*كمال عبد الرحمن النعيمي
*كمال عبد الرحمن النعيمي
( ثقافات )
الصورة الشعرية تعني في التراث النقدي ((قدرة الشاعر على استعمال اللغة استعمالا فنياً يدل على مهارته الإبداعية, ومن ثم يجسد شاعريته في خلق ألأستجابة والتأثير في المتلقي, فالصورة هي الوعاء الفني للغة الشعرية شكلا ومضمونا))(1) وهي أيضاً ((التشكيل النهائي لكل شيء بالفعل واكتساب المادة من حيث كونها قوة صرفة لوجودها النهائي))(2) أو هي ((تلك التي تقدم تركيبة عقلية وعاطفية في لحظة من الزمن))(3) أوهي ((ابداع ذهني صرف, وهي لا يمكن أن تنبثق من المقارنة, وإنما تنبثق من الجمع بين حقيقتين واقعتين تتفاوتان في قلة وكثرة.. وان الصورة لا تروعنا, لأنها وحشية أو خيالية, بل لان علاقة الأفكار فيها بعيدة وصحيحة, ولا يمكن إحداث صور بالمقارنة التي غالباً ما تكون قاصرة بين حقيقتين واقعيتين لم يدرك ما بينهما من علاقة سوى العقل))(4).
الصورة إذن تحليل نقدي تطبيقي للتكافؤ والتعادل القائم بين اللغة الشعرية وتجربة الشاعر, أو بين التجربة الشعرية الموفقة بين الحقيقة والمجاز بمعناها البلاغي والبياني من جهة, وفي استثمار اللغة الشعرية في القصيدة بوصفها((قاعدة حسية أو ذهنية للصورة))(5) من جهة أخرى.
ويمكن تشكيل الصورة الشعرية من خمسة عناصر هي: (6)
1.التكثيف
2.لتفاعل النصي
3.الرمز والأسطورة
4.الثنائيات الضدية.
5.المعجم الشعري.
يقول ادونيس في الصورة الشعرية)) ان الصورة الشعرية ليست تشبيها أو استعارة، فالتشبيه يجمع بين الطرفين المشبه والمشبه به، إذن هي جسر بين نقطتين، أما الصورة فأنها توحد بين الأجزاء المتناقضة بين الجزء والكل، أنها شبكة ممتدة تربط نقاط كثيرة))(7)
إن التكثيف في بنية الصورة الشعرية هو الذي يحدد جودة القصيدة(8)والقصيدة الجديدة((لاتكتمل إلا إذا حافظت على تكثيفها ورفضت الاستسلام لأول مرة(( (9)والتكثيف مرادف لتعدد القراءات، وعدم استنزاف النص الأدبي لأنه يمارس العطاء والامتناع و((يتجلى التركيز أو التكثيف في قدرة الصورة على استيعاب طاقة من الدلالات والعواطف القابلة للاتساع والعطاء الغزير بعد التأمل الطويل وإنشاء الترابط الموضوعي بين عناصر القصيدة للحصول على الوحدات الذاتية التي تربط بين الشاعر وعالمه أوثق الارتباط، ويتم هذا التكثيف بقدرة الشاعر على انتقاء عناصر الصورة وموضوعها انتقاء موفقا وتشكيلها تشكيلا موحيا(10)، أن((حرية الرؤية(( و((أدوات تحديث الرؤية)(( 11)هما عنصران متلازمان لتشكيل ((وطن الكتابة(( فأن هذين العنصرين يشتغلان في أعطاء الصورة الثراء الدلالي في مقاومة القراءة بمستوياتها.
إن الصورة الأولى التي يقدمها التكثيف هي صورة الأسئلة وبخاصة تلك الأسئلة التي تشتغل على المساءلة والتي لها القدرة على أعطاء النص الثراء الدلالي بحشد من المفارقات والرموز التي أطبقت على النصوص بشبكة من الأسئلة، ويبدو ذلك واضحا في نصوص كثيرة في الشعر الإماراتي، منها: قصيدة (وعد ) لإبراهيم الهاشمي :
(( من أين أتيت وجئتيني
من غيم الفرح الاول
أم من حزن النغم الأول
من أين أتيت
وجئتيني
كالوعد وجئتيني
كالمطر
الغيث
وجئتيني):ص:23(ديوان:قلق ،تفاصيل)
تشتغلبعض القصائد على تفصيل سلسلة من الأسئلة التي تحيد نفسها في كل مرة بصورة شعرية جديدة:
(( أي قلب دنا
واستدان العدم
كيف تخون المواعيد أوقاتها
وتنسى الدروب خطو أصحابها)) ــ قصيدة إدانة:28
ولا يسأل الشعراء أسئلة من اجل الأسئلة، بل لتأطير صورة الأختلاف بالصورة الشعرية لكشف المسافة المائزة بين الأسئلة والمساءلة، بل بكثير من المساءلة التي لاسلطة لها سوى الأسئلة(12) ، ولكنها أسئلة قادرة على الكشف والاستنطاق على أية حال، كما في قصيدة: ( مشهد في رئتي ) ـ مجموعة شعرية مشتركة ــ للشاعر أحمد عيسى العسم :
(( ما أقسى الجرح حين يتسع
وتمتلىء دوائر العرض بالدلالين!
ما أقسى كل شيء
حين تتعاطى آلامك
وتسافر وحيدا)):67
وتتشكل صور الأسئلة لدى شعراء آخرين بتفاعلات نصية متباينة،فهي عند الشاعرة هدى أمين الزرعوني أنشودة أمل تستقرىء الشاعرة من خلالها مدىً مندىً بالأمنيات:
(( حومي أيتها الأسئلة
حومي
دونما تخطئة
جبهة الطين
نبض الثرى
راحة للصليل
فانحني
وارتدي خضرة من سموق النخيل
كي تري في المدارات شمساً وماء)) ــ قصيدة نازحون:129
والأسئلة عند الشاعر محمد المزروعي تتشكل من خلال جدلية الموت والحياة:
((منذ متى وكل شيء يولد ويموت؟
وما يسمى بالحضارات
ألمجرد التشابه في الضرورات
تنهد علينا الدائرة) ـ أرق النموذج:20
وصورة الاسئلة لدى الشاعرة عائشة البوسميط تبحث عن صوت بعيد يتفجر ألواناً ويتوهج حمماً:
(( أين أنت
أسمع صوتك الآسر
خلف الجدار
يتلو الأشواق
يحملني بعيداً
عن هذه الدنيا)) ــ قصيدة النخلة:10
والأسئلة عند الشاعرسعد جمعة تشتغل على مفارقة الصورة الشعرية التي تقفز من خلال ومضة فرح هاربة من من رجل ميت:
(( ما الذي يشغل الفرح في رأسك
انك تفكر كرجل ميت
لا ترى في الصباح بريقا..)) ــ دون مرآة ولاقفص :45
وأسئلة الشاعرة خلود المعلا تتكاثف من خلال رؤية مكانية تبحث عن مصب:
((شاغلي وانشغالي
أسعى في مداره
الأمكنة لايملؤها سواه
فأين المصب! ((ـ هاء الغائب :115
وهناك ثمة أسئلة لا تعجب فيها ولا استفهام ، ولكنها أسئلة خفية تقع ضمن الطرح الدلالي الواعي للناص كما في قصيدة الشاعر إبراهيم الملاّ(عبور):
((كل هذا الأسى
لم يشغلني
بل الغيمة التي مرت
ولم تمطر)):14
وكذلك اسئلة الشاعر ناصر جبران:
(( أوصاف جمة توصمنا
ترسم في وجه الخارطة العربية
دوائر ظل تتقعر
كبقايا وشم مجدور)) ــ ماذا لو تركوا الخيل :12
ويأتي سؤال كبير تطرحه الشاعرة ميسون صقر القاسمي بحثاً عن فضاءات مكانية قادرة على امتصاص أنوية النص بأسئلة كثيرة لاتعجب فيها ولا استفهام:
((حين الطائر يبحث عن أمكنة
حيث العشب أقل
من خلق عاطفة أولى
وحين أجدها
تكون يدي
تلك النعامة البيضاء التي
تختبىء في الرمال
حيث زغب الطيور التي
لم تفقس بيضها بعد)) قصيدة (سلالات):77
ويأتي سؤال كبير آخر للشاعرة ظبية خميس فيه شعرية عالية وان كان خاليا من التعجب والاستفهام الظاهريين،لكنه سؤال ينماز بأنسنة خاصة،سؤال هادىء كالعاصفة وبارد برودة نار جهنم:
((فالصورة التي أبحث عنها ليست
في خارجي
انها هنا..هنا واضحة
جلية كخفق القلب
فيما عدا أني أحبك
لا أريد ان ادرك أي شيء
آخر ..عنك)) قصيدة تقمص:75
بينما يأتي السؤال مختصراً حاداً ونارياً عند الشاعر هاشم المعلم في قصيدته(المدفون في الهواء):
((ماذا أقول للأصدقاء؟
هل تآمرتم عليّ جميعاً
كي أعيش
أحمل الفاجعة على ظهري؟)) :47
والسؤال الاخر المختصر الناري نجده لدى الشاعر ثاني السويدي في قصيدته(غالاتيه):
((الكون فكرة حب
ماذا تبقى للمدينة
فوق رؤوسنا
أرصفة وتائه
ماذا تبقى..)) :24
والصورة الثانية التي نستخرجها من الشعر الإماراتي، هي صورة (الغضب)والتي هي صوت غالب، نسمعه كثيراً في الشعر العربي، هادراً في بنية القصيدة العربية، ومن ذلك قصيدة) مناحة المخيل) للشاعرة هدى محمد السعدي:
(( لن يفهم أوجاع فؤادي
إلا صوت الغضب الاكبر
ولسوف نقاوم يا وطني
ولسوف نموت لكي تزهر
قسماً بالله وبالأقصى
وبماء النهرين (الأحمر)
ستموت الغربان جميعاً
وغداً نثأر)) :68
ويعتمد هذا المقطع على تركيز الإيقاع في بؤر صوتية معينة، والإفادة من النشاط الصوتي المتميز لكل تجمع صوتي من هذه التجمعات، فصوت (السين( بترديده العالي، وإشارته اللافتة،
وضغطه الإيقاعي الواضح على نحو مثير للانتباه، يمكن حشده أفقيا:
((ولسوف نقاوم / لسوف نموت/قسماً/ ستموت..))
وتظهر صورة الغضب واضحة في قصيدة الشاعرة منى مطر (حنان الماء):
(( نحن الذين ارتضيناك حريقاً كاملا
نحن الذين تلمع أرواحنا
خلف زجاج جسد
أطلق عقاربك
صوب أفاعيك
على من تطاولوا
على صحوك)):22
وتأتي الصورة الشعرية في بعض ملامح الغضب في قصيدة الشاعرظاعن شاهين (البيان الأخير):
((قصدت الوجهة الأخرى
وجدت البعض مجتمعاً
وبعض البعض معترضاً
وكل الكل مختلفاً
ولاحل سوى المحن
مسافات..شعارات
نشيد اسمه الدنيا
وجرح اسمه وطني)):21
وتتشكل صورة الغضب في قصيدة ( داخلون ) للشاعرة صالحة غابش من خلال جدلية تتصارع فيها (الكرامة( من جهة و(الهزائم) من جهة أخرة، وينتج عن هذه الجدلية نصر بعدما يتغلب فيها النور على الظلام:
))فقم لاتكن مثلهم
وجئني بملء الكرامة مهراً
أنا في انتظارك منذ قرابة خمسين عاماً
ومهري المغيب بين ركام الهزائم ضاع
فجده هناك
بوبة نصر على القادمين بأسفارهم)) :25
وتأتي قصيدة الشاعر سالم ابو جمهور لتستثمر قوة الإيقاع النفسي في قصيدة الغضب الثوري العربي وما في هذه القصيدة من حماس وبخاصة عندما يتعلق الأمر بحادث جلل كأحتلال اسرائيل لقدس الاقداس :
((ليس لي حل وسط
فإذا البدر سقط
وإذا العالم أقعى
تحت اسرائيل يوماً وانبسط
سوف أحيا
أصنع الموت لها
لو بأشعاري فقط)) دكان أمين :الغلاف الاخير
ونختصر عنصر(التكثيف( وهو من عناصر الصورة الشعرية بهذه الأمثلة, ونصل إلى(التفاعل النصي ( حيث يحتاج النص الإبداعي إلى زوايا نظر ولعدة قراءات،تحاول أن تقبض على دلالاته و((الكتابة لا تحدث بشكل معزول أو فردي ولكنها نتاج لتفاعل ممتد لعدد لا يحصى من النصوص المخزونة في باطن المبدع ويتمخض عن هذه النصوص جنين نشأ في ذهن الكاتب ويتولد عنه العمل الإبداعي الذي هو النص))(13) وقد تنبه الباحثون خلال ممارساتهم الأدبية إلى حضور ذاكرة نصية يقوم عليها الأدب, كان أول من سجل مصطلح التناص هي الباحثة(جوليا كريستيفا( التي عمقت الميراث الذي تركه (باحثين( باستبدال مصطلح الحوار بالتناص.
والتفاعل النصي أو (التناص( هو ((مفتاح لقراءة النص, لفهمه, لتحليله, لتفكيكهِ, وإعادة تركيبه, والمعرفة كيف تم إنتاج الخطاب))(14)إن التناص تعالق بين النص والنصوص السابقة، فالبحث يثري في نقطة مدى التعالق والتفاعل بينهما، وبتعبير آخر نوعية العلاقة التي تحققت بين النص والنصوص السابقة, هذا ما تناوله عمر أوغان بقوله: ((يمثل التناص تبادلاً، حواراً، رباطاً، اتحادا، تفاعلا بين نصين أو عدة نصوص، في النص تلتقي عدة نصوص تتصارع، يبطل أحدها مفعول الآخر، تتساكن، تلتحم،تتعالق، إذ ينجح في استيعابه للنصوص الأخرى وتدميرها في ذات الوقت،أنه أثبات ونفي وتركيب)) (15)
وتظهر أمثلة التفاعل النصي أو التناص واضحة في الشعر الإماراتي منها قصيدة الشاعر ابراهيم محمد ابراهيم التي تتفاعل نصياً بشكل غير مباشر مع قصة النبي ابراهيم (ع) الذي تاه في دوائر الدهشة بحثاً عن الحقيقة الربانية،وانهكته التساؤلات حتى اهتدى الى اليقين:
))ضرب الخيمة
لم يدر بأي الأرض كان
فإذا ما لمح النجمة في الليل
اهتدى وسرى
وجد الاحباب،
بعد الغيبة العظمى
بلا دمع،
على تلك الذرى
في الليل
بلا نجم
ولم يدر،
بأي الارض كان))
والتعالق النصي واضح في قصيدة الشاعرة منى مطر(سلام):
((كم أنهك هذا الجسد
يستريح الآن
فيّ سلام
حتى مطلع الفجر)):30
فالتناص واضح ههنا مع الآية الكريمة(سلام هي حتى مطلع الفجر) وتتواشج عتبة العنوان النصية(سلام) نفسياً مع بنية القصيدة مشهرة أسرار متنها من خلال تعالق قرآني معروف .والتفاعل النصي مع النص القرآني(سورة يوسف( يشتغل من خلال صورة ومفردات( سبع سنابل ) في قصيدة (سماء الجنوب) للشاعرة جميلة الرويحي:
((لم يبق لنا صوت ينادي!
تحت المائدة
المستديرة
بزغت سبع سنابل
وزيتوناً
في فوهة السنبلة)): 33
وفي قصيدة الشاعر أحمد راشد ثاني ثمة تناص ديني واضح حيث يقول:
(( وسبحت بآلائك
آلاء وجودك
ووجودك أنت
كما أنت
بآلاءك)) ديوانه(حيث الكل:)
والشاعر أحمد منصور في ديوانه(أبعد من عدم) يقول بنص متعالق مع قصة طوفان نوح ولكن ببنية سردية ذكية تتناول حادثة الطوفان بطريقة غير مباشرة:
((تراءى لي أنني امتلأت بنوري
واستوت ناري
فحشدت موسيقاي واعشاب سكينتي
وشجت روحي برملي
وأطلقت طائري
وتواريت))
والشاعر محمد الزروعي يتعالق نصه مع حادثة تأريخية مشهورة تروي حكاية البطل خالد بن الوليد الذي مات حتف أنفه على فراش في بيته،ميتة لاتليق بالابطال:
((بسبب سوء المر
كل شيء بسبب ذلك
سأموت على السرير نفسه
وأرضى بالملاذ)) ـ أرق النموذج:34
والشاعر عبد الله محمد السبب يستفيد من حكاية(جلفار) التراثية ليتناص في قصيدته (عصر):
((جلفار
هذا العشق الشامخ
في تواريخ القصيد
جلفار
جلفار
يا جلفار(عصر)ــ )) 155
وفي قصيدة الشاعرة صالحة غابش( لا أنساك يا أبتي) تناص واضح مع قصة(بثينة بنت المعتمد بن عباد وما حدث لهما من نكبات وفواجع مشهورة في التاريخ):
((أضعت أباك
فضاعت دفاتر يقرؤها لمدينته
وكنت الاثيرة من مفرداته
حتى أضاع السياق ملامحك
فظلت منابر اشبيلية
تبلل أقدامها بلعاب الضحى
وتنتظر المعتمد
لعله يدخر اسمك للخطبة الآتية)):19
أما العنصر الثالث في تشكيل الصورة الشعرية, فهو((الرمز والأسطورة))،فمن حق الشاعران يفيد من الرموز كافة, بحسب ما تنطوي علية من إيحاءات ودلالات إنسانية وترابط وظيفي لبناء القصيدة(16)
أما الأسطورة فهي فكر الإنسان وتجربته الكبيرة في مرحلة من مراحل تكوينه, وهي قادرة على الالتقاء بتجارب الإنسان في مختلف العصور، ولأن عودة الشاعر إلى الينابيع الأسطورية بوصفها رمزاً يضاف إلى العمل الشعري يساعد على تعميق التجربة ومنحها بعدا شموليا)17)كما إن الرمز يثري الصورة الشعرية, ويحقق لها الانفتاح الدلالي على دلالات لا متناهية, كما يكسبه حيوية, لتخرج من الماضوية إلى الحاضر, وبهذا تتحقق الدرامية بدلاً من الغنائية, والرمز هو ((ما يتيح لنا أن نتأمل شيئا آخر وراء النص, فالرمز هو قبل كل شيء معنى خفي وإيحاء انه اللغة التي تبدأ حين تنتهي القصيدة, وهو القصيدة التي تتكون في وعيك بعد قراءة القصيدة, انه البرق الذي يتيح للوعي أن يستشف عالماً لا حدود له, لذلك هو أضاءة للوجود المعتم, واندفاع صوب الجوهر)) )18)
من هذا المنطلق نرى في الرمز القدرة على انفتاح النص الشعري و((الذروة العليا التي يدركها الشاعر حين ينتفض من عقال الحواس والمقارنة والتشبه ويقدر له إن يعاين الحقائق الأولى بأم عينه الباطنة( ( (19)لقد وظف الشعراء الإماراتيون العديد من الرموز الأسطورية )الغربية والشرقية( بوصفها رموزا يستند إليها في إيصال فكرته للإشارة والتلميح, وصار توظيفها وسيلة فنية متطورة في خلق صورة.
وقال السياب: ((هناك مظهر مهم من مظاهر الشعر الحديث: هو اللجوء إلى الخرافة والأسطورة, إلى رموز, ولو لم تكن الحاجة إلى الرمز والى الأسطورة أحسن مما هي علية اليوم, فنحن نعيش في عالم لا شعر فيه)) (20)
ومن استعمالات الرمز في الشعرالاماراتي, رمز( المعتصم) في قصيدة الشاعرة جميلة الرويحي الذي يمثل في الموروثات العربية والاسلامية دلالات حية على الاستصراخ والتلبية المجيدة وهو يشتغل على آليتين متضادتين(النخوة) و(الجبن):
((ماتت نخوة الأمس
وأصبحنا نلعق أرضاً
تطردنا
(وامعتصماه)
(واذا لم يكن من الموت بد
فمن العجز ان تكون جبانا) ــ )) ـ قصيدة صهيل خضرا :14
ويظهر الرمز جلياً عند الشاعر عبد العزيز جاسم في قصيدة(القرصان:
((لم يكن بغل الحانوتي يصهل عند مروره، وشجر السدر تعلّم أن ينحني أمامه،الشاهين يقف على كتفه ولايجرحه،والناس يلوحون له ولا يصرخون خشية ازعاجه)) ــ(دونما أتجاه يحطم القلب نفسه)
أما الاسطورة فتتشكل بوضوح في قصيدة الشاعرة جميلة الرويحي من خلال استعمال (أوزيس) أحد الهة الاساطير القديمة:
(( حجر على حجر
يدمي وريد البشر
بين خفقة نبض
ومطر
أوزيس
هناك ينتظر
اشراقة فجر تحتضر)) ــ قصيدة: صهيل خضرا:7
ان اللغة هي رحم تجريبية القصيدة العربية الحديثة ومن خلالها نحاول معرفة حجم الانجاز الشعري الذي تجسده حداثة شعرية مغايرة للسابق الشعري،
كما ان النص الادبي ايا كان شعرا او نثرا، هوكيان لغوي قائم على الانزياح(21) الذي يمنح المفردات حياة جديدة من المعاني والدلالات، بعيدا عن حدودها الضيقة داخل معاجم اللغة، فلغة الشعر مخالفة للغة اي جنس اخر.
فاللغة داخل النص الشعري قائمة على الاختزال والتكثيف وهي اكثر قدرة على البث الشعري في اطار بنيته الجديدة(22)، واللغة الشعرية هي لغة المجاز، او هي مجموعة من المجازات والاستعارات البلاغية، وباختصار هي لغة منزاحة، والشعر هو (لغة داخل لغة)(23)،ولا شك ان الشاعر مطالب بلغة مبتكرة، وهذا ليس معناه ابتكار دالات لغوية غير واردة في المعاجم،الا ان الابتكار يكون في التشكيل وهو التركيب المميز للدالات( ويعد الخطاب الادبي ـــ خلق لغة من لغة)(24) والشاعرلا يخدم اللغة بهذا الشكل ، بل يثور عليها، ويفجرها من الداخل، ولا يستعمل كلمة ما الا لتخلق موضوعا وتتشكل مع بنية او تركيب جديد بحثا عن حقيقة ذاتية(25)
والعنصر الرابع هو الثنائيات الضدية ، فالنص الذي يتنامى من خلال ما يحمله من تناقضات، هو النص القادر على بلوغ مرحلة الاداء الدرامي في جميع اشكال القصيدة (26)، اذ يبقى التضاد اساس الموقف الدرامي للنص الشعري(27)، وتاتي اهمية التضاد من كونه يشكل عنصر المخالفة، وهذه(( المخالفة تغدو فاعلية اساسية ، يتلقاها القارىء عبر كسر السياق و الخروج عليه ))(28)كما يقول جون كوهين (( الشعر يولد من المنافرة))(29) وذلك لان المنافرة لها القدرة على صناعة نوع من الدراما المتطورة في النص ، حتى يصل الى صناعة الايقاع الداخلي للقصيدة وهي ــ المنافرة ــ شرط من شروط توفر الايقاع.
ونجد ظاهرة جمع التنافرات في الشعر الإماراتي المعاصر واضحة لدى العديد من الشعراء الاماراتيين ، ويمكن تقسيم هذه الثنائيات الى:
ثنائية(الضوء/الظلام) نقرأمن قصيدة الشاعرة نجوم الغانم(ما تتركه لنا الوحدة):
(( أغمض عيني
لتأمل حافة أجفاني
واحتفاء رنات الضوء السكرانة
في مطر المساء
الدهاليز تحكم عتمتها
لكن الاصوات مازالت ترتجف
في برد الطرقات)):77
وفي هذه الثنائية نفسها نقرأ للشاعرة صالحة غابش:
((مارية فتاة ستأتي مع النهار
وامرأة سيأتي بها الليل
يضج العالم من ضحكتها)) قصيدة(شوق) :80
وتبرز ثتائية التضاد (الموت / البقاء )في قصيدة (كلمات ) للشاعرة الهنوف محمد:
(( قلق هو الموت
والبقاء للشعر
تأويل هي ذاكرتنا
والمعارج ظلال
نرتقي ونلتقي)):16
وفي الثنائية نفسها نقرأ للشاعر عبد الله عبدالوهاب:
((يدخل الموت ويخرج
من دون أية شكوك
ومن دون قصد
سمعت من يقول:
(الحياة تمر من تحت سلم) ــ )) قصيدة( تكلمت كما لو انني ما تكلمت ابدا):41
بينما نجد ثنائية (الغياب /العودة) بوضوح في قصيدة الشاعرة منى مطر (يوميات حرف):
(( أحبتي
طال غيابي
وأعود)):34
لاشك ان بنية التضاد تعد احدى البنى الاسلوبية، التي تغني النص الشعري بالتوتر والعمق والاثارة(30) وتقوم هذه البنية على الجدل(الديالكتيك) الذي يعني وجود حال تناقض وصراع وتقابل بين اطراف الصورة الشعرية، وغالبا ما تكون الثنائيات الضدية ، هي العنصر الاكثر اهمية بين مكونات النص الشعري(31)
وفي ثنائية التضاد( الأخذ / العطاء) نقرأ للشاعرة ظبية خميس:
(( ولم تمنحني أنت الكثير
لكي تأخذه
هكذا صافيا،عميقا
كأرض بكر
لم يطأها احساس آخر)) قصيدة شوق:80
وفي قصيدة الشاعر خالد الراشد( يراها من بعيد) يشتبك عدد من الثنايات المتضادة في تشكيل بنية النص ، فهناك ثنائيات(الجلوس/ القيام) وثنائية(النوم /الصحو) والفعلان الناقصان في الماضي والحاضر(يكون/كان):
((الحزن في هواه
عندما يجلس وعندما ينام
ولاينام
في هواه امرأة
تنام وتصحو
يكون الكون على ما يرام
على وشك ان يكون
وكان)):145
وفي ثنائية التضاد( الزمن /اللازمن) تكتب الشاعرة عائشة علي الغيص:
(( على خد الليل
وفم النهار
بين رائحة الزهر الذي يشبهك
وهمهمات المطر المتيسر
سأكتب
بين كف الشمس
وجفن القمر
سأكتب يا وطني))
ونقرأ في ثنائية التضاد نفسها للشاعرة عائشة البو سميط:
(( هذا الليل
مفتول العضلات
يراقص شباكي في الهدأة
ويتركني أراقص
موج السرير)) ـ قصيدة مخاوف:9
ويكتب الشاعر كريم معتوق عن ثنائية التضاد(الحب/ اللاحب):
((اني أحب ولا أحب كأنني
سعف،فلا قبل النخيل بحالتي يوما
ولا الارض الحنون تضمني
وأطوف بالمدن التي رحلت براءتها
بقافلة الحضارة حين أذكر انني
يوما عشقت..)) قصيدة قبضة عدس:27
ويكتب الشاعر عارف الخاجة عن ثنائية التضاد( الأنا / الآخر):
(( اني تعبت من التسكع
في دروب العمر
بحثا عن خطاي
اني تعبت من انتعال القلب
من بلوى الركوع
ومن دماي
اني سواي
فكيف يقتلني سواي)) ــ فاتحة :صلاة العيد والتعب ــ
ونجد لدى الشاعرة وفاء خازندار اكثر من ثنائية ضدية في مقطع شعري واحد،فهناك ثنائية( الدنو/ الابتعاد) وثنائية(الصمت/ التغريد):
((حين أدنو يصمت
إن ابتعدت يغرد
أتراه يغرد ليردني
أم فرحاً بابتعادي؟!)) قصيدة عصفور:12
ان التضاد يحدث تحولا عميقا في بنية النص، اذ يشحنه بالحركة التي تستوعب في صلبها مفارقات الحياة، وكل ما فيه يوحي بحركة الجدل التي تعتمل بالواقع، والنص الذي يتنامى من خلال ما يحمله من تناقضات ، هو النص القادر على بلوغ مرحلة الاداء الدرامي، اذ يبقى الموقف الدرامي للنص هو الاهم.
وهناك ثنائيات ضدية اخرى في الشعر الاماراتي لم نذكرها اختصارا وايجازا، ونقول ان التضاد بصيغه المتعددة، يمثل اسلوبا يكسر رتابة النص وجموده ، باثارة حساسية القارىء/ المتلقي ومفاجأته، بما هو غير متوقع من الفاظ وعبارات وصور ومواقف ، تتضاد فيما بينها، لتحقق في نهاية المطاف صدمة شعرية يتعالى بها النص على قارئه(32) ، ويحلق في فضاء جمالي خاص، ويحرضه على الحوار والتفاعل واعادة انتاج المعنى ، اذ((ليس هناك نص ادبي لا يخلق من حوله مجموعة من الفجوات والفراغات التي يجب على القارىء ان يملأها))(33)،ولعل التضاد من اكثر الاساليب قدرة على اقامة علاقة جدلية بين النص من جهة والقارىء من جهة اخرى(34) .
أما العنصر الخامس فهو المعجم الشعري ، حيث ان مجالات دراسة المعجم الشعري متنوعة وكل مجال بنتائجه،بخاصة وانه يمثل اختيار الالفاظ وترتيبها وفق طريقة خاصة ، بحيث تثير معانيها خيالا جماليا ، فهو اذن يمثل التميز الذي تفرد به النص الابداعي(35)،فاذا اردنا نحيط باللغة الخاصة لشاعر ما ، فلنحاول متابعة معجمه الشعري و((تعد هذه القضية فنية خالصة ، وهي مستحدثات النقد الادبي الالسني الوارد حول النصوص السردية والشعرية معا))كما يتفرد كل شاعر بمعجمه الشعري، الذي هو مفتاح النصوص، وهو الذي يحدد هويته الابداعية ، ف((اذا ما وجدنا نصا بين ايدينا ولم نستطع تحديد هويته بادىء الامر، فان مرشدنا الى تلك الهوية هو المعجم الشعري))(36)، كما يتشكل المعجم الشعري((من لازمة نفسية هي بلا شك تمثل اسقاط اللاوعي على الوعي، وما يترشح عبر ذلك من تكرارات(نفسية ـ فلسفية ـ فنية) تتبلور على هيئة الفاظ سلطوية لاقدرة للناص على تجاوزها او محاكمتها او وضعها بصيغ خاصة))(37).
وينبغي ان ندرك ان المنطق لفهم الشعر هو ان((اللغة الشعرية رمز العالم، كما يتصوره الشاعر،كذلك هي رمز الشعار النفسي للعالم،لابد ان نفهم الشعر على هذا الاساس)) (38).
ويتشكل المعجم الشعري في غالبه من مجموعة الفاظ لا قصدية ، ومن(( هذه الالفاظ اللاقصدية تتمظهر عنونات لامتفق على تسييسها كتابيا، ومن ذلك ما يقع تحت افتراضات العنونة ك(اسلوب الشاعر) او (خط الشاعر) او(نفس الشاعر)،هذه بعض افرازات المعجم الشعري))(39)
كما ان دراسة الالفاظ بمعزل عن تراكيب الجمل لا ياتي بثمار، والاحصاء يبقى من دون نتائج ، كما لا يجب اغفال اهمية تعالق الالفاظ المكونة لجملة او لشبه جملة بعضها ببعض في تحديد الدلالة(40)، ويقول الدكتور محمد مفتاح:
((ان المعجم الشعري هو وسيلة للتمييز بين انواع الخطاب وبين لغات الشعراء والعصور ، لكن هذا المعجم يكون منتقى من كلمات يرى الدارس انها مفاتيح النص او المحاور التي يدور عليها))(41)
اما كيفية قراءة المعجم الشعري فتكون بمتابعة الالفاظ المستخدمة من قبل الشاعر الى جانب متابعة ترتيب الشاعر للالفاظ،ف((الالفاظ حقول والجمل ظواهر))(42)،
ونختصر كل هذا الكلام ونقول المعجم الشعري هو:عدد مرات تكرار كلمة ما في نص معين: مثال:
قرانا قصيدة الشاعر فلان ، فوجدنا ان كلمة او مفردة(الحزن) مثلا قد تكررت في القصيدة عشر مرات، وكلمة (الليل) تكررت سبع مرات وهكذا.. فلمَ تكررت هذه الكلمات وكيف تكررت؟… هذا هو اختصاصنا وهذا هو عملنا.
فاستنادا الى مقولة فلوبير:((ما يعذبك،يعذب اسلوبك في الكتابة)) يقرر ادونيس في ثلاثيته (القاهرة التي علمتني) ان معظم النصوص التي تكتب اليوم احتفاءً بالراهن، العادي، اليومي تفتقر الى مثل ذلك((العذاب)) بما يعني تبنيه الصريح لموقف (فكري/ جمالي) مضاد من راهنية وعادية وعرضية النصوص الجديده،في محاولة كما يبدو لمفهمة متوالية (اليومي) واختباره بوصاية ابوية ازاء (الميتا ــ لغوي) كما تجدد ايدلوجيا العمود الشعري انبعاثاتها بصيغ مختلفة ، للالتفات على مستوجبات الحدث النثري، فالكاتب الذي لا نرى في كتاباته عذابا ــ برايه ـ انما يقول ما يقول بشكل اعلامي اخباري، ولا يكون كاتبا انما مجرد ناقل او راوٍ،(43)
الى هنا نكتفي بما ذكره فلوبير وادونيس،ونذهب الى غاستون باشلار حيث يقول::(( البيت هو ركننا في العالم ، واذا طالعنا بالفة ، فسيبدو ابأس بيت جميلا))(44)
وخلاصة هذا الكلام ان المفردات في القصيدة تتشكل كما قلنا في دراستنا النقدية المنشورة في جريدة الزمان اللندنية وفق اسلوبين هما:
1.اسلوب الوعي
2.اسلوب اللاوعي
فاسلوب الوعي، هو ما يمكن ان نسميه ب( التكرار الفني)، ونضرب مثلا في قصيدتي( مذكرات سيف)، فقد كررتُ كلمة(قل) متعمدا وعن قصد اكثرمن عشرين مرة،
اما اسلوب اللاوعي، فهو ان تكرر الكلمة في القصيدة بشكل غير متعمد وغير مقصود ،وهذا ما اسميه(اسقاط اللاوعي على الوعي)،فاذا احصينامفردة (الظلام) مثلا لدى الشاعر الفلاني في احدى قصائده، نجد انها تكررت في القصيدة دون وعي الشاعر وسيطرته عدة مرات، ومثال على ذلك لاتكاد تقراقصيدة لشاعر فلسطيني ـاي شاعر ـ الا وتجد مفردة(البيت ـ الوطن) وقد تكررت عشرات المرات حتى لو كان النص يتحدث عن الحب او الحرب او اي موضوع اخر، وفي الغالب ان تكرر هذه الكلمة قادم من ضمير الشاعر لا من وعيه ، وهو كما قلنا(حاجة ــ نفسانية ـــ فلسفية ـ فنية)،
ولنعد الى موضوعنا( المعجم الشعري)، فقد وجدنا ان فعل الأمر(تبسموا) في قصيدة(تبسموا) للشاعرة رهف المبارك قد تكرر (4) مرات على الرغم من قصر القصيدة،وهذه دعوة من الشاعرة المبارك لإفشاء المسرة في قلوب الناس على الرغم من العمر الذي يجري وكل شيء للفناء:
(( تبسموا عند الوداع
تبسموا عند اللقاء
تبسموا أحبتي
مثل النجوم في السماء
فالعمر يجري مسرعا
وكل شيء للفناء
لاتحزنوا مهما جرى
تبسموا يا اصدقاء)):15
وتتكرر (ياء النداء) في احد المقاطع الشعرية عند الشاعر حارب الظاهري،في محاولة لدعوة الآخر(الحبيب) للتماهي في حال مائزة مع المحبوب الشاعر،لذلك يطلق الظاهري النداء تلو النداء،من خلال تصوير الحبيب بثلاثية(الجمال ــ العنفوان ــ العمق):
((يا روعة الحب المنّى
يا رقصة الموج
يا فيضاً جميلاً
هلميّ الى فؤادي
الهميني الحب
بكل عنفوانه
بأنفاسك يسكن العطر)) ديوان(شمس شفتيك):40
وفي قصيدة الشاعر خالد البدور قد تكرر الفعل الماضي (كان)(3) مرات مع قصر القصيدة،دلالة على قوة فعل الماضي وتأثيره على الحاضر والمستقبل،وتكرار الفعل الناقص مرتين له دلالة على اصرار الشاعر البدور على الألتصاق بحاسة الماضي التي لاتريم:
((كان بأيدينا
صعود النخيل
جمع حكايات الجن
أن نرتشف قهوتنا
في ضباب آذار
ونطيل النظر
فيما سيأتي
قبل ازدحام السنين
كان
كان
بأيدينا)):118
والسبب في اصرار الشاعر على تكرار الفعل الماضي انه لم يجد بُدا من محاكمة الحاضرالا باستحضار الماضي واستنطاقه ،مقارنة بين الزمن الجميل والزمن الرديء.
وفي قصيدة الشاعر حبيب الصايغ تتكررت جملة(يكفيني = فعل +فاعل+ مفعول به) تتكررت(5)مرات وخلال مقطع من قصيدته( العقلة اذ تتهيأ)،وعلى الرغم من الجملة الفعلية(يكفيني) توحي بالاكتفاء،الا ان النص يشي بغير ذلك:
(( وأنا المختلف
قلت:يكفيني
فنادتني الغوايات الى مجد الغوايات
تولتني الأماني
وتولاني البيان المترف
قلت:يكفيني
ويكفيني الذي يكفي
أنا الوهم،ويكفيني البديهي
أنا الحلم
ويكفيني الذي ليس له وصف..)):26
وفي مقطع من قصيدة(اوراق الوردة) للشاعر خالد الراشد،تتكرر(لا) النافية(4) مرات،وعلى الرغم من هذا المقطع قد لُغّم بأجواء النفي،الا ان النص يكشف سيرة ذاتية نادرة لروح الشعراء الماضين قدما في دوائر الابداع:
((لا شيء يمكن ان يتأثر
لا المعبد،لا عباد الشمس
ولا مزارع الذرة
ومساحات الحقول
ولا الطريق الى النهار
الذي أخذ شعراءه
ليكتبوا ويأخذوا حياتهم معهم)):254
لقد حددت اللغة مسميات الاشياء فاتضح العالم للوعي البشري، هذا من جهة ،ومن جهة اخرى اللغة تحقق الذات والغير، ومع الحداثة الشعرية التقت الجهتان، ودخلت اللغة في حوار مع الاشياء التي لها لغة لايفهمها الا من يعرف فك الشفرات والرموز كما يقول ادونيس(45) فيدخل هذا الانسان في حوار مع العالم بكل مظاهره وبذلك يتحقق الحوار بين الانسان والوجود.
فالكلمة عند الشاعر ينبغي ان تتجاوز مدلولها وتشير الى اكثر مما تعبر عنه، فعلى الشاعر كما ذكرنا في بداية هذه الدراسة ان يثور على اللغة ويفجرها من الداخل فلا يستعمل كلمة الا لتخلق موضوعا وتتشكل مع كل بنية او تركيب جديد بحثا عن حقيقة ذاتية.
هذه بعض آليات بناء الصورة الشعرية بعد قراءة الشعر الإماراتي المعاصر،
مع قراءة بعض تنظيرات ما تيسر من هذا الشعر التي توجه مشروع الحداثة الشعرية من خلال الأساسيات المهيمنة على رؤية للنصوص كبدائل ل(تغيير) (46)بنية القصيدة العربية القديمة, ولقد تفطن النقد إلى كون الصورة الشعرية مهمة في بنية (القصيدة الحديثة( لأنها تبرز الطاقة الإبداعية والقدرة الفنية للمبدع.
الصورة الشعرية إذن تحليل نقدي تطبيقي للتكافؤ والتعادل القائم بين اللغة الشعرية وتجربة الشاعر, أو بين التجربة الشعرية بوصفها تعبيرا والشاعرية بوصفها مهارة ذاتية خلاقة في تحقيق التعادل بين الشعرية الموفقة بين الحقيقة والمجاز بمعناها البلاغي والبياني من جهة, وفي استثمار اللغة الشعرية في القصيدة بوصفها قاعدة حسية وذهنية للصورة من جهة أخرى(47)
إن القصيدة الإماراتية شأنها شأن القصيدة العربية, تشتغل على جميع مفاصل ومكونات بنية القصيدة, وبخاصة الصور الشعرية المتناثرة بين هذه النصوص والمجموعات, وابداعها, ليس فقط بجمالياتها البنائية, إنما كذلك بجمالية ما تطرح,
بحيث إن الظاهرة البارزة فيها وفي الصورة وتطورها بتطور الموقف المطروح نفسه وتميزه(48)
إن مهمة الشاعر في خلق الصورة الشعرية هي البحث خلف الأشياء والبحث عن الجديد للجمع بين الإبداع والابتكار.
_________
* ناقد من العراق
الهوامش والإحالات والمصادر والمراجع
1.- مستقبل الشعر وقضايا نقدية, عناد غزوان, دار الشؤون الثقافية العامة, القاهرة, 1994.ص116
2. ــ الصورة في التشكيل الشعري, تفسير بنيوي, سمير علي سمير الدليمي, دار الشؤون الثقافية العامة, بغداد, 1990.ص15
3.- نظرية الأدب, رينيه ولك أوستن وارين, ترجمة: محي الدين صبحي, دمشق, 1972.ص241
4.- التفسير النفسي للأدب, عز الدين إسماعيل, دار العودة, بيروت (د.ت).ص242
5..نظرية الشعر عند الجاحظ، أطروحة دكتوراه، مريم محمد جاسم، جامعة تكريت، العراق، 2008، ص93
6.- الصورة في التشكيل الشعري, تفسير بنيوي, سمير علي سمير الدليمي, دار الشؤون الثقافية العامة, بغداد, 1990.
7.زمن الشعر،ادونيس, دار العودة, ط1, بيروت, 1972, ص154 ـ 155
8.شعر ادونيس, البنية والدلالة, راوية يحياوي, منشورات اتحاد الكتاب العرب, سلسلة دراسات (1), 2008, ص102.
9.أزمة القصيدة (مشروع تساؤل)،عبد العزيز المقالح, دار الآداب, ط/1, بيروت, 1985, ص85.
10.الصورة الشعرية, بشرى موسى صالح، المركز الثقافي العربي، ط/1, المغرب, 1994, ص167 ـ 168.
11.كتابة المحو، محمد بنيس, دار توبقال للنشر, ط/1, المغرب, 1994, ص41.
12.كلام المرايا(دراسات نقدية في الشعر والقصة والمسرح والرواية,( كمال عبد الرحمنالنعيمي، تربية نينوى(العراق ـ الموصل(, 2011, ص35.
13.الخطيئة والتفكير, عبد لله محمد الغذامي, النادي الأدبي والثقافي, المملكة العربية السعودية, 1985, ص13
14.في أصول الخطاب النقدي الجديد, تستفيان تودوروف وآخرون, ترجمة وتقديم: احمد المديني, دار الشؤون الثقافية, ط1, بغداد, 1987, ص98
15.انظر كتابه: لذة النص أو مغامرة الكتابة عند بارت, دار أفريقيا النشر, المغرب, 1991, ص29
16.مرايا جديدة، عبد الجبار عباس، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1981، ص109
17.الرمز في شعر السياب، مناف جلال عبد المطلب، سلسلة ثقافية شهيرة تصدر عن دار الشؤون الثقافية، بغداد، رقم(71). ص17
18. زمن الشعر، ادونيس………ص160
19.الرمزية والسريالية في الشعر الغربي والعربي، ايليا الحاوي، دار الثقافة، لبنان، ب. ت، ص116
20.انظر: مجلة (شعر) ، بيروت، صيف 1957، العدد(13)، ص112
21. شعر ادونيس، البنية والدلالة،راوية يحياوي،منشورات اتحاد الكتاب العرب،سلسلة دراسات(1) دمشق،2008،ص17
22. في معرفة النص،دراسات في النقد الادبي، د. يمنى العيد،دار الافاق الجديدة ،بيروت،1983،ص105، وانظر:ازمة القصيدة (مشروع تساؤل) ، عبد العزيز المقالح،دار الاداب،بيروت،1985،ص85
23.النقد والحداثة ،عبد السلام المسدي،دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت،ديسمبر،1983،ص57
24.م.ن:57
25.محددات اللغة والفكر، في الثقافة العربية،مجلة عالم الفكر،مج32،ع2،اكتوبر،2003،ص125
26.بنية القصيدة في شعر عز الدين المناصرة،د.فيصل القصيري،وزارة الثقافة،عمان،الاردن،2006،ص146
27. وعي الحداثة، دراسات جمالية في الحداثة الشعرية،د0سعد الدين كليب،اتحاد الكتاب العرب،دمشق،1977،ص120
28.جماليات الاسلوب والتلقي،د0 موسى ربايعة،مؤسسة حمادة للدراسات الجامعية،اربد ــ الاردن،2000،ص129
29. بنية اللغة الشعرية،جان كوهين: ترجمة :محمد الولي وزميله،دار توبقال للنشر،الدار البيضاء،1986،ص129
30.بنية القصيدة في شعر عز الدين المناصرة..ص145
31.م0ن:146
32.م.ن: 146
33.في نظرية التلقي،جان استاروبنسكي واخرون،ترجمة:د0 غسان السيد،دار الغد ،دمشق،2000،ص130
34.بنية القصيدة في شعر عز الدين المناصرة..ص160
35.شعر ادونيس،البنية والدلالة..ص73
36.تحليل الخطاب الشعري،استراتيجية التناص،محمد مفتاح،دار التنوير،بيروت،1985،ص58
37.انظر دراستنا:ثنائيات المعجم الشعري في(عندما اشتبك الضوء بالياقوت)،جريدة الزمان،لندن،العدد1562،التاريخ21/7/2003
38. تشريح النص،مقاربات تشريحية لنصوص شعرية معاصرة،عبد الله محمد الغذامي، دار الطليعة للطباعة والنشر،بيروت1987
39. ثنائيات المعجم الشعري000ص5
40.شعر ادونيس ، البنية والدلالة…ص92
41.تحليل الخطاب الشعري00ص58
42.خليل حاوي،دراسة في معجمه الشعري،خالد سليمان،مجلة فصول ،ع1و2 ماي،1989،ص48
43.وردت اراء فلوبير وادونيس في كتاب(شعرية الحدث النثري)محمد العباس،دار الانتشار العربي،بيروت،2007،ص11/من دون ان يذكر المصادر التي اخذها منها، واخذنا نقلا عن هذا الكتاب النقدي المهم.
44.جماليات المكان،غاستون باشلار:ت:غالب هلسا،سلسلة كتاب الاقلام(1) دار الجاحظ للنشر، وزارةالثقافة والاعلام،بغداد،1989،ص36
45.سياسة الشعر، ادونيس،دار الاداب،بيروت،1985.ص64
46.الأدب في عالم متغير، شكري محمد عياد، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة, 1971، ص97
47.نظرية الشعر عند الجاحظ، أطروحة دكتوراه، مريم محمد جاسم، جامعة تكريت، العراق، 2008، ص93
48.البنى الشعرية، دراسات تطبيقية في الشعر العربي، عبد الله رضوان، أمانة عمان الكبرى، عمان / الأردن، 2003، ص423