شمس تبريزي .. سرُّ الرومي وميلاده


*خالد محمد عبده

( ثقافات )

لم يوجد الله حتى الآن على هذه الأرض من يمكن أن يكون شيخًا لمولانا جلال الدين الرومي، وهو ليس بشرًا ، ولكن لستُ من يكون مُريدًا أيضًا !
[شمس تبريزي-مقالات].
شكاية أهل العصور الفائتة في الإسلام، سواء في قربهم من زمن النبي مباشرة أو بعدهم عنه مئات الأعوام، وعبارة أنه (فسد الزمان) التي تتردد في كتاباتهم، سواء في كتابات أهل الحديث أو الفقه أو التصوف، أو الجامعين لهذه العلوم الدينية كافة، توقفنا على جمهور عريض لم يكن يرى الخيرية عامة وشاملة لجميع المنتسبين إلى الإسلام، ولم يروا في زمانهم ما قيل عن زمن النبوة، وأن هذا المجتمع المثالي المنشود كالمدينة الفاضلة التي حاول فلاسفة الإسلام أن يرسموا صورة لها، متأثرين بإنسان الحضارات السابقة، الذي يحاول دومًا أن يرتقي بمجتمعه ويرتقي بعناصره كما يظهر ذلك من فلسفته أو ديانته في نصوصها الأولى.
عبر قراءة سيرة شمس تبريزي التي دوّنتها المصادر، صرف النظر عن صحة رسمها لهذه الشخصية الغامضة أو تضخيمها، هناك صفة يتم الاتفاق عليها في كافة المصادر يمكن أن نصف بها شمس تبريزي، وهي أنه لم يكن راضيًا عن أحد من السابقين أو المعاصرين، ولم يكن يرى أحدهم يستحق أن يصبح شيخًا صوفيًا أو يُنظر إليه بعين التبجيل، فالشيخ الأكبر رضي الله عنه الذي وصف بالكبريت الأحمر انتقده شمس ورآه غير متابع لطريق النبي الأكرم ورأى كثيرًا من أفعاله خطأ بيّن! وكذلك لم يكن يرى البسطامي في عداد الأولياء وكثيرًا ما وجّه النقد إليه، وربما ورث جزءًا من هذه الصورة ثمرة عشقه (مولانا) في نقده لمن انتقده التبريزي كما فعل مع الفخر الرازي.. ففي بلاد العرب وبلاد فارس لم ير التبريزي من يصلح أن يكون شيخًا له وظلّ طيّارًا يرتحل من مكان إلى مكان باحثًا عمن يرى فيه مرآته وصورة نفسه حتى لقي مولانا.
برغم آلاف الصفحات التي كُتبت عن الرّومي،
لم يكن هناك فعليًا شيءٌ عن شمس
قالوا عن شمس تبريزي هو شخصية غامضة تتدثّر بلباس أسود خشن، ظهر على مسرح الحياة لحظة قصيرة ثم اختفى فجأة في سرعة فائقة .. وقالوا بأنه شخصية قاسية مسيطرة .. وقالوا هو رجل شديد غليظ القلب قاسي الطباع .. وقالوا هو سقراط .. وصفوه ولم يره أحدٌ !
لا أستطيعُ الكتابة على هذا الجوهر [الجوهر الذي هو الغاية في الشرف والنّفاسة]
قال هذه الجملة أحد المشايخ لشمس التبريزي وهو يجلس في إحدى حلقاته، وأدرك شمس أن شخصيته كانت أقوى من أن يصبح فقيها، فكل ما لدى شمس لا يسهم في بناء العروش والكروش، بل على عكس ما يفعله المدرّس والفقيه والمؤسس، كان ما لدى شمس يساهم في تحطيم المعتقدات التقليدية وإزاحة الهياكل والأشباح والأوهام من طريق الإنسان، وهو ما لا يرضاه كثير من بني آدم الذين يعبدون الصور وإن كانت خاوية من أي معنى!
اتركه ناحية لكي يحترق 
كانت هذه العبارة هي إشارة أحد المشايخ الذي تردد شمس تبريزي على حلقاته لحضور السماع ومداومة التلقّي والتعلّم، لم يقرّب الشيخ شمس منه كلّما ازداد قربًا من الشيخ، بل على العكس أمر بتنحيته جانبًا لبعض من الوقت، وإن لم يكن في تلك الرواية ما يؤكده التاريخ عن شمس، إلاّ أن طرائق المرشدين الروحيين قديمًا كانت على هذا النحو.. بعضهم يرسل مريده إلى أحد حاملاً أمانة ليختبره، وبعضهم يرسله سائحًا دون سكن أو وطن ليعلم ما اذا كان يطيق الابتعاد عن محبوبه…إلى آخر الوسائل التي ترويها كُتب التراجم والطبقات التي تؤرخ للأولياء والأصفياء..
هذا هو الفارق بين المخلوق والخلاّق، والحقيقي والزائف، تجلس اليوم مع أحد من لا يعرف عن الدروشة إلا صورتها، فيحرص الكل على جذبك لهذا الطريق دون غيره من طرق إخوته، وكلما أتى أحدهم على ذكر طريقة غيره، أتى لك بالمسالب، وكأن الله أوحى له بما لم يوح به لغيره، واختصه بما عزّ وندر، فهو خاتم الأولياء وعُصبته من الأتباع كحواري المسيح.
من هو شمس؟ هو شمس الرحمة ونور الحياة الذي سطع في سماء مولانا جلال الدين الرومي فحوّلها من السطور إلى الظهور، ومن التراب إلى النور.
يذكر سبهسالار اسمه الكامل على النحو التالي: شمس الدّين محمّد بن عليّ بن ملك داد.. ويصفه بأوصاف من قبيل (سلطان الأولياء-تاج المحبوبين- قطب العارفين-فخرُ الموحّدين).
لا يعرف المرء الكثير عن شمس تبريزي رغم إسباغ مولانا جلال الدين الرومي عليه صورة إلهية بدأت بكتابة ديوان مسمّى باسمه ولم تنته حتى بوصف الرّومي نفسه بـ(عبد شمس)!
معلومات قليلة وردت عن شمس في كتابات مولانا، خاصة مؤلفه النثري (فيه ما فيه).. ولم يعرف شمس بشكل جيد إلا من خلال معلومات أوردها ابن مولانا (سلطان ولد) و(سبهسالار) و(الأفلاكي).
صوْتُك هو الذي ينطِقُ بكلامي كلّه (مولانا).
يعتقدُ البعضُ أن شمسًا كان شخصًا خياليًا ابتكره مولانا الرومي ليكون مرآة لنقل أفكاره.
ويشبّه نيكلسون المستشرق الإنجليزي الذي ترجم أعمال مولانا الرومي وحققها شمسًا بسقراط (في عواطفه القوية وفقره وموته العنيف) ويصفه بقوله: (إنه أميٌّ نسبيًا لكن حماسته الروحية الهائلة المبنية على الإيمان بأنه كان لسان حال الله تعالى وناطقًا باسمه، سحرت كل من دخلوا الدائرة المسحورة لقوّته).
ويصف شمسًا، سلطانُ ولد ابن مولانا الذي عرفه معرفة شخصية ويدعوه برجل العلم والمعرفة والمؤلف البليغ.
وفي مناقب العارفين للأفلاكي أن شمس الدين كان متعلمًا كما يتعلّم الناس في عصره، إذ درس الفقه الإسلامي، والتقى علماء عصره، بل إنه امتلك حتى معرفة الرياضيات وعلوم الفلك.
ليس دفترُ الصّوفيِّ هو السّواد والحرف
فما هو إلاّ قلبٌ أبيض كالثّلج. (مولانا)
ترك لنا شمس بعض تعليقاته وكلماته، فيما عُرف من بعده ب(مقالات) شمس. وصف شمس كلماته بالخرقة الصوفية، وكان يؤمن أن المؤلفات والأوراق والكتب ليست هي المؤثرة في المريد والصانعة له، بل الشخصية البارزة هي التي تؤثر. (ذلك الذي يحرّك هو عبدُ الحقّ، لا الكتابات المجرّدة. من اتّبع السّواد فقد ضلّ).
ومن أقواله: 
– في البدء لم أكن أختلط بالفقهاء [أهل الظّاهر-أهل الصّورة]
كنتُ أختلطُ بالدّراويش فقط [أهل الصفاء والنقاء-الصّوفية!]
كنتُ أقولُ إن الفقهاء غرباء عن الدّروشة لا عهد لهم بها [لأنهم مشغولون بالقيل والقال والصحيح والفاسد، ولا ينشغلون بالقلوب وحديث الأرواح]!
والآن إذا ما عرفتُ الدّروشة، وأين هم الدّراويش [الصوفية المعاصرون] زادت رغبتي في مجالسة الفقهاء.
لماذا؟ لأن الفقهاء عانوا كثيرًا للحصول على (شيء ما)، وهؤلاء الدّراويش يفاخرون فحسب بكونهم (دراويش) ولكن أين الدّرويش الحق؟ 
أين الدّرويش الحق؟
-المرادُ من كتاب الله ليس المُصحف؛ بل ذلك الرجل الذي هو هادٍ، فكتاب الله هو، آيتُه هو، سورتُه هو، وفي تلك الآية آيات.
– لا يقدرُ على صحبتي إلاّ شخصٌ يميلُ إليه قلبي ويهتمُّ به.
– إن مُتابعة مُحمّدٍ النبي هي هذه: ذَهَبَ في المعراجِ، فامض أنت أيضًا وراءه.
-كلُّ فسادٍ وقع في العالمِ، فإنّ مبعثه اعتقادُ إنسانٍ بإنسانٍ بطريق التّقليد، وإنكارُ إنسانٍ لإنسانٍ بطريق التقليد.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *