*عثمان حسن
أصبحت ظاهرة إصدار القوائم الأدبية التي تقوم بها جهات ومؤسسات ومواقع رسمية وشعبية مقروءة أو متابعة، من الظواهر التي تلفت انتباه القراء والمهتمين في السنوات القليلة الماضية، وهذه القوائم على أهميتها من حيث التأثير في القارىء ودفعه إلى الاهتمام بالعمل الأدبي وقراءته، هي شيء مستحسن وذو فائدة ثقافية ومعرفية، إلا أنها غالباً ما تكون نمطية ومكرورة ولا تنطوي على إدهاش، وإنما تصطبغ بصبغة إعلانية أو إعلامية صرفة، وربما يكون هذا صحيحاً، حين يتعلق الأمر بالقائمة الأشهر التي أعلنها قبل سنوات قليلة موقع صحيفة “الغارديان” البريطانية، وكان يتعلق بأفضل مئة رواية عبر التاريخ .
قيل الكثير عن هذه القوائم من حيث إنها من اختيار نقاد وكتاب كبار وتتوقف دائماً عند أعمال كلاسيكية أو أعمال كتبت في القرون الماضية، وأصبحت من المقررات الدراسية في كثير من الجامعات والمعاهد والمدارس المتوسطة، ولا تنحاز – إلا نادراً – لأعمال كتبت حديثاً، حيث إنها ترصد الفرصة الممتدة من أواخر القرن العشرين وبداية الألفية الجديدة .
أثارت مثل هذه القوائم تساؤلات عدة منها مثلاً أنها تعود دائماً إلى الماضي البعيد، وأنها تلغي فطنة القارىء وحصافته، وتذكر – فقط – بكتب كلاسيكيات زمن مضى وكأنها ترشدهم لقراءتها دون غيرها .
العودة إلى كلاسيكيات الأدب العالمي، باتت معروفة على الأغلب، وقد سبق وما يزال نقل فكرتها إلى فضاء السينما العالمية مثل: دايفيد كوبرفيلد لتشارلز ديكنز، مادام بوفاري لجوستاف فلوبير، الجريمة والعقاب لدويستويفسكي، دون كيشوت لميجيل دو ثربناتس، تشارلوت برونتي لجين آير، وجاتسبي العظيم – سكوت فيتزجيرالد، كما هي حال بعض أعمال إيميلي برونتي، وإرنست هيمنغواي، وفلاديمير نابوكوف وغيرها .
ورد في إعلان الغارديان البريطانية في سبتمبر من العام الماضي عن أعظم مئة رواية في التاريخ الإبداعي عبارة (على الإطلاق) والحقيقة أن تأمل هذه العبارة لا يليق بفكرة الخيال الإبداعي، وهو خيال بشري خلاق ومفاجئ وقادر على الابتكار واجتراح الجديد في المستويات الإبداعية كافة من رواية وشعر وقصة وغيرها، ومن جهة أخرى فإن فترة عقدين أو ثلاثة عقود ماضية، قد فاجأت القارئ العربي والعالمي بسلسلة من الأعمال الروائية المهمة، التي كان الفضل لجائزة نوبل بتسليط الضوء عليها، وربما تضم السنوات الخمسين المقبلة – على سبيل المثال – رقما يزيد أو يقل عن ثلاثين أو أربعين رواية لم تكن معروفة من قبل، إذا ما تسنى لهذا الخيال أن يكنس غبار الحروب والأمراض التي وصلت إلى الشوارع والزواريب العربية والعالمية، بمثل ما وصلت إلى الساحات العامة والمدن الكبيرة .
بشأن نوبل نفسها، وفي هذا العام تحديداً، وقبل نحو أقل من أسبوعين أعلن عن فوز الفرنسي باتريك موديانو بجائزة نوبل للآداب، وهو على أهميته، لم يكن معروفاً لعدد كبير من القراء العرب وغيرهم في آسيا وإفريقيا وربما أمريكا اللاتينية .
تصدرت قائمة “الغارديان” رواية “دون كيشوت” الشهيرة، للإسباني ميغيل دي سرفانتس، و”روبنسون كروزو” لدانييل تريفور، و”رحلات غاليفر” لجوناثان سويفت، كما شملت القائمة أيضاً أعمالاً معروفة، مثل “كلاريسا” لصامويل ريتشاردسون و”إيما” لجين أوستن و”فرانكشتين” لماري شيلي، و”الكونت دي مونت كريستو” لأليكسندر ديماس و”ديفيد كوبر فيلد” لتشارلز ديكنز، و”جين إير” لشارلوت برونتي، و”موبي ديك” لهيرمان ملفيل، و”مدام بوفاري” لغوستاف فلوبير، و”أليس في بلاد العجائب” للويس كارول، وغيرها من الأعمال الأخرى، هذه الأعمال غالباً ما ترد هي ذاتها في مواقع أخرى مشابهة .
والحقيقة أن هذه القائمة وغيرها من القوائم المشابهة، إنما تسهم ترشيحات النقاد الكبار في بلورتها، وهي تطرح فيما تطرح، وفي كل مرة معياران أساسيان: الأول ثابت، ويتعلق بالنسبة الأكبر من الأعمال العالمية الكلاسيكية، والثاني متحرك وقابل للزيادة أو النقصان، وقد يضم روايات جديدة فائزة بجوائز عالمية كما سبق وضمت أسماء روائيين عرب معروفين .
من المهم هنا، الإشارة إلى قائمة مشابهة نشرتها أيضاً صحيفة “الغارديان” التي تنوه بفوز رواية “عصر البراءة” لإديث وارتون إديث وارتون (1862 – 1937) بلقب أفضل 100 رواية للخمسة والأربعين عاماً الماضية، حيث ترجم أحمد فاضل ما ذكر به الناقد الإنجليزي “مسكرام” بواحدة من كاتبات الرواية الأمريكية، التي يجهل القارئ في بريطانيا الكثير عنها، حيث سبق أن حازت جائزة البوليتزر المعروفة وترشحت عام 1927 للفوز بجائزة نوبل للآداب، و”عصر البراءة” هذه تناولها المخرج الكبير مارتن سكورسيزي في فيلم جريء عام ،1993 وهذه ليست المرة الأولى التي تتناولها السينما قبل أن تنتقل إلى التلفزيون ويتم كذلك تكييفها إلى المسرح .
قائمة الغارديان الجديدة تمتدح الرواية بسبب معالجتها للمشهد المتغير لمدينتها الكبيرة نيويورك التي تهددت ثقافتها كما كانت تقول دائماً بسبب الطارئين عليها والذين باتوا يلهثون وراء المال، حتى ولو كان تحصيله من دون حق يذكر، ووارتون تقترب بكتابتها من هنري جيمس الذي وصفته “إنه الأكثر حميمية لي من أي وقت مضى مع أنني أختلف معه في نواح عديدة من كتاباته” .
تفضح “عصر البراءة” أيضا وحشية ونفاق مجتمع مانهاتن في سنوات ما قبل وأثناء وبعد الحرب العظمى .
ومن جهة أخرى، تصلح “عصر البراءة” لتكون رواية حديثة عن عالم فاقد البوصلة، كما هو شأن روايات كبيرة وعظيمة تحرص القوائم على إدراجها وتذكير العالم بها، وهذا الجانب الإيجابي، ربما يشير إلى حكمة وحتمية التاريخ، وهي الحتمية التي كانت على الدوام، أقوى من كل المقترحات التي يتم تمريرها، ويصادف أنها ضد الوعي البشري، كما أنها لا تراعي التسلسل الطبيعي لنمو الأفكار، إذا ما قيض لها أن تترعرع في حاضنات صحية لا تقبل التفريط بدماء البشر وحساسياتهم وعواطفهم، وهي ذات الحساسيات التي أنتجت أدباً عالمياً كلاسيكياً، لا يزال حتى اللحظة يتصدر القوائم والأفضليات، بوصفه نتاج مخيال وذائقة أدبية اشتغلت على الفطرة، بوصف هذه الفطرة معياراً ثابتاً لا يقبل القسمة على اثنين .
لنتأمل مثلاً “روبنسون كروزو” القصة الشهيرة لدانيال ديفو، التي نشرت قبل نحو ثلاثمئة عام، وهي عبارة عن سيرة ذاتية تخيلية، عن شاب يعتزل وحيداً في جزيرة ما، لم يقابل أحداً من البشر، بل قابل كائناً متوحشاً علمه بعض ما وصل إليه الإنسان المتحضر في إشارة إلى أوروبا، التي هي السبب في اعتزاله، هو عالم متحضر، ولكنه منفصم أيضاً، ووحشي، ولا إنساني، وليس حالماً كما ينبغي .
_________
*الخليج