أول حوار مع باتريك موديانو بعد فوزه بنوبل


*أبو بكر العيادي

يوم الحادي عشر من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، خصصت إذاعة فرنسا الثقافية حصة بعشر ساعات لباتريك موديانو بمناسبة فوزه بجائزة نوبل للآداب، استمرت من الثانية بعد الزوال إلى منتصف الليل، وشملت شهادات وتحاليل وحوارات من بينها حوار أجرته مع الفائز نفسه في بيته. هنا مقتطفات من هذا الحوار الذي دام ساعة كاملة، نشرتها مجلة لوبوان في عددها الصادر يوم 16 أكتوبر/ تشرين الأول 2014.


◄ لوبوان – عند فوزك بجائزة نوبل قلت إن ذلك “غريب”. هل لك أن تشرح لنا معنى هذه الكلمة؟
* موديانو- قلت ذلك لأني لم أكن أتوقع إطلاقا حصولي على جائزة نوبل. عندما جاءني الخبر، أحسست بنوع من الازدواجية، كأن شخصا آخر حصل عليها. وبخصوص هذه العبارة “غريب”.. كان يمكن أن أكون أكثر دقة. في الحياة أحداث كثيرة يمكن أن تفاجئ المرء بشكل تجعله كالسائر في المنام. لا يدرك تماما ما حدث، فيواصل السير. ذلك النوع من الغرابة هو الذي حاولت وصفه. كنت أود أن أعرف في الحين لماذا وقع اختيار اللجنة عليّ، لكي تتضح المسألة أمامي. ثمة دائما نوع من العتمة أمام مؤلفاتك، لأنك تنظر إليها من مسافة قريبة جدا.
الذاكرة والاحتلال
◄ أعضاء لجنة نوبل اختاروك لـ”فن الذاكرة، الذي ذكّرتَ من خلاله بمصائر البشر الأكثر استعصاء على الإمساك، وكشفت عن عالم الاحتلال”. ما رأيك في فهمهم لأعمالك؟
* نشعر بالاطمئنان حينما تبرز من الفوضى جمل قصيرة كهذه. كأن شخصا يوقظك من حال السير في المنام التي أنت فيها، نحس بنوع من الارتياح أننا نفهم أخيرا ما نكتب. الذاكرة. أجل… ولكن في خلفية من النسيان. فالإطار العام هو طبقة من النسيان تنجح الذاكرة في إحداث ثقوب صغيرة فيها. الحقل الأساس هو النسيان دون ريب. هذه الكتلة من النسيان هي طبقة تغطي كل ما عشت.
◄ لم يتحدثوا عن الذاكرة فقط، بل عن الاحتلال أيضا.
* أجل. كل الذين ولدوا مثلي عام 1945 أو بُعيد الحرب كانوا موسومين وكأنهم خارجون من فوضى عارمة. اللقاءات التي كانت تتم في فترات الحرب الفوضوية تلك ما كانت لتعقد في فترات أكثر سكينة. أنا لست حالة خاصة. كثير من الناس عاشوا حالة الفوضى تلك، حيث كان أهلهم أهلا بالصدفة، أناسا تراموا في أحضان بعضهم بعضا في مراحل مضطربة، تحت القصف أو في ظروف غريبة. من وجهة النظر الروائية، يمكن أن تنتج عن هذه الحالات أشياء هامة. فاللغز يستثير الخيال، حتى وإن كان مؤلما في الحياة العادية. ينتاب المرء إحساس بأنه طفل من جهة غير محددة.
◄ أهديت جائزتك لحفيدك. هل النقل مسألة هامة بالنسبة إليك؟
* ذكرته لأنه من جنسية سويدية، وكان غريبا أن يقع اختياري لهذه الجائزة السويدية. هذه المصادفة. لعل ذلك ردّة حنين إلى ما لم أعشه، أو لأني لم أعش في إطار طفولة تحمي.
◄ كيف تنظر إلى شباب اليوم ؟
* ولدوا مباشرة مع الإنترنت. هم أشبه بكائنات خيال علمي. وفي الوقت نفسه، هم أحيانا أكثر اهتماما بالأدب من شباب جيلي، وهذا أمر غريب نوعا ما، خصوصا أنهم، حينما أرقبهم في الشارع، لا يختلفون عني حين كنت في العشرين، هناك نوع من اختلاط الأزمنة. في طفولتي كانت هناك أشياء مدهشة، آلات، مثل مضخات البنزين. أما هم فيستعملون منذ الثالثة آلات أكثر تطورا. ولسوف ينتج عن ذلك مخيال آخر. يهمني أن أعرف ماذا سيفعل هؤلاء بخيالهم ذاك حينما يبلغون العشرين. التدفق والفورية، سوف ينعكس ذلك في الأدب بكل تأكيد.
هروب إلى الأمام
◄ هل ستغير جائزة نوبل طريقتك في مقاربة كتابك القادم؟
* هي دائما نفس المشكلة. بعد الانتهاء من تأليف كتاب، يكون هناك شعور بعدم الرضا. ولكي نتدارك ذلك نغوص من جديد في كتاب آخر. إنه هروب إلى الأمام.
◄ على رفوف مكتبتك مؤلفات لجان رولاّن صاحب “حكايات شارب الإيثير”. هل لك علاقة خاصة بمادة الإيثير؟
* عندما كنت صغيرا، صدمتني سيارة. كان حادثا بسيطا نقلنني على إثره راهبات إلى إحدى المصحات، حيث وضعن على وجهي نوعا من القناع المنوم. كانت تلك مادة الإيثير، وقد تركت فيّ أثرا كبيرا، نظرا لتضارب حسها: رائحة نفاذة، لها في الوقت نفسه من الطراوة ما يدفع إلى الإدمان عليها. وهو ما لم أقدم عليه لحسن حظي. طراوة وثقل. ثمة أشياء تكون لديك رحما للمخيال. أذكر أن بول سيلان له ديوان بعنوان “خشخاش وذاكرة”…
شيء معقد
◄ روايتك الأخيرة “لكي لا تتيه في الحي” تبدأ بهذه الكلمات : “لا شيء تقريبا.” ونجدها أيضا في الصفحة الأخيرة… ما هو هذا الـ “لا شيء تقريبا” الذي يزعم البعض أنك تصنع منه أدبك؟
* هو شيء يبدو لك عاديا في بدايته، مثل وخزة حشرة أو وخزة إبر العلاج، تخز مكانا بعينه فتنتشر. ذلك ما أحاول فعله، وهذا أمر معقد، فيه محو ونقص ووقت ميت لا يُدرَك بين الجمل، ما يجعل القارئ مضطرا لمحاولة إعادة تركيبه بنفسه. ذلك هو الـ”لا شيء”.
◄ هل تواصل نشاطك الذي تمارسه بالتوازي مع الكتابة: تكديس الدفاتر التي تسجل فيها تواريخ وأسماء وأماكن ومعلومات عن أناس عاشوا بالفعل؟ أشياء عن أمك وأبيك، عن الذين عرفتهم تحت الاحتلال؟
* هو نشاط غريب جدا، ليس لغرض تكوين تشكيلة. قلت إن لي دلائل الهاتف. في الحقيقة، هي دلائل يرجع عهدها إلى 39-40، بالغة الدقة، تحوي الأسماء والعناوين وأرقام الهاتف. ولكن أولئك الناس زالوا وانتقلوا إلى نوع من الخيال، كأن الدليل بأكمله متخيل: هم أناس عاشوا، ولهم عناوين ولكنهم تبخروا. مثل استهلال حلم حول أشياء محددة أحتاج فيه أحيانا إلى من يغذيني. إنه أشبه بالمنشطات. لديك قائمة من الأسماء وأنت تعرف أنك تجهل عنها كل شيء. أمر ملغز وبالغ الدقة في الوقت نفسه، يجعلني في حالة أخرى، ويساعدني على الكتابة. ينبغي أن يكون هناك هذا النوع من الرغبة في البحث. يبدو الأمر معوجّا وفيه تعسف. إنه أمر معقد.
◄ غالبا ما تردد هذه العبارة: “إنه أمر معقد”. ما هو الـ”معقّد”؟
* هي جملة عفوية لربح الوقت. الإجابة عن سؤال أمر صعب. لذلك أقول “هذا أمر معقد”، وأدرك أنه لا تزال أمامي ثانيتان.
_________
*العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *