عودة الروح


*عبدالرزاق بسباس

( ثقافات )

أخذت نفسا عميقا، و هي تجتاز مدخل الرواق، كأنها تعبر دهاليز الذاكرة، تسير في الرواق بخطى متثاقلة، مثل فارس يجر الهزيمة، تتقاذفها الصور.. و الحديث الذي علق في رأسها الصغير.. كيف لها استعادة توازنها؟.. أسئلة كثيرة تضطرب بداخلها، تمشي تائهة و هي تبحث عن حضن يمسح الحزن عن ملامح وجهها، لم تعرف سبب وجودها هنا، كيف لهذا الرجل الذي حاولت أن تحبه، كيف له أن يمنحها الهدوء؟.نعم حاولت أن تخرج عشيقها ليحل هو مكانه، و لكنها دائما كانت تفشل في إدخاله قلبها.
تسمرت أمام باب القاعة، و هي تستعيد أنفاسها، عندما فاجأها؛ صوت منبعث من داخل القسم، صوت امرأة تناجي حبيبها: أحبك؟ و صوت رجل يدفع عنه هذه التهمة: أرجوك، لا.. لا أستطيع..
كانت هاربة نحوه، غير مدركة سبب لجوئها إليه، هل يكون سبب ذلك ابتساماته السخية، أم رائحة الدخان التي علقت بلسانها، و هي تكتم أنفاسها أثناء عناق طويل.
تتذكر كيف كانت تسافر في رائحة الدخان، نحو حبيبها السابق، و كيف كان يرسم بفمه السحرية الدوائر؛ ترقص بداخلها، تلاحقها و كأنها تريد معرفة أي سر تحمله معها، دوائر مثل السراب تلاشت في الهواء مثل سحب جافة؛ قامت الريح بطردها بعيدا.
كيف استطاعت أن ترحل بعيدا عن النار نحو قبو الذاكرة، و كيف كانت، ترفض الخروج من العاصفة؛ عندما ينعقد لسانها بلسانه مشكلين طوق نجاة لها، و هي تتجاوز قبلاته، و تندفع نحو حلم عتيق، تقفز نحو الماضي، تتخيل حبيبها مكانه، يطوقها بقوة، تستسلم له و لكنها في ذات الوقت، تبتعد نحو حب قديم، حب يرفض الخمود…
نظرت من خلال نافذة صغيرة، و هي ترى كيف كان يتعفف عنها، يهرب منها و من إغراءاتها.. تبقى حائرة، و سعادة تتسرب نحوها، و ألم ينخر بداخلها، تمنت أن يخونها، أن ينتقم منها، لم يفعل… بل واصل تعذيبها و جلدها.
مدهش هذا الرجل، و شهي.. لأول مرة تتمنى أن يصفعها، أن يمرر يديه على وجهها، كيف فاتتها حرارة رجل شهم مثله، تنظر مرة أخرى، و تكتشف وسامته المتوارية خلف لباسه البالي، تبرز عضلاته المفتولة من خلال كتفه العريضة، تندهش من بريق عينيه و هو يرفض امرأة شهية؛ تهدي نفسها له… يخفق قلبها بشدة، و تتدحرج دمعة لا تدري أي سر تحمله، تصيبها موجة من الحرارة، ترتفع مثل ربيع يعلن موسم التغريد…
“تبا لك” قالتها بقوة؛ هزت أركانها، أخرجتها من أعماق نفسها لأول مرة له،: كيف تخون الحب؟، و تجبرني على انتظارك.. أرادت أن تنهش وجهه، أن تصفعه، مثلما صفعها اليوم، عندما رأته و هو يطارد فتيات الجامعة، عندها رأته كيف ترجل من قلبها، و هو يرحل نحو جهة لا تريد معرفتها…
أرادت حضنا لتخفي هزيمة كبيرة، فوجدت نصرا كبيرا بانتظارها، و لكن الندم كان يفترس قلبها، أرادت أن تراه ينتقم لها من نفسها، لم يفعل… لم يفكر في ذلك، بل حمل أوراقه و حقيبة ممزقة و هو يركض خارجا، فتح الباب و اصطدم بها..
تلعثم، و بهت وجهه، أراد أن يتكلم، و لكنها سحبت الحديث من لسانه نحوها بصمت مشتعل.. نظرت في عينيه و هي تتحدث إليه بدون أي كلمة نطقتها: أتسامحني؟.. ابتسم بسخاء، و تناول يدها، طبع قبلة على جبينها.. و هو يقول لها: لست إلها..
________
*شاعر و قاص من الجزائر

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *