*حوار: عبدالعزيز جدير
تُعتبر الأديبة المصرية نوال السعداوي من أكثر المثقفين العرب إثارة للجدل، وهي تؤكد دوما أنها بدأت الكتابة منذ الطفولة كنوع من الرفض لمجتمع ذكوري دأب على الاستخفاف بالمرأة وإلحاقها دوما بالرجل، مشيرة إلى أن الكتابة سببت لها كثيرا من الألم واللذة في آن، في الحوار التالي تستعرض السعداوي جزءا من سيرتها الذاتية وعلاقتها بالكتابة التي رافقتها منذ أكثر من نصف قرن.
○ كيف بدأت الكتابة؟
• منذ بدأت أعرف الحروف وأكتب اسمي واسم أمي إلى جانب اسمي، ثم اسم أبي.. وحين شطب المدرس اسم أمي وضربني على أصابعي بالمسطرة، وقال «اشطبي اسم أمك. اكتبي اسم أبيك وجدك»، أصابني شيء من الغضب عبرت عنه بالكتابة. بدأت أكتب وأغضب وأصر على أن أحمل اسم أمي وأعترف بها أمام الجميع كشخص أحبه، بدأت الكتابة هكذا منذ الطفولة.
○ إذن الكتابة لديك مثلت نوعا من التحدي والرفض ورد الفعل على فكر معين يسود المجتمع؟
• تماما، كانت البداية بالكتابة نوعا من الغضب، في المدرسة والبيت والشارع.. حين كنت أمشي في الشارع وأنا طفلة، كان الصبيان الصغار يضربونني بالحجارة على صدري. وأنا صغيرة في سن التاسعة والعاشرة حين بدأت أذهب إلى المدرسة ونبت لي نهدان صغيران.. كان الطوب يلقى على صدري وأنا ذاهبة إلى المدرسة، وكنت أغضب لذلك. كما أغضب لعيون الرجال وهي تقتحم جسمي. كل هذا دفعني إلى الكتابة، ومنه أيضا تفضيل أخي عليّ. ولماذا كان الناس يحترمون البنات من الطبقة العليا، ابنة المأمور وأولاد الأغنياء واحنا أولاد الفقراء يضربوننا..
○ كتبت في مجال البحث عن المرأة والرجل والجنس، وكتبت في مجال الإبداع الرواية والمسرح والسيرة الذاتية، ماذا حققت لك الكتابة؟
• حققت لي السعادة. أنت تعرف أن حياتي سلسلة من الآلام وأنواعا كثيرة من القهر، الخاص والعام، ودخول السجن، والفصل من عملي والنفي، وتشويه السمعة.. وذلك بسبب الكتابة. كتاباتي جلبت لي الآلام ولكنها جلبت لي أيضا اللذة. هي لذة الإبداع. وأذكر أنني، وأنا في السجن، الشيء الوحيد الذي جعلني أتغلب على الجدران وعلى القضبان الحديدية هو الكتابة، فلذّة الكتابة، ولذة الإبداع طغت على جميع الآلام وخلقت بداخلي مناعة ومنحتني صحة نفسية وقوة جسمية غريبة جدا أعيش بها حتى اليوم.
○ في رواية «مذكرات طبيبة»، تشيرين إلى أنك قصصت شعر رأسك وأغضبت والدتك، وهذا جاء بعد طلب الأستاذ شطب اسم امك، هل نحن أمام انتفاضة البنت من أجل الأم، ثم انتفاضتها ضد الأم؟
• أمر تشطيب اسم الأم حدث يوم دخلت المدرسة، خلال مرحلة الطفولة، وقد كنت أحب أمي جدا في الطفولة، لكن علاقتي بها بدأت تتغير، وبدأت أغضب منها لأنها كانت تحاول أن تفرض عليّ أوامر المجتمع، ومنها أن يكون لي شعر طويل، تُضفره وتُسرحه وتؤلمني. وكان لأخي شعر قصير جدا لا يمشطه، ويجري ويلعب في الشارع بحرية وأنا مقيدة بشعر رأسي وبجسمي.. فأردت أن أتخلص من قيد هذا الشعر الطويل الذي تحميه أمي وتغسله وتمشطه بالساعات. كان سلوكي نوعا من التمرد على القيود المفروضة علي كبنت.
○ كأن الأم، في هذا المجتمع، تريد أن تعيد صياغة ابنتها على الشكل الذي صيغت عليه هي من لدن أمها، ليبقى المجتمع على نمط واحد ساكنا ومستقرا، أليس كذلك؟
• تماما، كانت أمي تخاف عليّ. هي كانت منقسمة على نفسها: جزء منها يؤيدني ويدفعني إلى الإبداع والحرية والتمرد، والجزء الآخر، الذي يعيش بالخوف من المجتمع، كان يحاول أن يكبلني ويجعلني مثلها. وكنت أتمزق بين الجزأين اللذين يشكلان أمي، كنت أغضب منها وأحبها. ثم أغضب ثم أكرهها، ثم أحبها، وقد عبرت عن كل هذا في كثير من الروايات والقصص.
○ أعمالك الأولى تدور حول المرأة من منظور علمي خاص بمجال الطب، وتتخذ أحيانا شكل أبحاث في علم الاجتماع أيضا، هل ساهمت ممارسة الطب في دفعك نحو العناية الفائقة بالمرأة؟
• بالطبع، دراسة الطب أثرت فيّ كثيرا وفتحت عينيّ على أشياء كثيرة منها ختان البنات. كيف يُقطع عضو مهم كالبظر من أجسام الأطفال البنات؟ وكيف يختن الذكور أيضا؟ والطفل لا يتجاوز عمره الأسبوع الواحد، يقطع جزء من جسده وينزف، وأحيانا يتلوث الجرح، فقد كنت أفاجأ بهذه الممارسات الطبية الخطيرة ضد الأطفال، لكنني لم أكن أفهم لماذا يحدث ذلك، ثم بدأت أدرس لماذا حدث ذلك في التاريخ. الطب مكنني، أيضا، من أن أشرّح جسد الإنسان المرأة والرجل. وتشريح الجسد مهم جدا لمعرفة ما يوجد بداخله: شكل القلب، والطحال، والأمعاء، والأعضاء الجنسية، وظائف الأعضاء.. ثم دراستي، في ما بعد، للجنس. ففي الطب، لم يدرسونا الجنس، ولا النفس. ولكن علوم الطب، قادتني إلى النفس، والجنس وما إلى ذلك. فعلى الرغم من أن حلم حياتي لم يكن أبدا أن أكون طبيبة، لكنني لم أندم أبدا على دراسة الطب لأنها ساهمت بشكل كبير وعميق في كتاباتي الأدبية والعلمية.
○ أشرت قبل قليل إلى الجنس. وهو يؤدي دورا مهما جدا وخطيرا أيضا في حياة الإنسان. هل طبيعة المجتمع، ووضع الجنس الذي يجب أن يمارس في خفاء ولا يلامسه الحديث الصريح تسبب آلاما معينة للإنسان؟
• أكيد، ومن ضمن الأشياء التي أرقتني خلال حياتي منذ الطفولة حتى الآن، الازدواجية الأخلاقية السائدة في مجتمعنا وفي الخارج أيضا. الازدواجية الناجمة عن القيم الطبقية الأبوية التي تفرق بين الناس على أساس الجنس والطبقة والعرق، واللغة والدين… وذلك مبعث تمردي ضد المفاهيم التقليدية للأديان. وكيف يستخدم الدين ويتاجر به أحيانا، لاضطهاد الفقراء والنساء. وكنت أكره الخفاء، التخفي جدا.. مجتمع يتخفى، يدفن رأسه في الرمال على حين أن مؤخرته عارية تماما (ضاحكة).
وكنت ألاحظ هذه الظواهر وأكتب عن كل هذه الأشياء التي تسود في المجتمع، ومن هنا جاء العقاب الشديد من المجتمع؛ لأن المجتمع لا يسمح ولا يغفر لأي كاتب أو كاتبة يحاول أن يعريه ويكشف التناقضات التي تسكن أحشاءه. التناقضات السياسية والأخلاقية والجنسية وما إلى ذلك..
○ هذه الازدواجية المتحكمة في المجتمع، التي تتحرك بين الظاهر والمستتر، قد تكون على المستوى الأدبي قتلت الجنس الإبداعي المتمثل في جنس السيرة الذاتية التي تقوم على البوح لتضمن لنفسها الألق، وتضمن لقارئها المتعة والعبرة، ولذلك لا نجد السيرة الذاتية تشكل تقليدا وجزءا من فاكهة الإبداع في العالم العربي كما هي في الغرب قائمة على الصراحة والمصارحة وتعليم القارئ، هل توافقين على هذا الأمر؟
• هذا صحيح. وأنا لم أقرأ سيرة ذاتية باللغة العربية كشفت عن الجنس المعلن والمخفي، وعن العالم الخفي وعن الازدواجية. لم أقرأ ذلك باللغة العربية، وفي سيرتي الذاتية أيضا «أوراق من حياتي» وهي في ثلاثة أجزاء، حاولت لمس هذا الجزء من حياتي بخفة لأنني نلت الجزاء، فصراحتي عرضتني لأذى كثير.
لم أرد لسيرتي الذاتية أن تلوكها الألسن بسبب حوادث جنسية، لذلك أحببت أن أصل إلى القارئ عن طريق التورية والصراحة أحيانا، فلا أكذب وفي الوقت نفسه لا أكشف كل الحقيقة. ولكن، في كتاباتي المقبلة سأكشف عن كل الحقيقة، وليكن ما يكون.
○ أشرت قبل قليل إلى القيم الطبقية والأبوية في المجتمع العربي، أود أن أقف عند هذا التوجه الذي يوصف في كتاباتك بالأنثوية أو الأدب النسائي. هل يزعج نوال السعداوي وصف كتاباتها بالأنثوية أو النسوية؟
• لا، هذا يحدث فقط في النقد العربي. أعتقد أن هناك مشكلة بين النقاد العرب، ومعظمهم رجال ذكور، فهم يرهبون صراحة المرأة المبدعة ولا يذكرون أبدا اسمي في مصر وفي البلاد العربية. حينما يذكرون الكاتبات، نادرا ما يتجرأ ناقد ويذكر نوال السعداوي. هم يخافون، ثم هناك جهل بما يسود في المجتمع الطبقي الأبوي، وهم كذكور يستفيدون من هذا المجتمع الطبقي الأبوي ويستفيدون من تحيز كل الأديان لهم. طبعا، هم لا يرحبون بفكر جريء تكتبه امرأة، ولذلك من اللازم عليهم أن يسموه بالإيديولوجية، وبالأدب العالي النبرات.. وما الإيديولوجية؟ هل يريدون أن تكتب المرأة الأدب من دون الاستناد إلى فكر؟ أنا لا أفصل الإيديولوجيا، والإيديولوجية فكر، لا أفصلها عن التعمق في الإيديولوجيا والفكر والأدب.. أنا طبيبة، وكاتبة ومبدعة وروائية. لا أفصل بين الطب والعلم والأدب والفن ولا العقل ولا الجسم ولا الروح.
هم يفصلون بين الجسم والعقل والروح لأنهم ورثوا الثنائيات منذ نشوء العبودية بين الجسد والروح. لكنني، حقيقة، بسبب أنني امرأة وعانيت من هذه الازدواجيات والثنائيات الموروثة بدأت أربط بين الجسد والروح والعقل.. وأكتب، ولا أخاف من حكاية الإيديولوجية. لا بد أن يكون لنا فكر. هم يريــدون نســـاء يكتبن عن الجنس نفسه منفصلا عن السياسة، منفصلا عن المجتمع، منفصلا عن التاريخ.
يتصورون أن الرواية لها شكل واحد، وطريقة واحدة في الكتابة، ورثوها عن النظريات النقدية التي يحفظونها عن الغرب. لكن للأسف لم تبدع الحركة الأدبية النقدية العربية مدارس جديدة تستطيع أن تفهم الأدب الجديد الذي تكتبه النساء ذوات الجرأة والشجاعة.
_______
*القدس العربي