*فتحية النمر
ذوو سحر وألق، أصحاب سُلطة غير اعتيادية، يشيعون في المكان والقلوب الولاء والحماس الفائضين، تحسهما في كل كلمة، ومن كل إشارة تصدر عن أجسادهم المُروضة والمدربة .
إنهم “الكاريزميون”، الأشخاص الاستثنائيون والرائعون، بما لديهم من صفات انتقيت منها الأهم برأيي، وهي أنهم يفكرون قبل أن يتكلموا .
اللافت للانتباه، انتباهي أنا، ولست مسؤولة عن غيري، أن هذا الصنف في مجتمع الحالة الذي أنا بصدد القياس عليه والحديث عنه مفقود، مُغيب إن أردنا الدقة، وإن ظهر هنا أو هناك فعلى سبيل الُصدفة والاتفاق .
“الكاريزما” لفظة يونانية تعني الهبة والتفضل الإلهي، المعنى صارم، يضعنا أمام تحدٍ لا ينطلي عليه الالتفاف على النفس ولا على الغير، فإما أن تكون أو لا تكون، إن كُنت فافخر، وإن لا فلا تتظاهر ولا تجلب على نفسك التهكم والاتهام في الدوائر المفتوحة والمغلقة .
الحاجة لمثل هؤلاء ماسة في كل ميادين الحياة، وفي ميدان الثقافة الحاجة تصير مضاعفة، فالمثقف أكثر من غيره، بل هو بعينه، المنذور لدور شائك وصعب في الآن نفسه يدعى التأثير، والذي لن يتأتى لأحد إلا بتضافر شرطين فيه لا شرط واحد، مثلما يظن بعضهم .
الشرط الأول معروف، وهو ما يدسه المثقف في تضاعيف إصداراته من أفكار وتصورات ورؤى، بينما الثاني والذي لا يقل أهمية، بل ويزيد فإنه مجهول ومضبب في أحسن الأحوال، هذا الشرط أعني به الشخصية والحضور، الكلام الشفاهي تحديداً .
لكن كيف نستدل على ذلك الحضور إن لم يكن في الأماسي والملتقيات وعند اعتلاء المنصات والمنابر؟
مذ كنت صغيرة تستهويني لعبة مسلية ومضنية، وهي فك معاني المفردات، أنقب عنها، يتملكني القلق بل حتى الأرق إن لم أبلغ غايتي، إلا أنها خطوة أولى تجر الثانية وراءها تباعاً هنالك حيث أقف متسائلة بيني وبين نفسي غالباً: ممن أعرف في هذا المجال ينطبق عليه الوصف، ومن لا يجوز توريطه فيه؟
في مجتمع الثقافة الذي أنخرط فيه بحب وامتنان لا أملك إجابة شافية ومحددة عمن يكون وعمن لا يكون، بيد أنني أسعى لتقريب الأمر بالوقوف على أنماط الشخصيات الكلامية، إن جازلي الوصف، تلك التي ألقاها هنا وهناك وفي كل مكان، والتي تفصح عن حضورها أو عن عدمه .
شخصيات بمستويات عدة، تختلف عن بعضها بعضاً في الظاهر، لكنها تتفق في شيء جوهري، وهو أنها تقود إلى نتيجة ليست في مصلحة أصحابها .
فهؤلاء إما مرتجِلون، وكلنا يعلم ما للارتجال من خطورة، إلا حين يكون صادراً عن ذوي الفصاحة والبيان والكلام الموزون، وهذا نادر ندرة الماس وغيره من كريم الأحجار، بينما الأغلبية لا يتجاوزون بما يلوكونه التخبط العشوائي الذي يصيب المستمع الحريص والغيور بالقلق .
أليس حرياً بمثل هؤلاء ألا يزجوا بأنفسهم في هذا الأتون؟ وألا يتهاونوا ولا يأخذوا الموضوع من باب الدعابة والضحك؟
فالمشكلة كبيرة، ماذا لو كان ضمن الحضور غرباء؟
نوع آخر لا يقل خطراً عن الأول، يزيد عليه أنه يبعثر عشرات الأسئلة تشتعل على ألسنة الحضور وتتكدس في مقلهم، أعني بهؤلاء من لا يُحسنون إتمام عبارة واحدة بشكل سليم .
لكن ما يزيد الطين بلة أنهم لا يتحرجون ولا يخجلون، يريحون أنفسهم تماماً ويتنصلون من المسؤولية كأشخاص غير ناضجين، يتمتمون والبسمة تحتل كامل وجوههم: ماذا أفعل، أنا لا أعرف فنون الكلام .
ليس المطلوب منكم أن تلقوا نصوصكم بكمالها وتمامها شفاهة وعن ظهر قلب، لكنكم لن تكونوا معفيين أبداً من بعض العبارات الرصينة والوافية التي تجعلكم جديرين بالتسمية .
الصنف الثالث تجده وقد اعتلى المنصة وكأنه مسترخٍ في أرجوحة كهفية صدئة، لا يصدر عنها سوى الصرير النشاز المزعج يتشاغل عن الناس والوقت يندفع إلى الأمام مرة وإلى الخلف مرات، يتظاهر بضحك لا يليق سوى بالأطفال، وبين الحين والحين يتحف الأسماع بما قد يسعفه به اللسان، وربما كان فيه من العُقد والالتواءات ما لا يستهان به .
يفعل ذلك، ولا تبدر منه التفاتة إلى حجم ما تركه من قهر وأسف في القلوب، وربما فعل، لكن من غير أن يطرف له جفن .
الصنف الأخير الذي لا يقل ثقلاً وغرابة عن سابقيه هو المتشدق، الذي يقذف مع كل مفردة يتفوه بها صخرة تدمر الأعصاب وتتلف السلام الداخلي والرضا، بل يدفع بك نحو الظن أو الجزم بأنه هو نفسه لا يفقه من قوله شيئاً .
قد تجاريه، تسد أذنيك عن ثرثرته وربما غطيطه، تهرع لورقة العمل التي كان قبل قليل يجترها، تقرأ وتعيد القراءة مرات ومرات، تخرج بالنتيجة نفسها، وليس أمامك سوى أن تتساءل ويقتلك الحنق: تباً، إن لم يكن كلامه موجهاً لي كمتلقٍ ومن أجلي . . فلمن تراه يكون؟
خلاصة القول، نحن شهود، أدلاء، علينا أن نتحرى للأمر، نعد العدة كلما استدعى الحال اعتلاءنا المنصات، حتى نعطي عن أنفسنا وعن الفئة التي نمثلها فكرة جميلة .
الأمر ليس بذلك الإعجاز، فكل ما نحتاجه وكل ما يلزمنا الاقتداء بمن يطلق عليهم “الكارزميون” بالأخص في مزيتهم الجديرة بالتقدير والعظة، وهي أن نفكر ثم نفكر ثم نفكر . . بعدها نتكلم .
_______
*الخليج