ماتياس كاتريليو.. انتصرنا عشر مرّات


* غدير أبو سنينة

الثّالث من كانون الثاني/ يناير عام 2008، لم يكن يوماً عاديّاً في تشيلي. لم يُغتل فيه رئيس. لم يحدث انقلاب عسكري، أو كوارث طبيعية. كلُّ ما في الأمر أنّ شاباً ينتمي لشعوب المابوتشي (الشعوب الأصليّة التي تسكن أجزاء من تشيلي والأرجنتين وما زالت تقاتل من أجل الحفاظ على ثقافتها وهويتها) قد قُتل يومها. ماتياس كاتريليو فتى بلا “ملامح هندية”. ربما ورث تلك القسمات عن أمّه التي لم تكن مابوتشية. فيما كانت تلك الدّماء الموروثة عن أبيه لا تجري في عروقه فحسب، بل تسكن فكره وتشحذ همّته قوةً وصلابةً للمطالبة بحقوق أهله المابوتشيين. بالكاد كان عمره اثنين وعشرين عاماً، حينما قُتل وهو طالب في الهندسة الزراعيّة في “جامعة فرونتيرا في تيموكا”. طلقةٌ في الظهر صوّبها نحوه أحد أفراد شرطة سانتياغو أودت بحياته، لكنّها لم توقف آمال الشعب المابوتشي في استرداد حقوقه من الأراضي التي كانت قد صادرتها حكومة تشيلي. كانت الأخبار الأولى التي تصدّرت الصحف تقول إنّه قُتل في مواجهاتٍ مع الشرطة لكونه كان يحمل سلاحاً، قبل أن تظهر أدلة جديدة تؤكِّد مقتله على يد شرطي، وتنبئ من جهةٍ أخرى أن كلّ الشعارات التي يرفعها السياسيون والمثقفون من أجل الدّفاع عن حقوق المابوتشيين ما هي إلا ضربٌ على طبلٍ فارغٍ، يُحدث صوتاً كبيراً وعزفاً مزعجاً لم يُفد تلك الشعوب بشيء. كان كاتريليو ناشطاً حقوقياً يخصّص مجمل وقته لزيارة أصحاب الأراضي المابوتشيين، وأهالي الأسرى، والمساهمة في مساعدتهم. حتى أنّه كان يؤثر تلك الأعمال على دراسته، كما يروي أصحابه.

أصبح رمزاً حيّاً ويافعاً لمعاناة شعبٍ لا يمكن أن يكون تشيليّاً، بل يعتبر “تشيلي” كلمةً مستحدثةً، في وقت يرتبط “شعب المابوتشي” بجذور ضاربة في تلك الأرض، وله اسم وهوية يرفض أن يغيّرهما مسايرةً للواقع الجديد. قُتل كاتريليو في الليلة التي هجم فيها، مع آخرين، على مزرعة “خورخي لوشسينغر” في منطقة الأراوكانية التي تعدّ من أراضي المابوتشيين. لم ينجُ مالك الأرض وزوجته من ذلك الهجوم؛ قالت الشرطة إنهما احترقا إثر إشعال المنزل. هكذا، جرى التعامل مع المابوتشيين على أنهم إرهابيون يعتدون على أراضي الغير، وقُتل الفتى برصاصة في الظهر. حدثٌ يشبه مشهد الاستعمار في أي مكان في العالم، لا سيما فلسطين. أصبح المابوتشي الذي سُرقت أرضه إرهابياً إذا ما حاول استعادة أرضه بالقوة. ورغم أنّ تشيلي نفسها تحمل شعار “بالعقل أو بالقوة”، إلا أن هذا الشعار لا يمكن أن يطبّقه المابوتشيون الذين لا يعتبرون أنفسهم تشيليين، رغم أن اسمهم الرسمي هو “هنود تشيلي”. بعد مقتل كاتريليو، كان رفاقه من الحكمة بحيث سحبوا جثمانه معهم وهم فارّين، خوفاً من التلاعب بأدلّة مقتله على يد الشرطة التشيليّة. رفضوا تسليمه للحكومة إلّا تحت شروط معينة، ما ساهم بوقوف جمعيات حقوق الإنسان مع قضيّة كاتريليو، وفتح باب قضية شعب المابوتشي على مصراعيه. في يوم الجنازة، خرج آلاف المابوتشيين في موكب تأبينه ملوِّحين بأغصان من القرفة، التي تعتبر شجرة مقدّسة في عقيدتهم. كانوا يهتفون بصرخة الحرب عند المابوتش: “ماريشيووو، ماريشيوو” التي تعني “انتصرنا عشر مرات”. باولو فرّاس (1974)، الشاعر البرازيلي الذي لم يسلم تاريخ بلده هو أيضاً من صراعات الهوية ولا من اضطهاد الساسة، اقترب كثيراً في قصيدته “ماتياس كاتريليو… انسوا هذا الاسم!”، من إشكاليّات الهوية التي ما زالت غير واضحة، لا عند التشيليين، ولا عند المابوتشيين الذين لم يتقبّلوا تقسيم أراضيهم واستبدال أسمائها بأخرى.
_________
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *