*ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي
القسم الثاني
وجدتُ العمل في مختبر مدرستي الثانويّة مبعثَ راحةٍ عظمى لي بعد العناء الذي لقيته في مصنع الصوف : كان شيئاً شبيهاً بإطلاق سراحي من سجنٍ رهيب ، غير أن مسألة تحديد مستقبلي المهني بقيت تقلقني طوال الوقت ، إذ ظلّت تجربة عملي في المصنع تمثّل لي الجحيم لما انطوت عليه من رتابة فظيعة ، و من جانب آخر شكّل فقداني لأيّة رغبة من تلك الرغبات التي كانت متوقّدة في داخلي من قبلُ مصدرَ قلقٍ مستديم لي ، و كنت أسائل نفسي دوماً :
– ما المستقبل الذي يمكن توقّعه لي وسط تلك الظروف ؟
وبدا أن ليس من مستقبلٍ ينتظرني و ليس من مكانٍ لي وسط هذا المجتمع الذي لا أستطيع إيجاد فسحة كافية لمتابعة حياتي فيه . كان متوقّعاً جدّاً أن يكتشف مدير المدرسة انعدام أيّ شغف لي أو حتّى أدنى اهتمام بالرياضيّات التطبيقيّة أو الكيمياء التحليليّة و أنّني حينئذ سأغدو بلا عمل بعد أن أكون قد فقدت وظيفتي في مختبر المدرسة و سيتعيّن عليّ حينها العودة إلى مكتب العمل و الاضطرار لاختيار عملٍ من بين عدّة أعمال لا تقلّ سوءاً عن العمل في مصنع الصوف ، و عندئذٍ صار أمراً بمثابة اليقين لديّ بأنّني سأقضي بقيّة حياتي وأنا أعمل في مهنة أمقتها بشدّة ، و وجدتُني وسط هذه الأجواء المدلهمّة الكئيبة ألوذ بالأدب الذي تذوّقت في أجوائه شيئاً من بقايا راحة مفتقدة في عطل نهاية الأسبوع على أقلّ تقدير حين كنت ألتهمُ الشعر التهاماً ،و لكنّ هذا الفعل لم يكن ليخلو من جانبٍ شديد القتامة : إذ كان ينبغي عليّ العودة إلى العمل صباح كلّ إثنين من بداية أسبوع العمل الجديد و الوقوع في حبائل معاناة جديدة ، و لم يكن هذا الأمر ليخفى عن أنظار أستاذ الفيزياء الّذي كان مديري المباشر في الوقت ذاته ، و لم يغفل عن ملاحظة تظاهري بقناعٍ من الجدّية الكاذبة و لم يكن ليُفوّت كذلك أيّة فرصةٍ سانحةٍ لإغراقي في طوفانٍ من التعليقات المُذِلّة ، و لكن لحسن حظّي اكتشفتُ وسيلة عجائبيّةً يمكنها أن تحفظ شعور المرء بوجود هدف ما في حياته : الكتابة .
بدأت الكتابة بتجربة كتابة قوائم أشبه بيوميّات تحتوي على توصيفٍ لفعالياتي اليوميّة ثمّ بدأت أدوّن فيها كلّ ما أشعر به أو أفكّر فيه ، و استعرت ذات يومٍ كتاباً من مكتبة مدرستي الثانويّة بعنوان ( ما أؤمن به I Believe ) كان خلاصةً لعبارات أيقونيّة ذكرها أشخاص لامعون و مميّزون أمثال : أينشتاين ، جوليان هكسلي ، إج. جي. ويلز ،،، و في أحد أيّام الأحد و بعد أن أمضيتُ معظم الصباح في عملي المختبريّ مضيت و ابتعتُ كراسة ملاحظاتٍ ضخمة و جلست في أحد الأمكنة لأُدوّن عبارتي الخاصّة فيما أعتقده أسوة بهؤلاء المميّزين الذين قرأت عنهم في الكتاب ، و كانت عبارتي كاشفةً لما كنت أؤمن به و لمكانتي الخاصّة التي كنت أفترضها في هذا العالم ، ثمّ وجدت العبارة الواحدة البسيطة قد تضخّمت و استحالت صفحة كاملة ، و مضيتُ أكتب الصفحات واحدة بعد الأخرى و أنا في حالةٍ من الشعور الطاغي بالحرّية و التحرّر من أيّة قيود !! ، و كنت أدوّن بقدر مقبول من الموضوعيّة – كما كنت أحسب حينذاك – تشخيصي الذاتي لشكوكي و آلامي و المنغّصات التي تعترض حياتي ، و بعد أن وضعت القلم جانباً وانتهيت من ساعات طويلة من الكتابة غمرني إحساسٌ عارمٌ بأنّني لم أعُد ذلك الشخص الذي كنته من قبلُ والذي جلس قبل ساعاتٍ ليدوّن هذه الملاحظات على طاولة الكتابة . كانت حالتي آنذاك تبدو كمن يدقّق النظر في صورته التي يراها في المرآة و يعرف عنها أشياء جديدة لم تكن لتخطر له على بالٍ من قبلُ ، و منذ تلك اللحظة أصبحت الكتابة بمثابة البِئر العميق الذي أطرح فيه كلّ ما يمثّل عائقاً أمامي من قلقٍ و شكٍّ متعب في قدراتي الذاتيّة و تعلّمت أنّني عندما أفعل هذا أعيش بعدها في حالة تفاؤليّة جميلة و داعمة لنوعيّة الحياة التي أعيشُها .
كنتُ أقضي جميع عطل نهاية الأسبوع و أنا منغمسٌ في الكتابة مستعيداً حالة التفاؤل المبهجة التي تمنحها الكتابة ، و لكن بقيت مشكلتي المستعصية قائمة : إذ كان يتوجّب عليّ أن أبدأ كلّ أسبوعٍ بتوبيخٍ مُهين من أستاذ الفيزياء ، و بالحيرة التي تلتهم روحي وتَخِـز ضميري وأنا أتطلّعُ في منحنيات البلوَرَة الخاصّة بهيدروديناميك الموائع غير القابلة للانضغاط !!! و لم يكن مخزوني من حالة التفاؤل التي تُعمّر قلبي و روحي أيّام العطل ليقاوم أكثر من بضع ساعاتٍ حتّى ظهيرة يوم الإثنين من كلّ أسبوع و عندها أشعر أنّ عقلي قد استحال كتلةً ميّتةً غير قادرةٍ على الإتيان بأيّ نوع من الأفعال الحيويّة التي تسِم الأحياء !!! . أذكرُ كيف عدتُ عصر أحد الأيام التعيسة إلى المنزل وقت شاي العصر لأجد المنزل خالياً فوجدت الفرصة سانحةً أمامي لأُفرّغ إحباطي المتراكم في دفتر ملاحظاتي ، و كان الجوّ آنذاك حارّاً للغاية و شعرت بإعياءٍ شديد ثمّ بعد أن انغمست في ساعة متّصلة من الكتابة اللذيذة بدأت أشعر بثقل مميت ينزاح بعيداً عن كاهلي و اجتاحني طوفانٌ من الراحة كما لو أنّ دلو ماءٍ مثلّج انسكب على جسدي في تلك الأجواء الحارّة ، و لكن ما أسرع ما عاودني شعور الاكتئاب الخانق لأنّني كنت على يقين كامل بأنّ شعور الضجر و الإحباط سيجتاحني في نفس الوقت من اليوم التالي مثلما جرت العادة كلّ يوم ، ثمّ انتهيتُ إلى القناعة بأنه لم يعد الأمر منطقيّاً في المضيّ بحياتي على هذا النحو المرعب و كنتُ حينئذٍ في أشدّ حالات الغضب من الله أو القدر أو أيّ شيء آخر شكّلني على تلك الهيئة المزرية ثمّ قذفني في هذا العالم القاتل ليجعل منّي عرضةً لسيلٍ لا ينتهي من التوبيخات المذلّة و الجارحة من جانب المسؤولين عن أمور عملي ، كما تملّكني شعورٌ طاغٍ بأنّ الحياة ليست شيئاً حقيقيّاً و ما هي إلّا أكذوبةٌ و أنّ الزمان نوعٌ من أنواع الخداع نمارسه مع انفسنا . و عندئذ بدأت أتساءل : لِمَ يتوجّبُ عليّ المضيّ في هذه اللعبة السخيفة التي لاجدوى ترتجى من ورائها ؟ أليس الأفضل لي التخلّص من جميع هذه الأوهام بأن أدير مؤخّرتي نحوها احتقاراً لها ثمّ أمضي وأقتل نفسي بهدوء لأضع حدّاً حاسماً لمعاناتي القاسية ؟ !! ، و في اللحظة التي راودتني فيها فكرةُ قتلِ نفسي شعرت براحة كاملة ثمّ أدركت أنّني مسؤولٌ مسؤوليّة كاملة عن نفسي و عن قدري ، و أنّ الله إذا كان مسؤولاً عن إلقائي في خضمّ هذه اللعبة المميتة و السخيفة في ذات الوقت فلستُ مُرغماً بأيّ حال و تحت أيّ ظرف أن أواصل الّلعب بالطريقة المفروضة عليّ ، و عندما ركبت درّاجتي لاحقاً ذلك اليوم و مضيتُ للالتحاق بحصّة الكيمياء في المدرسة وسط أجواء الحرّ الخانقة كنتُ أشعر بنفسي قويّاً و متعالياً على وقائع الحياة اليوميّة العاديّة و متجاوزاً لحالة الضعف و الانكسار الذليل ، و كعادتي وصلتُ الصفّ متاخّراً و نِلتُ حصّتي المقرّرة من توبيخ الأستاذ دون أن أبدي من جانبي -اهتماما بما يحدث ، و عند اوّل فرصة سانحةٍ تسلّلتُ إلى غرفة المختبر الثانية الّتي صُفّت فيها رفوفٌ عليها زجاجات المحاليل و المواد الكيميائيّة ، فتناولتُ قنّينةً تحوي حامض الهيدروسيانيك و أزحت غطاء القنّينة و بدأت رائحة اللوز النفّاذة المنبعثة من الحامض تتسلّلُ عبر أنفي و كنت أدركُ تماماً أنّ رائحة هذا الحامض ستتكفّلُ بقتلي في أقلّ من نصف دقيقة !! ، ثمّ حصل أمرٌ غريب : أحسستُ بنفسي كائنين متمايزين عن بعضهما ، و في برهة وعيٍ عجيب تأمّلتُ ذلك المراهق النزق المدعوّ ( كولن ويلسون ) بكلّ بؤسه و إحباطه و بدا لي كائناً أحمقَ لا يستحقّ أن أعيرهُ أدنى اهتمام سواءٌ قتل نفسه أم لم يفعل ، و لكنّ المعضلة كانت انّه إذا مضى و قتل نفسه حقّاً فسيقتلني أنا الآخر معه !! و في لحظةٍ وجدتُني أقف بجانب ذلك الغِرّ و أهمس في أذنه : إنّك ما لم تبطل عادة الإشفاق على الذات المستحكمة فيك فلن يسعك فعلُ شيء ذي قيمة في هذه الحياة ، و أذكر كيف أنّ ذاتي الحقيقيّة أخبرت ذلك المراهق البائس : “تريّث أيّها الأخرق و فكِّر كم ستخسر عندما تمضي في انتزاع روحك من جسدك ” . و في تلك اللحظة الغرائبيّة كان بوسعي استشعار الغنى السحريّ العميق و الهائل الذي ينطوي عليه العالم الحقيقي وهو مالم أستطع رؤيته أو تحسّسه من قبل ، ثمّ امتدّ ذلك الإحساس الجارف ليأخذني معه بعيداً نحو آفاق لم أعهدها أبداً من قبلُ . أعدت غطاء قنّينة حامض الهيدروسيانيك القاتل إلى موضعها ، ثمّ تسلّلت بهدوء إلى صفّ الكيمياء التحليليّة وأنا أشعر باسترخاء عميق و بخفّة في القلب و قدرة على ضبط النفس لم أختبر مثيلاً لها في حياتي ، و من المثير للغاية القول أنّني و بعد أربعين سنة من محاولتي الانتحاريّة هذه أخبرتني السيدة ( مارلين فيرغسون ) و نحن نتمشّى على ساحل إحدى البحيرات في كاليفورنيا أنّها لطالما آمنت أنّ كلّ من أنجز عملاّ ذا أصالةٍ يعتدُّ بها في حقل الأدب أو الفلسفة قد اختبر حتماً تجربة وقوفه على شفير هاوية الانتحار يوماً ما في حياته ، و بالنسبة لي ، أظنّ أن تجربة الانتحار توفّر للمرء إمكانيّة فريدة – لا تُتاح لآخرين – في معاينة الهاوية السحيقة الّتي يعتزم الرحيل إليها وهنا تتحقّق له قدرة عجائبيّة في الفصل بين ذاته الحقيقيّة المبدعة بكلّ ما تحوزه من فرادة و بين ذاته الأخرى النزقة العابثة ، و في هذه اللحظة المفصليّة تستحيل تجربة الانتحار نوعاً من إعادة ولادة لذاتٍ خلّاقة عجزت عن رؤية إمكاناتها الثمينة قبل هذه التجربة الفريدة.
يتبع
________
*المدى