فيلم “فيوري” لبراد بت: الدبابة النظرية




غصون رحال *

( ثقافات )


يضرب فيلم ” حنق ” او “Fury” بطولة الممثل براد بيت Brad Pitt و تأليف واخراج دافيد أيرز David Ayer على اوتار المشاعر الانسانية التي تعتري المقاتلين اكثر من التركيز على العمليات القتالية ذاتها . تدور احداث الفيلم في نهاية الحرب العالمية الثانية ، تحديدا في ربيع عام 1945 ، ويتناول مسيرة طاقم دبابة من الجنود الامريكيين الذين قاتلوا الجيش الالماني في شمال افريقيا واوروبا وصولا الى المانيا نفسها في مهمة لتنظيفها من بقايا الجيش الالماني بعد ان اتضحت هزيمة هتلر في الحرب ، واعلانه تجنيد كل الشعب الالماني لحماية الاراضي الالمانية من غزو الحلفاء . 
المؤثرات البصرية الضبابية الرمادية التي تغلف الاجواء المحيطة بالدبابة تدخل المشاهد في حالة من اليقظة والحذر ، والاعمدة الدخانية التي تتصاعد من مخلفات القنابل والحرائق تضفي على المشهد بعدا واقعيا وتجعل المشاهد طرفا لا محايدا في مجريات هذه المعارك . أما الأجواء الداخلية للدبابة ، بقدر ما اريد لها ان تكون فضاء ضيقا يشي ببعض الأمان ، الا انها اتخذت في الحقيقة شكل فضاء قاتل بما يحتويه من أسلحة وذخيرة فتاكة.
يهدف الفيلم الى ابراز رزمة من الاحاسيس المتضاربة التي تتنازع المقاتلين والجنود في خضمّ ما يحيط بهم من اخطار واهوال الحرب ، ومنذ اللحظة الاولى التي يقوم بها قائد الدبابة المسماة فيوري ” ووردادي كولير” والذي يلعب دوره الممثل ” براد بيت ” بقتل الجندي الالماني عوضا عن أخذه اسير حرب تظهر المفارقة الأخلاقية ما بين مبدأ التمسك بقواعد الاشتباك وقوانين الحرب وبين حتمية الدوس على كل ما هو انساني وأخلاقي في سبيل الحفاظ على الحياة .
وتتعمق هذه المفارقة بعد التحاق المجند ” نورمان اليسون ” والذي يلعب دورة الممثل Logan Lemanعوضا عن احد افراد طاقم الدبابة الذي قتل في المعركة . لم يكن نورمان مقاتلا ، لم يشارك في اعمال حربية في السابق ، لم يطلق اي طلقة من سلاح ناري ، ولم ير في حياته دبابة من الداخل ، كان طابعا على الآله الكاتبة ، مؤهل لطباعة 60 كلمة في الدقيقة ، وقد اسند اليه القائد مهمة اولى بدت افظع ما رأي في حياته : تنظيف الدبابة من بقايا واشلاء الجندي الذي قتل داخل الدبابة ومن ضمن هذه البقايا جزء من وجه القتيل . لا شك ان هذه البداية لم تكن مشجعة لنورمان فقد سببت له القيئ والغثيان .
تنشأ بين المجند نورمان – والذي وصل سن البلوغ- وبين القائد علاقة متشابكة ، إذ يشعر القائد بالمسؤولية تجاه هذا المجند ويستميت في تعليمة فن القتل حين يرغمه على اطلاق النار على جندي الماني وقع بين يدي الفرقة اثر كمين كاد يودي بحياة فرقة الدبابة . امام توسلات الجندي الالماني والصور على عرضها على القائد لاسرته واطفاله ، يرفض نورمان اطلاق النار، الا ان القائد يمسك بيد نورمان ويضع السلاح في يده عنوة ويضغط على اصبعه التي ثبّتها على الزناد لتخرج الرصاصة التي فجرت رأس الجندي الالماني وطمرت توسلاته تحت طين الارض ، وبذلك يسجّل نورمان سابقته الاولى في القتل. على اثر هذه الحادثة تستهويه عملية اطلاق الرصاص على الجنود الالمان مرددا لنفسه : نازيين منحطّين ، كحافز يبرر به لنفسه اطلاق المزيد من النيران . 
تمضي المفارقة في التمظهر بعد ان دخلت الدبابة احدى البلدات وقام الجنود الامريكيون بقتل القائد العسكري الالماني بعد ان استسلم ورفع الراية البيضاء في مشهد يدعو الى التساؤل حول الدافع الاخلاقي الذي يستدعي قتل جندي بعد استسلامه بدم بارد ! وفي الوقت الذي يتوقع فيه المشاهد حفلة اغتصاب جماعي في شقة سكنية لإمرأة المانية بصحبة صبية جميلة هي ابنة عمها ، نرى القائد يتحلل من عدته العسكرية ، يغسل رأسه الملوث بالطين والدماء في وعاء من الماء الساخن ، يحلق ذقنه بهدوء تام ويستعد لتناول وجبة من البيض المقلي ، فيما يقوم المجند نورمان بالعزف على البيانو. هذا العزف خلق لغة تواصل بين المجند نورمان الذي لا يتكلم الالمانية وبين الصبية التي لا تتكلم الانجليزية مما شجعها على مصاحبة عزفه بالغناء . علاقة العشق السريعة الملتبسه هذه انهتها قنبلة المانية دمرت البيت على رأس الصبية وابنه عمها بعد ان غادر القائد ونورمان الشقة مما حطم قلب نورمان . 
المفارقة الكبرى تتضح في المشهد الاخير من الفيلم حيث يصر القائد على التصدي الى كتيبة من الجنود الالمان رغم العطب الذي الحقه لغم ارضى بدبابته ، وبعد ان يقرر افراد الطاقم الانسحاب وعدم المواجهة ، يعودون عن قرارهم ويلتحقون بالقائد لمواجهة الكتيبة الالمانية في مشهد بطولي يقتل فيه عشرات من الجنود الالمان وطاقم الدبابة باستثناء نورمان الذي اختبأ اسفل الدبابة . وفي محاولة غير واقعية وغير موفقة لخلق حالة من التوازن الانساني ، يتغاضى الجندي الالماني الذي كشف مخبأ نورمان عن الابلاغ عنه وينسحب بصمت .
حتى اللحظة الاخيرة ، لا يتخلى الفيلم عن سيطرتة اللعينة على المشاهد وابقائة رهينة للتساؤلات ، فبقدر ما يشتعل ذهن المتفرج بمحاكمة الممارسات اللا اخلاقية المرتكبة في الحروب بقدر ما يتعاطف مع هؤلاء الجنود لما يمرون به من أهوال ؛ صورالجثث المبعثرة ، مئات الجثث مجهولة الملامح التي يتم تحميلها على الناقلات فوق بعضها والقائها في مقابر جماعية قذرة ، مشهد الجندي الذي داسته الدبابة ذهابا وايابا حتى اصبح جسده في مفلطحا رقيقا كورق السجائر أشبه بافلام الكرتون وغيرها من مشاهد القتل والحرق المقززة. 
الافلام التي تناولت موضوع الحرب العالمية الثانية “بلاعبيها ” واحداثها ، ما ظهر منها وما بطن ، كثيرة جدا ، نذكر منها فيلم Saving Private Ryan وفيلم Pearl Harbor وفيلم “رسائل من لو جما ” (Letters from Iwo Jima) للمخرج والممثل) (Clint Eastwood عام 2006 الذي يصور الحرب من وجهة نظر جندي ياباني رادا على وجه النظرالامريكية للأحداث كما جاءت في فيلم ( (Flags of Our Fathers , وفيلم خط أحمر رفيع The Thin Red Line وغيرها ، لكن المثير للدهشة انه بالرغم من ان هذا الموضوع اشبع انتاجا وتمثيلا وتصويرا واخراجا في السينما العالمية ، والسينما الامريكية على وجه الخصوص ، الا انه موضوع ظل متجددأ ، مليئا بالحيوية والافكار الخلاقة لصانعي السينما العالمية . العديد من هذه الافلام ، خاصة فيلم سبيلبيرغ (Steven Spielberg ) لائحة شيليندر ( Schindler’s List) عام 1993 ، وفيلم المخرج رومان بولانسكي ( Roman Polanski) الحائز على جائزة الاوسكار عام 2002 عازف البيانو (The Pianist) كان لها أثر واسع في تشكيل حالة من الوعي الاستسلامي والانقياد الاسطوري لرواية ” المنتصر” فيما يتعلق بمجريات الحرب العالمية الثانية . وكان لحملة مناهضة النازية التي اطلقها الحلفاء فعل السحر في ترسيخ مفهوم معسكرات الاعتقال الخاصة باليهود واستدرار التعاطف الدولي مع ما يدعي ” بالمحرقة او الهولوكوست ” حتى اصبح التشكيك بهذه الرواية جريمة معاقب عليها في معظم القوانين الغربية . 
ويثير انتاج فيلم جديد حول الحرب العالمية الثانية تساؤلا يستحق البحث والنقاش ، فما الامر الجديد الذي يطرحه فيلم (Fury) ولم يسبق ان تطرق اليه اي فيلم آخر عن الحرب العالمية الثانية ؟
وفقا لتحليلي الفردي ، ارى فكرة الفيلم تأتي في سياق الإطار النظري الذي يطرحه بعض الاكادميين الغربيين هذه الايام لتبرير الممارسات اللا أخلاقية التي يرتكبها الجنود الامريكيون في حروبهم على ” الارهاب ” ، حيث تشير الدراسات التي اجريت على الجنود الامريكيين الى ان الضغوط النفسية التي يتعرض لها المقاتلون في ساحات المعارك من رعب ، وقلق ، توتر ، احباط ، تشوش ذهني وافراط في تناول الحكول تؤدي الى ارتفاع حاد في نسبة العنف و الافعال العدوانية لديهم، وكلما زادت الطغوط النفسية ارتفع معدل الاعمال العدوانية. وفي دراسة قام بها دايف غروسمان Dave Grossman تفيد ان طبيعة افعال العنف والعدائية لدى معظم المشاركين في اعمال قتالية مباشرة سببها الخوف الجسيم الذي يشعر به الجنود ، فعند بدء المواجهات الحربية ، يكفّ الجزء الأمامي من الدماغ المسؤول عن التفكير الانساني عن العمل لدى معظم المقاتلين حيث يقومون بالتفكير من خلال الجزء المتوسط من الدماغ ، وهو الجزء البدائي من عقل الانسان والذي لا يتميز عن العقل الحيواني . 
صحيح ان الفيلم يتناول مرحلة تاريخية سابقة لنشوء اتفاقيات جنيف الخاصة بقوانين الحرب وقواعد الاشتباك مما يجعل المشاهد متعاطفا مع الحالة النفسية والذهنية التي يمر بها الجنود محاولا قدر استطاعته ان يجد لهم الاعذار والمبررات ، لكن تكريس مثل هذه الاعذار في الاعمال السينمائية حقبة بعد اخرى يؤدي الى ترسيخ الفكر التعاطفي مع هولاء الجنود في ما يرتكبونه من ممارسات غير اخلاقية في حروبهم الجديدة سواء في العراق او افغانستان او اي بقعة اخرى من العالم ، وعلى المشاهد ، في المحصلة ، ان ينقاد لمثل هذه المبررات .

* روائية من الأردن تعيش في بريطانيا

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *