*أمير العمري
دمشق – قبل عامين، لمع نجم الموهبة الجديدة الصاعدة، المخرج الأميركي الشاب كاتر هوديرن “Cutter Hodierne” عندما فاز فيلمه القصير “صيد من دون شباك” “Fishing Without Nets” بالجائزة الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان “صندانس السينمائي” الذي يقام في الولايات المتحدة. وكان هذا أول فيلم يقوم بإخراجه. وكاتر، الذي أطلق عليه والداه هذا الاسم على اسم اليخت الذي قاما بشرائه بعد أن باعا كل ما يملكانه، من مواليد 1986 أي أنه لم يبلغ الثلاثين من عمره بعد. وقد أبدى منذ وقت مبكّر في حياته، اهتماما كبيرا بالسينما، وبتصوير الأفلام تحديدا، فقد ترك دراسته والتحق بشركة لإنتاج شرائط “الفيديو ميوزيك”، وفي 2005 قام بجولة لتصوير الحفلات الغنائية لإحدى الفرق الموسيقية الأميركية، وبعد ذلك مباشرة بدأ المغامرة التي ستغيّر من حياته تماما.
في عام 2009 قرر هوديرن الذهاب إلى كينيا لتصوير فيلم عن القراصنة الصوماليين، بمساعدة اثنين من المنتجين هما اللذان سيشاركانه فيما بعد، في تأسيس شركة “فايس” التي ستنتج فيلمه الروائي الطويل الأول الذي يحمل نفس عنوان فيلمه القصير أي “صيد من دون شباك”.
وقد فاز هذا الفيلم الطويل بالجائزة الذهبية في مهرجان “صندانس 2014” واحتفى به أخيرا مهرجان لندن السينمائي، وبدأت عروضه في دور السينما الأميركية في الثالث من شهر أكتوبر الجاري.
قضى هوديرن 77 يوما في تصوير الفيلم في المواقع الطبيعية واستعان في ذلك بعدد من الصوماليين من الممثلين غير المحترفين من بين مئات من الذين استجابوا لإعلان يطلب الاستعانة بمن يمكنهم القيام بأدوار القراصنة من بين اللاجئين الصوماليين في كينيا، ومنهم واحد على الأقل، من الذين سبق لهم الاشتراك الفعلي في عمليات قرصنة في البحر. ويقول هوديرن إنهم جميعا لم يتوقفوا قط عن مضغ القات، وإنه كان شاركهم تلك التجربة، كما شاركهم العيش الخشن في الأكواخ التي يقيمون فيها.
مغامرة الفيلم
ويمد هوديرن في فيلمه الروائي الطويل الأول تجربته السابقة في فيلمه القصير، على استقامتها، ويبدو مصرّا على اقتحام واحدة من أصعب مناطق العالم وأكثرها خطورة، هي منطقة القرن الأفريقي، لكي يقدم رؤية لموضوع القراصنة الصوماليين من الداخل، من الجانب الآخر المقابل لما شاهدناه العام الماضي في فيلم “الكابتن فيليبس” من إخراج بول غرينغراس وبطولة النجم الأميركي الشهير توم هانكس. فبينما كان “الكابتن فيليبس” يقدم صورة لما يمكن أن يقع عندما تتعرض ناقلة عملاقة للاختطاف على أيدي عدد من الشباب الصوماليين البؤساء من وجهة نظر قبطان الناقلة وكيف تقوم القوات الخاصة الأميركية بإنقاذها من بين أيدي القراصنة باستخدام الخديعة وأقصى درجات العنف، يأتي الفيلم الجديد “صيد من دون شباك” من وجهة نظر شاب صومالي فقير يدعى «عبدين». هو صياد للسمك، يكافح من أجل أن يعول أسرته الصغيرة المكونة من زوجته الجميلة وابنه الصغير.
يريد أن يدخر ما يكفي لكي ينتقل معهما إلى اليمن هربا من جحيم الفقر والفوضى المسلحة التي تحكم قبضتها على البلاد.
لكن الصيد أصبح شحيحا، والبحر يبدو وقد جف من السمك، والضغوط القاسية التي تقع عليه تدفعه، رغم رفضه الداخلي، إلى قبول ما يعرضه عليه أحد أصدقائه للانضمام إلى جماعة من الصوماليين الذي اعتزموا اختطاف سفينة غربية، وهم يريدون أن يساعدهم «عبدين» في معرفة المسار الذي تتخذه عادة السفن الغربية العملاقة في تلك المنطقة، بحكم خبرته في الصيد البحري.
«عبدين» شاب رومانسي، مسلم معتدل متسامح، لا يحمل أي ميل للعنف، وهو يسترجع في ذاكرته عبر الكثير من مشاهد الفيلم، ما كان يلقنه إياه أبوه من قيم أخلاقية وضرورة الحرص على تربية ابنه أفضل تربية، ولكنه يمضي وهو يحمل شعورا داخليا بالذنب، في تلك المغامرة.
ويكشف الفيلم عبر السيناريو الدقيق الذي يعتمد على دراسة جيدة من قلب المنطقة والاستماع إلى الكثير من الشهادات والروايات الحقيقية، عن “الآلية” التي يعمل من خلالها القراصنة الصوماليون. أولا يقدم الفيلم بكل وضوح الدافع وراء تلك الظاهرة كما يتبدى في تصويره لمظاهر الفقر والجفاف وسوء الأحوال المعيشية والجوع حتى بالمعنى الحرفي المباشر (إننا نرى مثلا كيف تهجم مجموعة القراصنة بعد استيلائهم مباشرة على الناقلة على مخزن الطعام ويلتهمون كميات كبيرة من البندق واللوز ويشربون كل ما يجدونه، من عصائر أو خمور).
ضغ القات
ونرى كيف أن لهذه المجموعة قائدا لا يكف لحظة عن مضغ “القات” ربما لكي يخفي توتره الشديد وشعوره بالقلق مما يمكن أن يحدث إذا باءت المهمة بالفشل. ولكن هذا القائد يعمل لحساب زعيم آخر هو في الحقيقة الممول الرئيسي للعملية، الذي يتولى الإنفاق على كل جوانبها اللوجستية (تزويد المجموعة بالأسلحة والذخائر، توفير أماكن إقامة لهم على الشاطئ، بعد أن يعودوا بالناقلة قرب الساحل، توفير ما يكفي من الطعام لإطعام الجميع، القراصنة ورهائنهم من طاقم الناقلة، إجراء المفاوضات مع الشركة المالكة للناقلة والتي تستغرق وقتا طويلا قبل أن تستجيب وتقبل دفع فدية تتقلص.
كما نرى في الفيلم، من عشرة ملايين دولار إلى مليون واحد، فزعيم العملية يكتشف بعد أن يصعد إلى ظهر الناقلة أنها فارغة من النفط أو أي حمولة ثمينة، وأن الشيء الوحيد الثمين فيها الذي يمكن المراهنة عليه، هو طاقمها المكون من نحو عشرين فردا.
ويصور الفيلم بدقة أقرب إلى الوثائقية، تفجر الخلافات بين الخاطفين، كما يبرز الاختلافات فيما بينهم، فهناك من يميل إلى العنف المجنون تعبيرا عن كراهيته لكل من هو غربي من الرهائن وينظر إليه على أنه من الذين يستحوذون على ما لا يستحقون، بينما يعاني الصومالي من الفقر والفاقة ومصير لا يستحقه، يريد أن يخرج منه بأي ثمن حتى لو كان بالقتل. وهناك من جانب آخر، من يعتبر العملية مجرد “بيزنس” أي لا بد أن تنتج عنها صفقة ما، وأن الحفاظ على الرهائن أسوياء أصحاء ضمان أساسي لنجاح تلك الصفقة، بينما هناك طرف ثالث- كما هي حالة بطلنا الشاب “عبدين”- من اضطرته الظروف للمشاركة على مضض في تلك العملية في حين أنه يشعر تدريجيا بالتعاطف مع الضحية، يميل إلى تغليب الخير على الشر، ويصل في نهاية الأمر، إلى رفض الاستمرار، بل ويتمرد على أقرانه ويواجههم أيضا رغم قلة حيلته وضعفه وانعدام خبرته حتى في التعامل مع السلاح.
فيلم متوازن
يقدم المخرج الشاب فيلما متوازنا إلى حد كبير، شديد الواقعية والصدق، فيه الكثير من اللحظات الإنسانية المؤثرة، لا يميل إلى الإدانة أو إصدار الأحكام، بل يقدم صورة إنسانية لشخصياته من الجانبين، ويردها إلى أصولها الطبيعية في الواقع، يمزج بين الماضي والحاضر، وينتقل بين الأماكن في تداعيات حرة معبرة في المشاهد التي يتذكر فيها “عبدين” زوجته وطفله، أو يسترجع وصايا والده له قبيل وفاته. ولا ينتهي الفيلم كما هو شأن الأفلام الهوليودية، بمفاجأة الإنقاذ في اللحظة الأخيرة -تلك الطريقة التي ابتدعها رائد الفيلم الأميركي ديفيد وارك غريفيث- بل تتعقد الحبكة مع انفجار التناقضات بين مجموعة القراصنة في العنف، ويصبح أكثر الأشخاص بعدا عن الطمع، الأقرب إلى حصد الثروة القادمة، وإن كان من غير المؤكد أن يصل هو الآخر إلى شيء منها!
المخرج “المهووس”
يقول المخرج هوديرن إنه كان يرغب منذ ست سنوات في صنع فيلم عن القراصنة الصوماليين، وإنه لم يكن “مهووسا” في حياته بشيء مثل هذا الموضوع، وقد لفت نظره بشدة تحقيق نشر في صحيفة “نيويورك تايمز” في ذلك الوقت، عن ناقلة أوكرانية اختطفتها مجموعة من الأولاد الصوماليين الصغار، وكانت تحمل معدات عسكرية.
ولم يكن الأولاد الصغار الذين استولوا عليها يقصدون الاستيلاء على أسلحة، بينما ظنت السلطات الأميركية أنهم قد يكونوا تابعين لمنظمة إرهابية مسلحة، بل لقد أسقط في أيدي هؤلاء الأولاد وأصبحوا لا يعرفون كيف يتصرفون مع الشركة مالكة الناقلة، وكانوا يصرخون على الطرف الآخر عبر الهاتف في هستيرية من يرغب في إنهاء الموضوع بالحصول على أي مكافأة. ويضيف هوديرن أنه أراد أن يصنع فيلما عن “أولئك الذين كانوا على الطرف الآخر من الهاتف”.
صوّر هوديرن فيلمه بأكمله في المواقع الطبيعية، واستعان بالصوماليين اللاجئين إلى كينيا في التمثيل، وقام بتدريبهم للوقوف أمام الكاميرا، واستخدم طاقما من الممثلين الغربيين في أدوار طاقم السفينة، من بلجيكا وفرنسا وأميركا وكينيا، وأدار التصوير في كينيا بدلا من الصومال، واستخدم فيه سفنا وقوارب حقيقية ولم يصنع ديكور ناقلة كما كان الأمر في فيلم “الكابتن فيليبس”. والنتيجة أننا أمام فيلم مدهش من نوع “الدراما التسجيلية”، مع فريق جديد من الممثلين المدهشين في أدائهم حقا!
________
*العرب