عائد إلى…عيلبون


د.رنده زريق- صباغ *

(ثقافات)



“وين أبوي يمّا “؟!….سألت على غير العادة… فإنّ السؤال المعهود حين تدخل بيت أهلها هو أين أمي؟ فكأن أمها لا بدّ وأن تكون أمامها حال دخول البيت مباشرة، إنّها المرة الأولى التي تزور أهلها فيها ولا تجده جالساً على كرسيه في مدخل البيت،ولا في سريره ولا حتى يشاهد التلفاز!
سيطر الذعر على ذاتها،وقيّد الهلع حركتها…
مستذكرةً حديثه عن أبيه/جدها اتكأت على الكنبة ورمت بثقل جسدها وروحها عليها…
تراكضت كلماته كشريط صور في مخيلتها لتشعر بنبضها وضغط دمها ينخفضان رويداً رويداً…!
“تخافش يابا! راح أرجع…أقعد حد إمك وإخوتك …ستنّوني …تخافوش يابا تخافوش”!!!
ربّت على كتفي وتوجه نحو جدار الكنيسة منصاعاً للضابط حيث أوقف كافة رجال البلدة الذين اختارهم !
وأما أهل عيلبون فقد مشوا خارج الوطن باتجاه الشمال تحت وطأة قهر وظلم الاحتلال…رجالاً،نساءً،شيوخاً وأطفالاً انصاعوا لأوامر المحتل وصدّقوا كلامه بأن خروجهم لن يطول أكثر من يومين وأنهم سوف يعودون لعيلبونهم عاجلاً…!
“راح أخوي نعيم وباقي الرجال”…قال عمي إذ وصل لأسماعنا صوت إطلاق رصاص اتضح أنه أُطلق على مجموعة الرجال المختارين ليسجلوا بدمهم وأعمارهم المغتالة تاريخ عيلبون…تلك القرية الجليلية الوادعة التي هُجِّر أهلها في الثلاثين من تشرين أول1948.
البرد والوحل…الرعد والريح… الذّعر والرّعب كانوا رفاق درب العيلبونيين في طريق آلامهم التي امتدت حتى لبنان منضمين لقافلة المهجرين من قرى ومدن فلسطين النازفة دماً،وجعاً وحرقةُ….!
“وين أبوي يمّا؟…ليش ما إجاش معنا”؟…”شو صار فيه وبالرجال يمّا”؟…ذرفت لؤلؤتين من زمردتين وتنهدت واضعةً يمناها على بطنها متحسِّسة جنينها ابن الشهر التاسع،ماسكةً بيسراها يدي الصغيرة لتمنحني الأمان والاطمئنان في خضم هذا الرعب الغامض …هذا الجوع، البرد، القهر والذل المسيطر على أفئدتنا صغاراً وكباراً…!
دخل الجنود إلى عيلبون صباحاً وطلبوا من الأهالي الذين اختبئوا في الكنيسة أن يخرجوا منها ويتجمّعوا في ساحة مركز القرية
“روح يمّا نادي أبوك من البيت… لما انهزمنا نتخبّىبالكنيسة كان عم بحلق ذقنه تيروح عندار عمك،بخاف الجيش يلاقيه بالبيت ويفكروه متخبّي منهن فيطخّوه!روح يمّا برضايي عليك”…!
يا ليتني لم أذهب…ليتني لم ألبّ رجاء أمي الذي كان وسيلة الزمن ليغدر بأسرتنا ويثكلنا أبانا الغالي…ليتك يا أمي لم تطلبي مني ذلك فتحملينني عبء الذات والضمير أبد الدهر…!
ناديت أبي وعدنا مسرعين إلى الساحة حيث جلس الجميع القرفصاء محاطين بالجنود والأسلحة…
قامة أبي الطويلة، طلته البهية وشخصيته الجذابة لفتت انتباه الضابط الذي سرعان ما أشار له بسبابة يمناه طالباً منه القدوم إليه…رغم أنني لم أفهم في حينه معاني نظرة أبي التي تعارضت تماماً مع كلماته،إلا أنني أذكر الرعب الذي عشّش في أعماقي لحظتها وشلّ تفكيري الطفولي ومشاعري البريئة التي ما فتئت أن تحولت خلال دقائق معدودات إلى بالغة ناضجة فاقدة كل مظهر من مظاهر الطفولة…!
“تخافش يابا! راح أرجع…أقعد حد إمك وإخوتك … ووصّى أخونا الكبير الياس وقلّو دير بالك ع إخوتك يابا…ستنّوني …تخافوش يابا، تخافوش،راح أرجع”!!
ربّت على كتفي ثم يدي قبل أن يتركها ويتركنا فيذهب حيث اللا عودة،وأما نحن فقد صدّقنا وعده الصادق المذعور ولا زلنا بانتظار عودته الينا فيرانا وأولادنا وأحفادنا ويكحّل عينيه بجمال سماء الوطن.
تذكّرت الآن جملة والدها التي طالما استعان بها ليرفض محاولاتهم بجعله يسافر في رحلة ليومين أو ثلاثة،”بقدرش أغفل برّيّة عيلبون…تحاولوش تقنعوني أسافر أو أروح مشوار لأكثر من يوم واحد!
برّيّة عيلبون بقدرش أنام،خلص تناقشونيش يا ولاد”!
أدركَت الآن بوعي تام تداعيات ومضامين هذه الجملة التي طالما أثارت تحفظاً ولا تفهماً من قِبلِها وقِبَل ِإخوتها…لم تُدرِك رُعبَه من الموت خارج عيلبون قبل اليوم،ولم تعي بالفعل أي شعور إنتاب أباها منذ تلك الصبيحة واستمر معه حتى اليوم والى آخر يوم في حياته، لترتسم أمامها صورة حنظلة الذي أصر على أن يشيح بوجهه وجسده عن كل من رأوه فيدير لهم ظهؤه كوسيلة تعبير جسدي صامتة.
“رجعة أهل عيلبون يا ولاد عجيبة…وحياة الله عجيبة من السما!
انتو فاهمين شو يعني رجعنا بعد التهجير للبنان وبعد المذبحة؟!
فاهمين شو يعني عيلبون هي البلد الفلسطينية الوحيدة من بين ميّات البلاد الفلسطينية المهجّرة اللي أهلها رجعوا عليها وبنوها وبنوا حالهم من جديد”؟!
حين عادوا وجدوا البيوت فارغة تماماً…لا طحين ولا قمح،لا زيت ولا زعتر،لا أغنام ولا دجاجات،الأغطية والملابس القليلة قد نُهِبت،حتى الأرض قد جفّت واختنقت نباتاتها..
وعاش أهل عيلبون على مؤن ومساعدات الصليب الأحمر ما يقارب العام إلى أن تمكّن الأهالي من استعادة ذواتهم والعودة إلى الحياة من جديد بدءً من الصفر واللا شيء متناسين غير ناسين القهر والتهجير القتل الاحتلال والمعاناة.
هُجِّر أهل عيلبون كلهم في ذلك اليوم المشئوم ولم يبق فيها سوى عجوز غير قادرة على السير وكاهن البلدة الذي لم يَؤلُ جهداً في إرسال المراسيل والرسائل للجهات المهنية القادرة على المساعدة…أدرك هذا الكاهن أن ما اقترفته إسرائيل بحق عيلبون وأهلها منافٍ للقوانين الدولية-فحين يرفع السكان العلم الأبيض يمنع منعاً باتاً على الجيش اقتراف الجرائم بحقهم- التي اعتمد عليها في شرح ووصف ما قام به الجنود في قريته… إهتم قريبه الكاهن في لبنان بإيصال الرسائل للفاتيكان وللأمم المتحدة التي بدورها أرسلت وفداً للتحقيق في صحة ما وصلهم من معلومات خطيرة وإنتهاك للقوانين الدولية، مع العلم أنه تم ارتكاب المجزرة والتهجير بعد قيام إسرائيل بأشهر خمسة.
“وصلت اللجنة يابا وأخذهن الخوري للمقبرة عشان يكشفوا عن الجثث ويعرفوا شو سبب الوفاة…وبعد ما شافوا وبعد ما فحصوا تأكدوا إنهن انطخّوا كلهن بنفس الوقت من مسافة قريبة ،وقدروا يعرفوا كمان نوع السلاح”.
وهكذا قامت الأمم المتحدة بعد استلامها تقارير اللجنة،بإصدار قرار يُلزم إسرائيل بالسماح لمهجري عيلبون بالعودة إلى وطنهم… وصل لأهلها نسخة منه أثناء تواجد قسم منهم في بلدة الرميش اللبنانية والقسم الآخر في مخيم للاجئين…
وهكذا بدأت رحلة العودة القاسية إلى عيلبون الوطن،عيلبون مسقط الرأس،عيلبون الأصل والمحبة… رحلة مزجت الدمعة بالبسمة، الفرح بالحزن، الكآبة بالإندهاش في أن معاً…! عيلبون التي شاء موقعها الجغرافي أن تكون الإنطلاقة والبداية .
ما أن انتهت تلاوة القرار في الساحة أمام الجميع حتى قررت أغلبية مهجري عيلبون العودة مباشرة…
لم يحتج القرار لكثير من وقت وتخطيط،فالعودة ثم العودة ثم العودة إلى الوطن عيلبون….
