فصول من السيرة الذاتيّةلـ”كولن ويلسون” 3


*ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي
عندما بدأتُ عام 1955 بكتابة كتابي الأوّل (اللامنتمي The Outsider) كنتُ أعرف منذ لحظة الشروع في الكتابة أنّ ثيمة الكتاب الأساسيّة ستبحثُ في استكشاف مدى حسّاسيتنا إزاء فعل الانتحار ، و كان لديّ إطّلاعٌ كافٍ بما كتبه (ألبير كامو) في كتابه (أسطورة سيزيف The Myth of Sisyphus) الّذي أعلن فيه أنّ موضوعة الانتحار هي السؤال الأوحد الذي يستوجب التنقيب الفلسفيّ الجاد في هذه الحياة ، و كانت لديّ آنذاك قائمة بعددٍ من المبدعين الذين قضوا انتحاراً : كلايست Kleist (شاعر و كاتب دراما و روائي و كاتب قصّة قصيرة عاش في الفترة 1777 – 1811 ، المترجمة) ، بيدوس Beddoes (طبيب و شاعر و كاتب دراما بريطاني عاش في الفترة 1803 – 1849 ، المترجمة)، ستيفتر Stifter ( كاتب و شاعر و رسّام نمساوي عاش في الفترة 1805 – 1869 ، المترجمة) ، فان كوخ Van Gogh ، هارت كرين Hart Crane (شاعر أميركي عاش في الفترة 1899 – 1932، المترجمة).
كنت مأخوذاً على نحو خاص بالفنّان فان كوخ الّذي لطالما أكّد على قوّة الحياة و دفقها العارم في أعماله الزيتية و بخاصّة في عملَيه الفريدين : ( الليلة المرصّعة بالنجوم The Starry Night ) و ( الطريق المحفوف بأشجار السرو The Road with Cypresses ) الّذي تبدو فيه الأشجار مثل مشاعل خضر تمتدّ في اتّجاه النجوم المتلألئة ، و ما أثار انتباهي و ظلّ عالقاً في ذاكرتي أنّ فان كوخ بعد أن انتحر بإطلاق رصاصة في معدته ترك ورقة كُتِب فيها ( البؤس لن ينتهي أبداً ) و بدا فان كوخ و كأنّه يلخّص في ملاحظته القصيرة هذه ما سبق أن كتبه ( كارلايل Carlyle ) فيما يخصّ ( نعم ) الخالدة في مقابل ( لا ) الخالدة . كان السؤال الّذي مضيت في مقاربته في كتابي ( اللامنتمي ) هو : ” أيّهما سيكتب له الثبات و الانتصار : ( نعم ) الخالدة أم ( لا ) الخالدة ؟ ” ، و على الصعيد الشخصيّ كنت ميّالاً إلى جانب ( نعم ) لأنّ ( لا ) بدت لي مؤسّسة على موقف ضعيف لأناسٍ يعوزهم الانضباط الذاتيّ و منغمسين في نزعة تشاؤميّة تبدو دوماً أكثر تأثيراً و جاذبيّة من الناحية الفنّية.
حضرتُ أحد الأيّام في أواخر الثمانينات حلقة دراسيّة ليوم واحد ممتدّ في مركز بلايموث للفنون ، و شاركني في هذه الحلقة كلّ من الشاعر ( ديفيد غازكوين David Gascoyne ) ، و المختصّ بالسايكولوجيا ( آر. دي. لينغ R. D. Laing ) ، و كانت لي معرفة مسبّقة بالشاعر غازكوين منذ أيّام نشري لكتاب ( اللامنتمي ) و لطالما أعجِبتُ بشعره المحتشد بالرؤى الدينيّة فيما لم يسبق لي أن قابلتُ لينغ باستثناء لقاء عابر تشاركنا فيه حضور إحدى الحلقات النقاشيّة ضمن سلسلة محاضرات ( العصر الجديد New Age ) المعقودة في الولايات المتّحدة الأميركيّة و كان لقاؤنا ذاك فرصة له ليخبرني بأنّه عقد العزم على كتابة كتابٍه الأوّل الّذي اختار له عنوان ( الذات المنقسمة The Divided Self ) بعد أن قرأ كتابي ( اللامنتمي ) و صمّم أن يكتب كتاباً يماثل كتابي من حيث قدرته على ارتقاء مراتب النجاح و الشهرة التي أحرزها كتابي . حاضرَ غازكوين ذلك اليوم عن السرياليّة و كانت رؤيته تقوم على أساس أن الحياة بذاتها تعجّ بأشكال الغرابة و أنّها لوحة سرياليّة خالصة فيما حاول لينغ عرض فكرته الّتي رأى فيها أنّ المعتلّين عقليّاً ليسوا بمرضى حقيقيّين بل هم يعكسون بكلّ بساطة المرض المتجذّر في مجتمعنا ، أمّا أنا فمضيتُ في تبيان الأسباب التي دفعتني إلى رفض ( الوجوديّة التشاؤميّة ) الّتي انتهى إليها ( سارتر ) و ( كامو ) ، و بيّنت أيضاً أوجه مسعاي في خلق شكلٍ جديد من الوجوديّة يقود بالضرورة إلى نتائج تعزّز النزعة التفاؤليّة في الحياة ، و عجبتُ كثيراً عندما بدا لي أن صديقيّ ( غازكوين ) و ( لينغ ) تعاملا مع فكرتي هذه على نحوٍ شخصيّ محض : فعندما طُلب منّا منظّمو الحلقة الدراسيّة أن نتوجّه نحو المنصّة الأماميّة أخبرني الاثنان أنّني إذا كنت قادراً على الاحتفاظ بنزعتي التفاؤليّة فذلك لأنّني ضحل الفكر و أفهم الأمور الجوهريّة بطريقة سطحيّة !! و ما أثار دهشتي أكثر أن الاثنين لم يبذلا أيّ جهدٍ لتوضيح وجهة نظرهما القاسية تجاهي بل تصرّفا معي كتلميذي مدرسة عملاقين يجتمعان على ضرب تلميذٍ آخر أصغر منهما سنّاً !! و حينها أدركت أنّ موقفي التفاؤلي الذي عبّرت عنه أثناء كلامي في الحلقة الدراسيّة كان بمثابة إهانةٍ و تحدٍّ شخصيّ لهما هما الاثنان لذا لم يحاولا مناقشتي على صعيد الأفكار بل اكتفيا بأخذ الأمور على محملٍ شخصيّ متعصّب و ضيّق حسب وعندما تفحّصتُ بهدوءٍ الأسباب وراء هذا السلوك لاحقاً بدأتُ بتفهّم الدوافع الكامنة وراءه : عانى غازكوين انهياراتٍ عصبية عديدة في حياته و لطالما وشت عيناه بشخصيّته التي تبدو مسكونة بالأشباح منذ عهد بعيد ، أمّا لينغ فكان مدمناً على المشروبات الكحوليّة و هو الأمر الّذي قاده في النهاية إلى فقدان ترخيص العمل الرسميّ بممارسة مهنته كطبيبٍ متخصًص في السايكولوجيا و لم أكن أعرف هذه الحقيقة عنه إلّا بعد أن قرأت سيرته التي نشرت بعد وفاته عام 1989 .
كان ( غازكوين ) و ( لينغ ) لا منتميين حقيقيّين بسبب حساسيّتهما المفرطة – القريبة من تخوم الحساسية المرضية – تجاه ( نعم ) الخالدة في مقابل ( لا ) الخالدة و بذات الطريقة الّتي فعلها صديقي الشاعر تشارلز غاردنر Charles Gardiner عندما عنوَنَ سيرته الذاتية بهذا العنوان الصادم (الجواب إزاء الحياة هو لا The Answer to Life is NO ) و تلك هي ذات النتيجة التي انتهى إليها ( غازكوين ) و ( لينغ ) و هو الأمر الذي يفسّر سبب اعتبارهم أيّة نزعة تفاؤليّة كما لو كانت نوعاً من الانتقاد المباشر تجاه ذواتهم . إنّ ما فشل ( غازكوين ) و ( لينغ ) في استيعابه و تمثُّله عقليّاً هو أنّ هذه النزعة التفاؤليّة ليست مسألة مزاجٍ شخصيّ بل هي مسألة منطق في المقام الأوّل : كانت نقطة الشروع لديّ عندما بدأت كتابة ( اللامنتمي ) هو تفحّص حيوات عدد ٍمن رومانتيكيي القرن التاسع عشر من الذين خبروا فتراتٍ من الغبطة الفائقة و الرؤى التي غمرتهم بالتفاؤل و الثقة ثمّ نهضوا صباح اليوم الثاني ليتساءلوا ما الّذي يعنيه كلّ هذا الّذي خبروه و انغمروا في أتونه ؟ و أحسبُ أنّ الكثير منهم فقدوا عقولهم أو أنهوا حياتهم انتحاراً بعد أن انتهوا إلى القناعة الكاملة أنّ ” الجواب إزاء الحياة هو لا ” و أنّ الحياة في جوهرها مأساويّة ، و أنّ ( برهات الرؤية ) الملهمة الّتي أُتيحت لهم مُقدّرٌ لها أن تتبخّر تاركة وراءها العدم و لا شيء سواه .
قارنَ ( بوشكين Pushkin ) قلب الشاعر بفحمة سوداء تستحيل قطعة متوقدة عندما تهبّ عليها رياح الإلهام ثمّ تغدو جمرة خابية بعد انحسار الريح عنها ، و بدا واضحاً لي تماماً أنّ معظم اللامنتمين الذين كتبت عنهم قد اختبروا هذه التجربة و رأوا في الحياة فعالية باعثة على أشدّ أنواع الملل تدميراً : شيء شبيه بذاك الذي كتبه ليزلي آدم في عمله الدراميّ ( Axel ) قائلاً ” بالنسبة إلى العيش فإنّ ذلك أمرٌ يستطيع خُدّامنا أن يفعلوه نيابةً عنّا !! “. يبدو واضحاً للغاية أنّ المعضلة الفتّاكة بالنسبة لهؤلاء تكمن في كيفيّة استعادة ( لحظات الإلهام ) و الإمساك بها و بدا لي أيضاً أنّ ما تحتاجه الكائنات البشريّة هو شكلٌ من اشكال الطَّرق على مقدّمة جباههم – مثلما نفعل مع موقد البريموس – بقصد تعظيم قدرتهم على تخليق الرؤى الملهمة ، ومع أنّ الكثيرين تملّكتهم على نحوٍ استحواذيّ مخيف فكرةُ أنّ الكحول أو المواد المخدّرة بإمكانها النهوض بهذه المهمّة و لكن من الواضح أنّ لهما تبعاتهما المدمّرة للروح البشريّة ، و كانت قناعتي الحاسمة هي الإيمان بوجود وسيلةٍ أخرى تقود إلى بعث الرؤى الملهمة دونما نتائج تدميريّة تنتهي إلى الخراب المطبق .
 يتبع
_________
*المدى

شاهد أيضاً

فضاءَاتُ الطفولة المُستمِرّة في “أيْلَة“

(ثقافات) فضاءَاتُ الطفولة المُستمِرّة في “أيْلَة“ بقلم: إدريس الواغيش في البَدْءِ كان جمال الطبيعة وخلق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *