محمد بنيس*
المثقف الجذريّ
فجعتُ وأنا أقرأ على شاشة التلفزة نعْـي صديقي الشاعر عبد الوهاب المؤدب. حروف تركّب كلمات، ومن الكلمات جملة، لم أكن أتخيل أني سأقرأها معروضة على نحو مفاجئ، في شريط الأخبار الموجزة. تلك هي وفاة عبد الوهاب المؤدب. لا سبيل إلى اتقاء الصدمة. يموت بضربة عاصفة. ولا يبقى لك غير الذهول والصمت. أمينة بعيدة عني، وهند بعيدة. خبرٌ لك أن تصدقه. مات عبد الوهاب المؤدب. ولا أدري هل تنبأ بموعد الموت أم أن الموت أخذه، وهو ممدّدٌ على السرير في المصحة الباريسية.
محمد بنيــس
أضع وجهي بين يدين ذابلتين. صور عبد الوهاب تتشكل بسرعة، وصوتُه وضحكاتُه. كلمات من هناك وهنا، كانت لنا معاً، في أكثر من مكان، مع أصدقاء أو بيننا فقط. تحضرني كتاباته، مواقفه وصداقاته. أستقيم في جلستي. أمينة وهند بعيدتان. ولا أدري كيف أصل إليهما. بعيدتان فقط. أعود وأستقيم في جلستي.
رواية «الطلسمان» الصادرة سنة 1979 كانت أول كتاب نشره، وهو العلامة التي عقدت الصداقة بيننا. في بيت عبد الكبير الخطيبي بالهرهورة كان لقاؤنا في بداية الثمانينيات. أهداني الرواية وافتتحنا الحديث. في لمح البصر أدرك كل واحد منا أنه التقى بصديق جديد. كان عبد الوهاب مطلعاً آنذاك على «الثقافة الجديدة»، وعارفاً بما سبق لي ونشرته، خاصة في»مواقف» أو دواويني الأولى، أو كتاب «ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب» أو ما ترجم لي ونشر في الفرنسية. هذه المواكبة الدقيقة كانت المدخل إلى التعرف على الشاعر الذي كان يسكن الروائي، ثم الكاتب، الباحث بكل دقة وصرامة في انتساب المثقف العربي الحديث إلى الثقافة العربية ـ الإسلامية من جهة، والثقافة الغربية والإنسانية من جهة ثانية. إنها ثقافة «البين ـ بين» التي كرس لها حياته.
نواة اللقاء الأول بيننا نمت وتفرعت عبر السنوات، في اتجاهات الحياة اليومية، وتبادل الرأي، والمشاركة في أنشطة دولية، وفي الكتابة والترجمة والنشر. لكن ما كان أثارني، منذ البدء، اهتمامان لازماه، هما: تعلقه بالمغرب وبابن عربي. لكل من هذين الاهتمامين بُعده الفكري والشعري. كان عبد الوهاب يحب في المغرب تشبثه بالقديم والعتيق، وحمايته البعد الديونيزيوسي، «المتماثل» مع هذا القديم والعتيق حسب تعبيره، بخلاف تونس في عهد الاستقلال، التي أصبحت تعاني من «الموت الأنثربولوجي»، كما صاغه بازوليني. أما ابن عربي فهو دليله إلى المعرفة، التي تسمح للمسلم اليوم أن يجدد الصلة المبدعة بالتراث ويفتح الحوار مع الثقافة الكونية في آن.
أندلسيعتيقحرص المؤدب على زيارة المغرب بشكل مستمر، وكان قد زاره من الشمال إلى الجنوب في السبعينيات لترسيخ معرفته به، وتزوج أمينة، الفتاة المغربية التي أحبها، وفي المرحلة الأخيرة وقع على قرية الدمينة، الموجودة قرب مدينة أصيلة، لبناء بيت يقضي فيه عطلة الصيف. لذلك كان لقاؤنا متيسراً، في المغرب أو باريس. كنا نلتقي ولا يتوقف الحوار والعمل بيننا. قبل ذلك، كان دائماً يذكرني بأن أجداده من أصول أندلسية، وأنهم قدموا من المغرب إلى تونس. وهذا كله جعل منه أحد المتمكّنين من ثقافة المغرب، ومن تاريخه وحضارته.
ويمكنني القول إن معرفته بابن عربي فريدة من نوعها. فهو قرأ أعماله بدقة وتفحص، وارتبط به ارتباطاً عرفانياً، لا أعلم مثيله. لازم مؤلفاته مثلما تتـبّع منهجه في التأليف والقراءة والتأويل والتفكير واختيار الموقف. رواية «الطلسمان» تجسيد لمعرفته الأولى بابن عربي، لأنها عمل تنشبك فيه كتابات متعددة، عابرة لأشكال أدبية، استقاها من تصور الكتابة كما دعا إليه رولان بارت وتناوله جاك دريدا، ومن كتاب «الفتوحات المكية» لابن عربي. وأنظر إلى ديوانه «قبر ابن عربي» بما هو مرحلة أعمق من الارتباط العرفاني بكتابة ابن عربي، الذي توجد القصيدة في مركزه. إضافة إلى أنه لا يكف عن الوقوف عنده، يحلل نصوصه، يعرّف بتجربته وأفكاره، يسترجع تقاطع ثقافته مع ثقافات البحر الأبيض المتوسط، ويختاره مرشداً في زمن الشدة، كما اختار دانتي الشاعر فرجيل في «الكوميديا الإلهية».
لقاؤنا في بيت الخطيبي لم يحدث صدفة. فهو كان أقرب الكتاب المغاربيين إليه، لأن الخطيبي كان ينطلق من الأسس النظرية ذاتها بخصوص الجسد والدليل اللغوي وفكرة الاختلاف والنقد المزدوج، مع اعتماده كلا من اللسانيات والتحليل النفسي والأنثربولوجيا، كما في كتابه «الاسم العربي الجريح»، أو صلته بالتصوف، أو ممارسة الشعر والرواية انطلاقاً من تصور الكتابة. ثم إن المرجعية الغربية لديهما متقاربة إن هي لم تكن مشتركة. ومن المنحى ذاته نشأت الصداقة بيننا وتوثقت، عبر أكثر من ثلاثين سنة. عند هذا الحد، سيكون من الصعب عليَّ التفريق بين القضايا وبين الممارسات التي تقاطعنا فيها.
قارئنقديانشغل عبد الوهاب المؤدب، في الدرجة الأولى، بمسألة التحديث في العالم العربي. فهو، من هذه الناحية، أحد الشعراء والمفكرين العرب الذين كرسوا حياتهم وأعمالهم للدفاع عن فكرة الحرية، التي هي أساس التحديث. فالحرية هي كلمة السر الواصلة بين الأدباء والمفكرين العرب الحديثين، منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم. لكن التعبير عنها لم يكن واحداً، من حيث المنطلقات النظرية أو أشكال الكتابة. لقد هاجر عبد الوهاب المؤدب إلى فرنسا للإقامة فيها. سبب ذلك هو أنه وجد نفسه أمام الطريق المسدود، الذي يعبر عنه بصيغة «البديل المبتذل للغرب»، الذي كان يحكم تونس. إنه التغريب السطحي الذي يتكامل مع إلغاء التراث. والهجرة إلى فرنسا كانت ذات خصوصية. فقد وصل إليها بُعيد نكسة 1967، وانفتح على ثورة 1968، بما حملته من قوات يسارية مختلفة، طبعت الحياة السياسية مثلما أثرت في الحياة الثقافية. في هذا الفضاء المفعم بروح الثورة، وبفضل اختلاطه بشبيبة تجمعت في باريس من شتى البلاد الأروبية ومن أميركا، وجعلت من الشرق وثقافته وفنونه ملاذها، أعاد عبد الوهاب المؤدب اكتشاف ثقافة الشرق، التي هي بالنسبة إليه الثقافة العربية ـ الإسلامية. وأتاحت له إقامته في باريس أن يرصد، في الوقت نفسه، بلورة المغامرة الفلسفية، والاتجاهات الجمالية والأدبية التي عرفتها فرنسا السبعينيات والثمانينيات. فالوضعية المخصوصة لعبد الوهاب المؤدب كتونسي، من أبناء عائلة علماء سلفيين، وإقامته في فرنسا، بين مستشرقين وكتاب مجددين وحركة يسارية، حددت مساره الإبداعي والفكري، ونقلته من مهتم بالشأن التونسي إلى قارئ نقدي لثقافة العالم العربي والإسلامي.
الإسلام على حقيقتهفي المرحلة الأولى، التحق بالسوربون لدراسة الآداب وتاريخ الفنون. ثم شرع في كتابة مقالات تزامنت مع تعرفه على الثقافة العربية والإسلامية، في القديم والحديث. بعد ذلك عمل في دار سندباد كمدير للنشر (من 1974 إلى 1987) ثم التحق أستاذاً بعدة جامعات، من بينها جامعة باريس العاشرة، حيث درّس الأدب المقارن، الذي كان شغوفاً به. وفي 1991 حصل على دكتوراة في موضوع «الكتابة والنسب المزدوج»، وفي 1995 أسس مجلة Dedale (المتاهة). أما المرحلة الثانية، فهي التي انتقل فيها إلى العمل في إذاعة فرنسا الثقافية، وقام بإعداد برنامجه الأسبوعي «ثقافات الإسلام». أصبحت اهتماماته، من خلال هذا البرنامج، أوسعَ، إذ كان يتوجه بأسلوب أدبي رفيع إلى مستمع فرنسي مسلم وغير مسلم، يعرض آراء ومواقف وحوارات تشجع على تعميق الوعي بالإسلام، ويقدم الجديد من المؤلفات والمعارف والدراسات والأعمال والأنشطة الكبرى، التي تخص الثقافة الإسلامية في فرنسا وفي العالم العربي والإسلامي.
لكنه ابتداء من 11 سبتمبر 2001، أي مع الهجوم على برجي التجارة العالمية في نيويورك، اتجه نحو إعادة قراءة الوضع الديني في العالم العربي، عبر نصوص ألفت كتابه «أوهام الإسلام السياسي». ويمكن اعتبار هذا الكتاب نقداً للتعصب الديني، والأصولية الإسلامية، واستعمال العنف باسم الإسلام تجاه الآخر المسيحي، كما هو كتاب فولتير، «مبحث في التسامح»، نقد لتعصّب الكاثوليكيين ضد البروتستانت. ابتداء من هذا الكتاب سيشرع عبد الوهاب المؤدب في ممارسة الدعوة إلى ثقافة الحوار والتسامح، من خلال قراءة تشمل العالم الإسلامي، الذي تسوده الأمية ويستولي عليه أنصاف المتعلمين.
واستمر في الدعوة ذاتها. يلقي محاضرات ويلتقي شخصيات من مختلف جهات العالم. وفي نهاية 2012، قام بجولة في بنغلادش، شارك خلالها في ندوات عمومية، وطرحَ مقترح إنشاء شبكة المثقفين والفنانين المسلمين الليبراليين، للدفاع عن البلاد الإسلامية ضد السلفية. ولم يتأخر في السياق ذاته عن تأييد الثورة التونسية، منذ انطلاقة شرارتها الأولى في 17 ديسمبر 2010، فأصدر كتاباً عنها، وبادر بكتابة مقالات نقدية للحركة الإسلامية، من ضمنها حركة النهضة. وعندما حلت مؤخراً استحقاقات الانتخابات التشريعية والرئاسية، نشر في 5 أكتوبر كلمة بعنوان» أنتخب»، دعا فيها إلى التصويت على حزب «نداء تونس» وزعيمه الباجي قائد السبسي، ثم نشر ردّاً في اليوم التالي 6 أكتوبر، على إثر الهجوم الذي تعرض له من لدن كل من اليسار التونسي واليمين الإسلاموي. هذا الردّ هو اليوم بمثابة كلمة وداع، شرح فيها بلغة صارمة دلالة موقفه، وعرض تجربة مناضلين ومفكرين في العالم، دفاعاً عن إسلام منفتح وعن تونس حرة.
مغامرة عرفانيةعبد الوهاب المؤدب كاتب إشكالي قبل أن يكون مجرد كاتب فرانكوفوني. فهو باحث رفيع في الثقافة العربية والإسلامية، يدافع عن العربية وثقافتها وأدبها بطريقة عالمة، يعز العثور عليها. وهو شاعر يعتمد على ثقافة عربية وإسلامية، يمتزج فيها صوت الحلاج بأصوات ابن عربي والنفّري وأبي يزيد البسطامي والسهروردي. فعندما أرى من يحصره في خانة الكتاب الفرنكفونيين أفهم الوضعية الصعبة التي عانى منها. إن كتابة عبد الوهاب المؤدب، بهذا المعنى، مغامرة حديثة وجريئة، تستعصي على التصنيف المدرسي أو الإعلامي، لها أفقُ بناء عمل شعري عرفاني، منغرس في الثقافة العربية القديمة، بقدْر ما هو مسكون بالتجاوبات مع هلدرلين ورامبو وملارميه.
وأرى أن شعره مغامرة كبرى، لم نعرفها بكل ما لها من سعة ومن قوة. لقد كنت خصصت ترجمة «قبر ابن عربي» و»آياء» بتقديم أعطيته عنوان «عشق يخاطر بالمتاهات». حاولت في هذا التقديم أن أقترب من الوضع الإشكالي لكاتب متجذر في العربية وفي أعلى مراتب أعمالها الشعرية والصوفية، ولكنه يكتب باللغة الفرنسية. إن ديوان «قبر ابن عربي» يستدعي «ترجمان الأشواق» من أجل إعادة كتابة تجربة العشق بلغة ليست هي لغة ابن عربي، وفي زمن شعري ليس هو الزمن التقني ولا التاريخي الذي عاش فيه ابن عربي.
أما دفاعه عن العربية فقد تحقق بأكثر من مستوى. أولا بكتابته عن أدباء عرب وعن أعمالهم، من الجاحظ والمعري وألف ليلة وليلة وابن حزم في القديم؛ إلى طه حسين وجبران وجمال الغيطاني وأدونيس ومحمود درويش وسواهم في الحديث. ثم تجلى في الترجمات التي خص بها معلقات من الشعر الجاهلي، أو نصوصاً وقصائد عديدة، من القديم والحديث، وأعمالاً فلسفية وصوفية. وثانياً برد العالم على أطروحات غربية، مثل أطروحة الكاتب اليهودي من أصول مغربية دانييل سيبوني، بخصوص نفيه للذاتية في اللغة العربية، أو أطروحة إرنست رينان وفقهاء اللغة في القرن التاسع عشر، التي تصدر عن أن العربية، باعتبارها من اللغات السامية، عاجزة عن التعبير عن العلم. وهي الأطروحة التي يفندها بالرجوع إلى أعمال رشدي راشد أو مباشرة إلى أعمال عربية، مثل «كتاب المناظر» لابن الهيثم وتأثيره في الثقافة الغربية، من الناحيتين العلمية والفنية. ويمتد الدفاع عن العربية إلى بنية اللغة وخصائصها بالمقارنة مع اللغة الفرنسية مثلا، أو إلى دحض ادعاءات عقلانية أو لا عقلانية اللغة.
إسهام مقدّركلما حاولت أن أقف عند منعطف من كتابات عبد الوهاب المؤدب وأعماله باغتني في الأفق منعطف آخر. على أن هناك ما لا بد من الرجوع إليه. أقصد هنا مساهمته في فهم الثقافة العالمية، شرقية وغربية، أو الحالات المعقدة للأوضاع الدينية والثقافية.
أعطي، على سبيل المثال، موقفه من أميركا والثقافة الأميركية. إن عبد الوهاب المؤدب، الذي كان يعيش في فرنسا، لم يكن على وفاق دائماً مع الرأي الثقافي السائد في مسائل ثقافية وسياسية. ففي مقابل الرفض الذي كانت حدته ترتفع في فرنسا ضد الولايات المتحدة، كان هو يفرق بين ما يجب تعلمه من أمريكا وما يجب نقده. إن الرأسمالية الأميركية التي تجمع بين الدين والتقنية ولا ترى تناقضاً بينهما، هي نفسها التي تخص العلم بجامعات وإمكانيات تسمح بتطور الفكر والمعرفة.
ثم هناك الموسوعة التي أشرف عليها إلى جانب صديقه بنجمان سْـتُورَا عن «تاريخ علاقات اليهود والمسلمين من القديم إلى أيامنا». فهي عملٌ يعبّر عن معرفة عميقة بقضايا نادراً ما تم تناولها بمثل ما جاءت عليه من شمولية ووضوح وشجاعة. وهي تبين رسالته التي كان دائماً حريصاً على إبلاغها، بخصوص رؤيته إلى العلاقة البعيدة الغور بين اليهود والمسلمين، منذ زمن البعثة المحمدية حتى الصراعات التي شهدها الشرق الأوسط في الفترة الأخيرة، وكذلك بشأن نظرته إلى عدالة القضية الفلسطينية، ودفاعه عن حق الفلسطينيين في دولتهم المستقلة.
بالحرية سمّى عبد الوهاب المؤدب حياته، وبالحرية كتب القصيدة وغامر، من أجل مستقبل ممكن للإبداع والتسامح.
لا وداع أيها الصديق، فقط لقاء ووفاء.