قرر عدد قليل من الرجال والعائلات البقاء عند معارف أو أقارب لهم في لبنان، ومنهم من هاجر من هناك إلى أوروبا وأمريكا أو دول الخليج بعد سنوات قليلة ليشعروا بالشوق والحنين لوطن غالٍ لم يحظوا بفرصة العودة إليه …لم يولد أولادهم تحت سمائه ولم يحظوا بالشرب من مائه…فقضوا السنين على أمل العودة.
“يا الله ما أحلى الرجعة لعيلبون…ما بنسى يابا لما فتنا ع ساحة الدار وإجت بسّتنا ركضت لعندي،هي المخلوق الحي الوحيد اللي لاقيناه بساحة الدار، لا ظل جاج ولا مِعزا ولا خروف، حتى الحمار ما لاقيناه…بتذكر يابا إني عَبطتها وصرت أبكي.. أمي وإخوتي بكيوا معاي،وكانت أول مرة منبكي فيها بهذا الشكل من لما طلعنا يابا، كإنها هالبسّة بترحب برجعتنا وبتقول أهلا وسهلا وين هالغيبة يا جماعة؟!”
وذرف لؤلؤتين من لوزتين خضراوين أعياهما القهر والشوق للوالد، تنهّد متنفِساً الصعداء مانعاً البكاء من الإنفجار.
ها هي عيلبون اليوم قرية وادعة هادئة جميلة…ها هي تحظى بالحياة من جديد وتبث فيها الروح من جديد… فقدكان الإصرار على العودة وتحقيقها هو أهم قرار وأفضل خطوة قام بها مهجرو عيلبون،خطوة ساهمت في بقاء عيلبون قرية فلسطينية عربية…لم تتحول إلى أطلال قرية مهجرة كعشرات القرى الأخرى…ولم تتحول إلى مستوطنة يهودية غربية البنيان والسكان….عادت عيلبون الفلسطينية لتبقى فلسطينية بسكانها وناسها المميزين…!
كانت تسمى عيلبون… صارت تسمّى عيلبون …ظلّت وستظل تًسمّى عيلبون
ها هو الجيل الثالث للنكبة والتهجير صامد في عيلبون …متمسكاً بلغته الأم،محافظاً على تراث الآباء والأجداد بكل ما أوتي من قوة…والحق أقول إن الفضل في ذلك يعود إلى الجيل الأول…جيل المهجرين العائدين إلى الوطن محتفظين بمفاتيح الأبواب رغم خلع هذه الأبواب من قبل بعض الانتهازيين المستغلين لخروج أهل البيت من البيت!
“بتعرفوا يا ولاد؟! رغم قساوة وصعوبة اللي صار فينا،بعد في عندي أمل …وبتمنّى كل المهجرين الفلسطينيين يرجعوا ع ديارهن وبلادهن يابا…وما بدي إيّاكو تنسوا هاظا لإشي بيوم من الأيام…إحنا صحاب حق يابا…كل الفلسطينيين صحاب حق، ولا بد الحق يرجع لصحابه…ومثل ما بيقولوا:- ما بيظيع حق وراه مطالب،وبتعرفوا يا ولادي؟ أهل عيلبون ما أخذوا كل حقهن بالرجعة للبلد…لأ وميت لأ…!
إحنا لليوم يابا ما حدا قدّم لنا اعتذار شفهي ع الأقل ع اللي صار،وأكيد مش إعتذار مكتوب،وواظح إننا ما حصلنا على أي تعويظ مادي من حدا …بوصيكوا تتابعوا هالشغلة هاي وتهتموا توصلوا قظيتنا لأعلى المستويات وتطالبوا بالتعويظات وتطالبوا بالاعتذار يابا،هيك أنا برتاح وروح سيدكو نعيم وباقي الشهدا بترتاح…!”
إستعادت كل ذلك في لحظات قلق وذعر على صحة والدها وحياته حين لم تجده في البيت…وكرهت نفسها جداً إذ لم تهتم بتنفيذ رغبته ووصيته قبل اليوم، ولأنها خذلته كما خذلت أمها وخذلت نفسها أيضاً إذ لم تكتب تاريخ هذا البلد في كتاب رواية هي هدفها الراقي الذي عاهدت الجميع على إتمامه. 
وقبل أن تسمح لأفكارها وذكرياتها بالاستطراد أكثر … وقبل أن تتعهد بتنفيذ كل ذلك قريباً، إذا بأبيها يعود إلى البيت مبتسماً كعادته، مرحباً بها، فإنّها رندة حياته وتعويض الدنيا له، فهي التي رأت نور عيلبون بعد عشرين عاماً بالتمام والكمال من ذكرى نكبة وتهدير فلسطين فقد ولدت في الخامس عشر من أيار 1968، أي بعد عشرين عاماً من الإنتظار… فما كان منها إلّا أن إنفجرت بموجة بكاء لم تعهدها من قبل.


* كاتبة وإعلامية من فلسطين 48

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *