*كريم السماوي
عاش الروائي السويدي هاري مارتنسون «1904 ـ 1978»، الحائز على جائزة نوبل في الأدب سنة 1974، طفولة قاسية بعد وفاة أبيه وهجرة أمه إلى الولايات المتحدة لتتركه وإخوته إلى الضياع، لينفصل عن بقية إخوته الخمسة ويصبح ربيباً للبلدية، تكفله أسرة هنا وأسرة هناك بعقود مدتها سنة..
حيث تقوم هذه الأسر بإطعامه وكسوته ورعايته مقابل 5 كرونات تدفعها البلدية شهرياً، بعد أن تشترط على هذه الأسر أن يذهب الأطفال للمدارس، من وحي هذه الحياة ضمّن مارتنسون روايته «الشوك يزهر»، التي صدرت 1935 حياته ومشاعره وهو طفل صغير، يشعر بالوحدة والوحشة والخوف.
الراوي والبطل
اختار هاري مارتنسون لحياته وهو صغير اسماً في الرواية قريباً من اسمه الحقيقي وهو مارتان، ملصقا شخصية الطفل بحقيقته، يرى نفسه في الرواية يتنقل وحيدا من مزرعة إلى أخرى، حتى الطرق بين مزرعة وأخرى يطرقها وحيداً مستوحشاً مساراتها، ينظف زرائب الحيوانات، فضلاً عن العناية بها وحلبها وتجميع الحشائش لتغذيتها.
وأضاف في رسالة إلى الناشر ملخصاً عن حياته وأسرته حين كتب قائلاً: «قبل أن أقدم لك هذه المجموعة الأولى قد يكون من مصلحتك، أن تعرف شيئا عن المؤلف، فبما أنه قد عاش حياة متنوعة على الأقل أود أن أفضي إليك بما يلي ـ بترجمة حياة صغيرة ـ على الرغم من كونها موجزة؛ هاري مارتنسون المولود سنة 1904 ابن ربان باخرة رحلات طويلة، فقد أبويه منذ طفولته الأولى وأصبح ربيب البلدية..
وبعد عدد كبير من مرات الهرب والمشكلات التربوية التحق بالعمل في عمر الرابعة عشرة على متن باخرة وركب البحر، بعد ذلك، كبحار مبتدئ ووقاد وأنباري وطاه على متن ثمانية عشر مركبا وتاه أحيانا كصعلوك في المرافئ، واجتاز متشردا كيلو مترات في جزر الهند والقارة الأوروبية وأميركا اللاتينية.
ومارس فضلا عن ذلك حشدا من المهن..»، وبعد أن أفاض بتلك المهن ختم قائلا: «وهو يقيم منذ سنة على البر في السويد، لم ينجز دراسات تأهيلية، المدرسة الابتدائية ثم مدرسة الحياة القاسية…».
أفق آخر
وكتعويض عن حنان الأم التي فقدها صغيراً فإن مارتنسون تزوج من الكاتبة السويدية موا شوارتز التي تكبره بأربع عشرة سنة، ولكنهما انفصلا وتزوج ثانية، فقدانه لحنان أمه لم يغب عن مخيلته أبداً وهو طفل صغير، ولا عن مشاعره وكتاباته وأشعاره وهو رجل كبير، كما ضمّن روايته «الشوك يزهر» الكثير من المقاطع الشعرية، حتى وصفت هذه الرواية بأنها «أوليفر تويست» السويدية..
وحين أظهر مارتنسون الشفقة على بطل روايته الصغير مارتان، فإنه بالمقابل أظهر المزيد من النقد والحقد على المجتمع وما يقدمه من خدمات لأمثاله، رغم إدراكه أن ذلك كان انعكاسا لما كانت تعانيه السويد من فقر دفع ربع السكان إلى الهجرة آنذاك، خاصة إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث يعيش اليوم فيها أكثر من 7 ملايين أميركي من أصول سويدية يزرعون مساحة تضاهي مساحة السويد نفسها..
وهو أمر ترك أثره ولا يزال على حقبة من تاريخ السويد إلى الدرجة التي لا يزال فيها نصب للمهاجرين في ميناء كارل هامن في الجنوب عبارة عن رجل وامرأة يقفان على مصطبة ويتطلعان إلى الأفق، إلى حيث هاجر أؤلئك الذين رحلوا ولم يعودوا.
الأم المُهاجرة
كانت نشأة الطفل مارتان، ربيب البلدية، قد ارتبطت منذ البداية بثلاثة حوادث مأساوية، وفاة والده، ووفاة أخته الكبرى إينيز بالسل والتي كانت تعطف عليه كثيراً فهو أصغر إخوته، ثم هجرة أمه على غير المتوقع في مثل تلك الظروف مما تسبب له بجرح لم يلتئم حتى وهو كبير. كان مارتان صغيرا إلى الدرجة التي باتت ذكريات رحلته إلى أول مزرعة يعيش فيها باهتة..
وهناك في مزرعة فيلناس يتذكر أنه لم يكن سوى طفل بأسنان لبنية ينتعل خفين خشبيين، لا مبالٍ في أساه كما في فرحه، كما يتذكر أنه كان يتحدث عن أسرته قائلا:
«أبي ميت وأمي هاجرت إلى كاليفورنيا»، ورغم أنه يتذكر جمال مزرعة فيلناس وشبهها بقطعة من الجنة، غير أنه كان يهيم فيها بالليل باحثا عن أمه، راغبا في مواصلة السير نحو كاليفورنيا، وحين تلحق به بيرتا ربيبة البلدية في المزرعة قبله، تتبعه لتعيده بعد أن تكفكف دموعه وهو يلعن كاليفورنيا.
الرسائل الحائرة
وحين وصلت أول رسالة من أمه كانت خليطاً عاطفياً مع تعبيرات مشكوك فيها عن تأنيب الضمير وفيها مقتطفات من الصلاة الربانية هنا وهناك، وكان القسم الأكبر من هذه الرسالة غير قابل لأن يفهمه طفل، بل إن الرسالة زادت في بلبلة مارتان ووحدته، وازداد إشفاقاً على نفسه، ولم تعد أمه أبداً، غير أنها أرسلت له مرتين أو ثلاثاً طروداً فيها ملابس..
وهي التي شعر معها بالدفء وجعلته يحس بصلة لم تكن الأقوال والرسائل أحييتها بعد. وبقى مارتان في فيلناس يحس ككل الذين ليسوا محبوبين يرتعد اشمئزازا، ولكنه خرج من تجربته تلك يصغي كأبله، مفرط الأنانية وأكثر عناداً يستحق الرثاء، ولكنه يشعر بالعطف على الحيوانات حتى أنه كان يعطي الخنزير روف طعاماً جيداً في السر.
رتابة لامتناهية
مارتان وهو في المزرعة الثانية تولين أنيطت به مهمة قطع الأخشاب للشتاء، وظل يحلم بالذهاب إلى أميركا من أجل مشاهدة الهنود الحمر، وفيها زارته إحدى أخواته، التقيا كغريبين، وعدته بإرسال هدايا ولعب وكتب ولكنها لم ترسل شيئاً، كما وعدته بالكتابة إليه ولم تفعل، كان فيها يبكي برتابة لا متناهية كمطر الليل ويسمع دموعه وهي تسيل.
كانوا يجبرونه على حصد الحشائش في حزم للحيوانات، وحين تسلل عجل أحد الجيران وبدأ يأكل من الحزم اغتاظ مارتان منه وضربه بمشذبه فكانت الضربة قاتلة، شعر بالخوف والندم..
ولكنه تمكن من حفر حفرة تكفي لدفن العجل، ظل مرعوباً من أن يُكتشف أمره، وحين سُـئل عما إذا شاهد عجلاً في الجوار أجاب بالنفي، وظل قتله للعجل يُرعبه حتى بعد أن أجمعوا على اتهام الغجر بسرقته، وظل يشعر بالندم وتأنيب الضمير بقية حياته، كما ظل يشعر أنه سيختفي يوماً دون أن يترك أي أثر.
ضمير
وفي مزرعة منعزلة أخرى تسمى نوردا وسط غابات مفتوحة على المزارع كان يتلقى معاملة سيئة خاصة من ستاف، كان مستعبداً، يأمره بأخذ اجازات من المدرسة ليؤدي مزيداً من الخدمات في المزرعة، حتى أنه فكر بإضرام النار في المزرعة، كما تعلـّـم الكذب وطريق الهرب، فقد كان العالـَـم كله يمتزج بدقات قلبه..
ولما تكرر هربه أودع مارتان مأوى للبلدية يضم كبار السن، هناك أوكلوا له مهمة قرع الصنج ليحضر النزلاء، ويشرف فيها على إعداد مائدة القهوة. وهناك وجد الآنسة تيرا المديرة التي شملته بحنانها كأم، رغم أنها في البداية سألته أسئلة محرجة منها سبب هروبه وما إذا كان هناك شيء يعذب ضميره.
تمرد إنساني
كان مارتان يشعر أنه كبر وأن هناك نقطة يولد وراءها التمرد الإنساني ضد القدر، يبدأ عندها الحب الكبير، ومع هذا فقد انفجر باكياً دون سبب. كان سعيداً باصطحاب الآنسة تيرا له في تسوقها ورحلاتها بين بلديات المنطقة، ويشعر بالغبطة حين تناديه بماتي، وهو ما كان يبعث الدفء في قلبه. مرضت الآنسة تيرا ولم يُسمح له بزيارتها ومعرفة أخبارها، ظل يسأل عنها هائماً، وحين أمسكت به المديرة الجديدة مالان وسألته: «لماذا أنت غاضب يا صغيري؟»، أجابها بهيئة عدائية تحولت إلى ابتسامة عنيدة وحزينة حاول إخفاءها:
«كيف حال الآنسة تيرا؟»، ولما لم تجب عن سؤاله هتف بصوت مبحوح وهو يضربها على صدرها: «أما زالت الآنسة تيرا على قيد الحياة؟» وانتزع منها ما لم يكن يريد سماعه: «كلا!.. لقد ماتت..». الرواية جمعت نقدا اجتماعياً وتوصيفاً تاريخياً دقيقاً لفترة مهمة من تاريخ السويد، وقد جلبت الشهرة إلى كاتبها هاري مارتنسون، كما تركت أثرها الكبير في التراث الأدبي العالمي.
_____
*البيان