عبد الستار حتيتة يروي حياة قبيلة


*يسري عبد الله

عبر نَفَس ملحمي يتسق وطبيعة المكان الروائي والشخصيات المحكي عنها (قبائل تسكن الصحراء الغربية في مصر)، وارتحالات قلقة في الزمان والمكان الروائيين، تذوي أحلام قبيلة «الحصادين»، وتأفل شمسها عن فضاء جغرافي- إنساني لطالما سيطرت عليه، وهذا هو ما يتمثّل في جوهر رواية «شمس الحصادين» (دار جداول) للكاتب المصري عبد الستار حتيتة.

ينطلق حتيتة في روايته من المكوّن المحلي، من تلك البيئة التي خبرها جيداً، وشكلت الملامح المركزية لعالمه الخصب. هذا العالم الحاوي في جوهره جدلاً ما بين حدة الصحراء وسكونها وتقلباتها، في سياق سياسي ملغوم يهيمن على فضائه أفق الحرب العالمية الثانية، الحلفاء من جانب، والألمان من جانب آخر، وبينهما أبناء القبائل. إنه إطار سياسي عام ينبع من حدث فارق في تاريخ الإنسانية نرى تجلياته على مجتمع عشائري في الأساس، وهو ابن لقيم مختلفة، ماضوية الطابع.
تبدو الصحراء هنا فضاء شاسعاً بامتياز، يحوي منطقاً خاصاً تحكمه علاقات مكانية، العرف القبلي سيدها وجوهرها في آن.
ثمة حنين يلوح في البداية، نوستالجيا خاصة، تحيل إلى ذلك البيت البعيد، هكذا يهدي الكاتب روايته، موقناً في اللقاء، واثقاً في استعادة ما كان: «إلى البيت البعيد: سنلتقي».
تتشكّل الرواية من تسعة وعشرين فصلاً، يحكي الكاتب من خلالها قصته على دفعات، موظفاً آلية التوالد الحكائي، وواعياً بطبيعة الجدل بين ما يُعرف بـ «الحكاية الأم/ الرئيسة» والحكايات الفرعية المنفصلة عنها والمتصلة بها في آن. ثمة قبيلة يطلق عليها الكاتب اسم «الحصادين»، وبما يوحي به الدال/ اللفظ من مدلولات مختلفة، هي تحيل في معظمها إلى معاني النموّ والقوة. لقد كانت جزءاً من أحداث عاشتها المنطقة الواقعة في الصحراء الغربية بين مصر وليبيا، إلى أن أصبحت تلك القبيلة بمثابة مركز الحكي وجوهره في الرواية، فوقفت ضد الأتراك وواليه. ونعلم أنّ حرباً جرت بين العثمانيين من جانب والقبائل الليبية من جانب آخر في أوائل القرن التاسع عشر، أيام الوالي العثماني يوسف باشا القرمانلي، ثم جاء بعضها إلى مصر. وقد نجد أيضاً إشارات لتحالف بعض القبائل المصرية مع السنوسي عام 1915 في حربه ضد الإنكليز. نحن إذاً أمام استيحاء لحوادث تاريخية متفرقة، يجعلها الكاتب جزءاً من التاريخ السياسي/ الاجتماعي المشكل لقبيلته، ويفعل آليات المــــكان وصيغه الحياتية، بدءاً من الاحتفاء بالـــموروث الشعبي، مثل الأغاني البدوية الخاصة بالمكان: (يا راعي ما عندك والي)، والتي تتكرر في مواضع عدة داخل الــرواية علــى لسان بطلها سنوسي، فضلاً عن حضور واعد للمعتقد الشعبي الذي يؤمــن به ناس المكان، أو إعطاء الحكايات الأسطــــورية مساحات كبيرة وتضفيرها في بنــية السرد، بما يكشف عن النوازع الداخلية لشخوصه، مثلما نرى لدى جدة نجيَّة التي تستحضر الجنّ صباح مساء! فنغدو أمام عوالم من تفعيل الخيال الشعبي الأسطوري بما يحويه من غرائبية، هي ابنة السياق المحلي والحكايات العربية القديمة.
يلوح سنوسي منذ المفتتح، مهيمناً على فضاء المشهد السردي، هو يظهر بعد جمل وصفية مسكونة بالمجاز «نغمات الزمار تشبه حركة ريشة تحت النسيم الرخو». وعبر سرد مفعم بالتوتر الداخلي، يرى سنوسي مربيه «عبدالباسط» متطايراً جسده في أرض الألغام التي تبتلع كل شيء، والتي كانت الحرب بين الإنكليز والألمان سبباً في إفقار المكان، وتحولاته العاصفة التي حصدت مجد قبيلة الحصادين، فارتفعت قبائل أخرى من غير ذوي الشأن: «وبمرور الأيام كان أبناء القبائل الصغيرة، الذين كان عددهم يتزايد بلا توقف، يوغلون في امتهان أبناء الحصادين…».
في «شمس الحصادين» لسنا أمام أبطال في أزمة فحسب، ولكننا أمام مكان مأزوم في الأساس ويحوي شخوصاً مقموعين ومهمشين، في قرية يحاصرها الألمان من الجنوب، والإنكليز من الشمال.
يتمتع السنوسي بحضور خاص في الرواية. إنه فتى ممسوس بالحب والأسطورة، والخيال الفريد، والحيرة والجنون. يحاور الجندي الألماني «بوهلر» المقتول في الحرب العالمية الثانية، فيطرح حوارات سردية بديعة عمادها التخييل، وغايتها كشف المسكوت عنه في علاقة القبيلة بالألمان، ومحاولة إعدام القائد الألماني فيستر فيله لزيدان، والد سنوسي، ثم إنقاذه على أيدي أبناء عمومته من (عيت شفيع).
يتماهى السارد الرئيسي مع المؤلف أحياناً، فيكسران الحدّ الفاصل بين الحقيقة والمتخيل، كما يكسران أيضا الحائط الوهمي الرابع بين النص والمتلقي، ويستخدم الكاتب تعبيرات في هذا السياق مثل: «نهايته»، وكأنه يستأنف الحكي، حاذفاً مساحات من الاستطراد.
يحوي السرد أحياناً نزوعاً فلسفياً، من قبيل: «حين لا تفرق بين وقت البكور ووقت الغروب فهذا يعني اقترابك من إدراك حقيقة أن الزمن في الأصل مخلوق واحد. لا صباح فيه ولا ليل…»
وقد أضفى الجانب الملحمي على الرواية طابعاً خاصاً يتجلّى في تلك الحوارات بين عتوش وعبدالكافي، كممثلين لقبيلتين مختلفتين تقفان على شفا حرب انفجرت بُعيد القبض على نجية ابنة عبدالكافي وابن عمها سنوسي، وسقوط هيبة الحصادين إلى الأبد، لتنطلق النيران من الجهات كافة.
وعلى خلفية الحكاية الرئيسية، تلوح حكايات فرعية عن نساء مقموعات سقطن ضحية العرف وسطوة التقاليد. فيُحلق شعر سعيدة مثلاً بعدما يشي بها شاهد زور هو سالم الأعرج، ويتهمها بأنه رآها مع غريب ليلاً. ثم يتكرّر الفعل نفسه من جديد مع الفتاة البكر نجية، التي سيطرت على أحلام سنوسي حتى استخدم ميكروفون الجامع الكبير للنداء عليها والتصريح بحبها في مجتمع لا يكف عن اغتيال مشاعر ناسه.
في رواية تضع قدماً في الواقع وأخرى في الفانتازيا، وعبر مساحات إنسانية بديعة زاوجت بين الحقيقي والمتخيل، ووظفت الصحراء توظيفاً دلالياً ومكانياً جيداً، فأبدعت فضاءها الخـــاص، يكتب عبدالستار حتيتة روايته «شمس الحصـــادين»، مضيفاً إلى مشروعه السردي بعد أعـــمال مثل: «اســتراحة الشيخ نبيل»، و»ليلة في سجـــن المالكي»، ومجموعته القصصية «لوزة». بل يصــــنع تراكماً نوعياً وانتصاراً للسرد العارف بالمكان، والمتعاطي معه بوصفه فضاء نفسيا قبل أن يكون فضاء مادياً ملموساً ومتعيناً.
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *