمبدعين، عبر طبعات خاصة، مع دورياتها، وصحفها، على نحوشهري، أوربما فصلي، أو سنوي، طمعاً في مزيد من التفاعل، والتواصل مع المتلقين .
وقد يكون من دواعي تنطع بعض وسائل الإعلام للقيام بطباعة كتب الجيب، وفرة التالف، غير الصالح لاستخدامها من قبل الصحيفة أو الجريدة التي تنشرها، أو عبر خصيصة تدويل الورق، وهو يتم من قبل بعض هذه المنابر وفق عمليات حسابية مدروسة، ويكون الهدف ثقافياً وتجارياً في الوقت ذاته .
الكتاب الأكثر شعبية
صحيح، أن الكتاب الأكثرأصالة، وعراقة، وتأثيراً، هوالكتاب التقليدي، رغم انتشارالمكتبة الإلكترونية التي استعادت أمات الكتب الورقية، بل راحت تضيف عليها كتبها، أيضاً، إلا أن الكتاب الجيبي هو الأكثر شعبية، إذ يقرأه أفراد الأسرة كلهم، صغيرها وكبيرها، بل إن المتحرر من أميته، أومتدني الثقافة، أومتوسطها، شأن الراسخ في الثقافة، جميعاً، يعدون من جملة قراء كتاب الجيب، لاسيما عندما تكون وسيلة نشرأعمال خاصة، غير مكررة، طباعياً، ضمن إطار سلالات الكتاب التقليدي . 
ولعل ما يزيد من شعبية هذا الكتاب، هو أنه سهل التكلفة، طباعياً، نتيجة رخص الأدوات التي أعد منها، وهو ما يجعله في المقابل رخيص السعر، بالإضافة إلى أن قلة تكلفته، تشجع دور النشر على طباعة أعداد كبيرة منه، بحيث تكاد تصل إلى كل مدينة، أو قرية، أو مؤسسة، أوحي، أو مكتبة، أو شارع، أو بيت، بل وإلى أي قارىء متابع . ومن هنا، فإن طالب المدرسة، أو العامل، أو الموظف، أو الجندي، يحصلون على هذا الكتاب، ناهيك عن أنه يقرأ بين أوساط النساء، كما يقرأ بين أوساط الرجال، بل إن من مميزاته أن الطفل، أو الشاب، أو الكهل يقدمون على قراءته، كل من أجل ضالته التي يبحث عنها بين غلافيه .
باتت دولة الإمارات العربية المتحدة، في موقع عاصمة كتب الجيب-حقاً- وذلك لأن هناك العديد من دورالنشر والمراكز الثقافية تعنى بمثل هذا الكتاب، ومن بينها مجلة الرافد الصادرة عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة وإصدارات دار الكتب الوطنية في هيئة أبوظبي للسياحة والتراث، حيث إن الأولى تهتم بكتب المؤلفين المعاصرين، وتصدر في كل شهر كتابين جيبيين، بيد أن الثانية باتت تتوجه إلى عيون التراث العربي القديم، ومن بينها أمات الكتب القديمة، كدواوين الشعراء القدامى، على مختلف عصورهم، بالإضافة مثلاً إلى أمات كتب السرد، كالأغاني، والكامل في اللغة والأدب و مقامات بديع الزمان الهمذاني، وبخلاء الجاحظ، وأذكياء ابن الجوزي وكليلة ودمنة وغيرها وغيرها .
______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *