فيوري”: جحيم الحرب في اختتام مهرجان لندن السينمائي




صفاء الصالح


حوطت الحرب العالمية الثانية الدورة الثامنة والخمسين لمهرجان لندن السينمائي الدولي في حفلي افتتاحها وختامها، عندما اختتم المهرجان بفيلم “فيوري” أو “غضب” للمخرج ديفيد آير وبطولة براد بيت ولوغان ليرمان، الذي تدور احداثة في ألمانيا في الأيام الأخيرة للحرب العالمية الثانية.

وبعد أن كان الافتتاح بعرض فيلم “لعبة المحاكاة” للمخرج مولتن تيلدم، عن حياة عالم الرياضيات البريطاني الان تورينغ الذي تمكن في سنوات الحرب العالمية الثانية من أن يحل أسرار نظام التشفير الألماني المعقد المعروف باسم “أنيغما”، شكل اختيار فيلم المخرج والسينارست الأمريكي آير مفارقة طريفة، وربما مقصودة، إذ سبق لهذا المخرج أن تناول القضية ذاتها في فيلم أمريكي كتب له السيناريو وعد “مشوها للحقيقة” حين نسب فك الشفرة للأمريكيين.

وقد أثار فيلم آير “يو 571 ” عام 2000 وهو فيلم مغامرة عن غواصة أمريكية في الحرب العالمية، نسب فيه فك نظام الشفرة الألماني المعقد “أنيغما” إلى البحرية الأمريكية، ضجة وتصريحات لدى كبار سياسيي البلدين، وقد اعتذر السينارست لاحقا قائلا إن فيلمه كان “تشويها” للحقيقة، فهو مجرد فيلم خيالي لا علاقة له بالحقيقة التاريخية، وأراد عبره مخاطبة الجمهور الأمريكي.

وهذه المرة استضافت لندن المخرج الأمريكي ديفيد آير مخرجا في فيلم عن الحرب العالمية الثانية صور في بريطانيا في أوكسفوردشير وهارتفوردشير.

كما كان نجم الفيلم براد بيت نجم حفل الختام بلا منازع، وشغلت كاميرات المصوريين وأقلام الصحفيين بتغطية مؤتمره الصحفي وحضوره على السجادة الحمراء محاطا بممثلي الفيلم الآخرين أمثال، شيا لابوف ولوغان ليرمان ومايكل بينا، أكثر من انشغالها بالفيلم ومخرجه.

“جحيم الحرب”


أخذ الفيلم عنوانه من الاسم الذي اطلقه أبطال الفيلم، وهم خمسة اشخاص في دبابة شيرمان خلال الحرب العالمية الثانية، على دبابتهم فكتبوا على مدفعها كلمة “فيوري” التي تعني “غضب”.

يحيل الفيلم بقوة إلى فيلمين لهما حضورها في سياق (جنرة) أفلام الحرب، وهما فيلما “انقاذ الجندي رايان” للمخرج ستيفن سبيلبرغ و “لبنان” للمخرج صموئيل ماعوز.

واذا كان فيلم “فيوري” قد ترسم الأول في تتبعه لمهمة خلف خطوط العدو وتلك الصورة البانورامية للمعركة ومعاناة الجنود وسط ركام العنف والرعب فيها، فأنه أخذ من الثاني فكرة أن تدور احداثه في دبابة، ومتابعة الحرب عبر منظور الفريق العسكري الذي فيها، والتحولات الإنسانية التي يعيشها أفراده وسط الحرب وأهوالها.

بيد أن آير يزرع بينهما موضوعة أثيرة لديه، سبق أن عالجها في عدد من سيناريوهاته وأفلامه، وهي كيف يمكن للمرء أن يفقد براءته للنظام (السيستم) الذي ينخرط فيه، سواء كان هذا النظام مؤسسة عسكرية أو اقتصادية، كما يصرح آير في أحدى مقابلاته مستعيدا تجربته الشخصية وتحولاته كشاب عندما انخرط في سلك رجال البحرية الأمريكية (المارينز) في إحدى الغواصات النووية.

وظل آير يركز على هذه الثيمة في عدد من سيناريوهاته، بدءا من “يو 571″، ومرورا بـ “يوم التدريب” حيث ينقل الموضوعة إلى أجواء الشرطة ومواجهة محقق مثالي مع فساد مستشر، أو في “تخريب” حيث نواجه الموضوعة ذاتها في وحدة لمكافحة المخدرات.

في “فيوري” يقدم موضوعته هذه عبر العلاقة بين قائد دبابة، السيرجنت دون (وردادي) كولير (الممثل براد بيت) الذي عركته الحرب وجعلته قاسيا والجندي الشاب نورمان أليسون (الممثل لوغان ليرمان) الشاب الذي سيق إلى الحرب بعد أن كان قد تدرب ليكون موظفا وكاتب طابعة وزج في الحرب من دون أن يتدرب جيدا ليكون بديلا لمساعد سائق الدبابة الذي قتل في المعركة. وبين قسوة ووردادي وضعف وإنسانية أليسون تدور أحداث القصة.

وتبدو الحرب بكل بشاعتها اطارا خارجيا لتطور تلك العلاقة (الأبوية) وسط أجواء القسوة والرعب والعنف بين السيرجنت القاسي “وردادي” والجندي المثالي والحالم أليسون، وتلخصها عبارة السيرجنت له إن “المثل دائما مسالمة، أما الحرب فعنيفة”.

ورسمت شخصية السيرجنت “وردادي” بعناية لتحمل كل التناقضات التي يعيشها الإنسان في معركته من أجل البقاء في ظرف كوارثي، فتصيره قاسيا صلبا بل وقاتلا بشعا في مشاهد أخرى لكنه يعود إلى طبيعته الإنسانية في مشاهد أخرى، لا سيما عندما تضعه خارج إطار العنف وفي مناخ عائلي.

فهو الذي يقوم بمهمة بطولية لقتل ضابط ألماني، نراه في مشهد آخر يتحول إلى مجرد مجرم فظ، حين يحاول اجبار الجندي أليسون على قتل أسير ألماني، (وهدفه هنا أن يعلمه القدرة على البقاء، بمفهومة، وسط غابة العنف التي سيقتل فيها إن لم يقتل).

فيضربه عندما يرفض ثم يمسك به ويضع المسدس في يده ويضع أصبعه على الزناد ليضغط عليه لاطلاق الرصاصة التي تقتل الأسير الألماني، لكننا نرى السيرجنت يتحول إلى إنسان آخر طيب بمجرد وضعه في إطار سلمي وعائلي، عندما يحمي امرأتين ألمانيتين من محاولة جنوده للاعتداء عليهما.

وقد سبق أن مهد المخرج لمشهد قتل الأسير بمشهد يوضح كيف أدى تردد أليسون في اطلاق النار إلى أن يصيب جندي ألماني دبابتهم بقذيفة تؤدي إلى مقتل أحد أفرادها، فيحملون أليسون المسؤولية بسبب ضعفه وتردده.

صدمة نفسية


ياخد تسلسل السرد في الفيلم اسلوب القصص البطولي “saga” التي تدور على سلسلة مهمات يؤديها كادر الدبابة “فيوري” بقيادة السيرجنت ووردادي.

وتختتم هذه السلسلة بمهمة ارسال الدبابة لتامين طريق يمثل نقطة اتصال خلف خطوط العدو الألماني المنسحب في الأيام الأخيرة للحرب العالمية الثانية في أبريل 1945.
كادر فيلم “فيوري” ونجومة يقفون أمام المصورين في حفل ختام مهرجان لندن السينمائي. 
وهنا تتعطل الدبابة بعد اصابتها بلغم أرضي، ويقاتل طاقمها ببسالة وحدة مدرعة من دبابات تايغر الألمانية وألوية المشاة الألمانية التي تصل الى منطقتها، ويقتل طاقم الدبابة كما يجرح قائدها السيرجنت ووردادي، ثم يقتل عندما يرمي الألمان قنبلة يدوية داخلها، عدا الجندي أليسون الذي يهرب من فتحة أسفلها ويختفي في حفرة تحتها. 

هنا يضع آير مشهدا تعمد أن يجعله غامضا مثيرا للتساؤلات، حيت يسلط جندي ألماني شاب ضوء مصباحه تحت الدبابة فيرفع أليسون يديه من الحفرة، لكنه يتركه بعد ان يناديه جنود آخرون ليغادر مع الجنود الألمان الموقع، ويتعمد آير أن يترك المشهد غامضا هل أن الجندي الألماني تعاطف مع اليسون ولم يكشف عن وجوده أم أنه لم يره وسط دعوة الاخرين له للمغادرة؟

وينتهي الفيلم مع وصول القوات الأمريكية وانقاذ الجندي أليسون الحي الوحيد في تلك التجربة المروعة.

لقد لخص بطل الفيلم براد بيت خلاصة الفيلم في المؤتمر الصحفي الذي سبق عرضه في مهرجان لندن بالقول إن “الحرب جحيم … إن الفيلم عن الصدمة النفسية المتراكمة التي يحملها أي جندي (اشترك في الحرب) بدرجة ما”.

حول الفيلم الريف الإنجليزي الهادئ في منطقة أوكسفوردشير، وتحديدا في هارتفوردشير ومناطق قريبة منها الى منطقة حرب، وميدان من ميادين الحرب العالمية الثانية، ونجح مدير تصويره الروسي رومان فاسيانوف في استثمار جماليات المناظر الطبيعية المحيطة رغم رعب الحرب الذي يسعى لتصويره فيها، هنا تجد بشاعة الآله (الدبابات والمدرعات) بمواجهة خضرة الأشجار ومساحات العشب الخضراء الممتدة.

على الرغم من ذلك ظل تنفيذ المؤثرات الخاصة وبناء أجواء المعارك الضخمة ضعيفا في الفيلم، فاطلاق الرصاص من مدافع الدبابات والبنادق الرشاشة بدا على الشاشة وكأنه خطوط اطلاق ليزر في لعبة فيديو، وليس ما يوحي بالرصاص الحقيقي.

لقد أسدل عرض فيلم “فيوري” الستار على فعاليات الدورة 58 لمهرجان لندن السينمائي الدولي، الذي قالت مديرته كلير ستيوارت أن دورة هذا العام حققت ارتفاعا بنسبة 7.5 في عدد المشاهدين الذي وصل الى 163.300 مشاهد.

– عن موقع البي بي سي العربي

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *