كان لديّ ما أرويه


*سالمة صالح

شعرت بالحسد إزاء طبيبي الشاب وأنا أغادر عيادته حين فكَّرت أنه سيعمل حتى الخامسة بعد الظهر، أربعة أيام في الأسبوع، وسينسى كل ما له علاقة بالعمل في ما يتبقى له من الوقت. عمل الكاتب يشبه عمل الأمهات، عمل غير منظور، يستغرق النهار كله وجانباً من الليل، لا أعني أنني أجلس وراء منضدة الكتابة طول الوقت بالطبع، فذلك لا يشكّل إلا الجانب التنفيذي من العمل، ولا يستغرق إلا وقتاً قليلاً. ومنضدة الكتابة هي مكان عقيم لا يخطر لي فيه شيء ذو بال. الجانب الأساسي من العمل هو انبثاق الفكرة وتطويرها. أفضل الأفكار تولد وأنا في الطريق. كثيراً ما كتبت ما يخطر لي على ظهر تذكرة الحافلة أو أي قصاصة ورق وجدتها في متناول يدي. كيف ومتى بدأ هذا الشغف بالأدب؟ هذا سؤال تصعب الإجابة عنه.

كان كتابي الأول – مجموعة قصص- لا يزال في المطبعة حين كان عليّ أن أغادر مدينتي إلى بغداد لألتحق بالجامعة وبعمل مسائي في الإذاعة العراقية، فلم تتهيأ لي مراجعة مسودات الطبع، وكان لا بد من تخصيص صفحتين في آخر الكتاب لتصويب الأخطاء. لم يكن كتابي الثاني أوفر حظاً، لم يكن قد خرج من المطبعة حين حدث انقلاب 1963، وفقدت جزءاً من دخلي كان يتأتى من كتابة البرامج الإذاعية، كما لم يعد المناخ العام مواتياً فتأخر توزيع الكتاب بضعة شهور، وحين صدرت مجموعة «التحولات» عام 1974 عن اتحاد الكتّاب العرب في دمشق كانت العلاقات الرسمية بين العراق وسورية متوترة فمنع دخول الكتب من سورية بوجه عام. اشتريت النسخ العشر من الكتاب التي أتى بها صاحب إحدى المكتبات ولم يستطع عرضها في مكتبته بسبب المنع، وكانت قد استقرّت في المخزن. «زهرة الأنبياء» رغم تأخر صدوره عامين، لأن الناشر اللبناني الذي كان قد وافق على نشره احتفظ به كل هذه الفترة ثم اعتذر عن عدم النشر، وضع نهاية لسوء الطالع، وحظي باهتمام النقد الأدبي والقرّاء على السواء لدى صدوره عام 1994 في دمشق. تلته مجموعة «شجرة المغفرة» وصدرت طبعة جديدة من رواية «النهوض». 
لم يكن الأدب قد أصبح في العالم العربي مهنة – وربما هو كذلك اليوم أيضاً -. كان الكاتب يكسب لقمة خبزه من عمل آخر، وكان أغلبنا يكتب لأنه يجد في الكتابة متعة، هناك أيضاً من كان يعتقد أنه يستطيع بالأدب أن يغير العالم. ليس الحال كذلك بالنسبة لي، فأنا أعرف أن ألفي نسخة من كتاب لأمة يزيد عدد نفوسها على 300 مليون هي عدد أقل من القليل. أصبحت أنظر إلى الأدب نظرة أكثر تواضعاً وأضع المعلم في موضع أعلى من موضع الكاتب.
كتبت خلال كل تلك السنوات مزيداً من القصص، وقصصاً للأطفال، وعملت في الصحافة وبقيَتْ ساعات الصباح الأولى هي الساعات الأكثر عطاء في الكتابة، فأنجزت الجزء الأكبر من «زهرة الأنبياء» في الصباحات الباكرة. كنت أنهض في الخامسة وأكتب فقرة مما يقارب الخمسمئة كلمة قبل أن أغادر المنزل للذهاب إلى عملي الذي يبدأ في الثامنة. وكانت الحالة الانفعالية دائماً هي ما أحتاج إليه للكتابة. في فترة مبكرة كانت هذه الحالة وحدها كافية للبدء بالكتابة. حتى بدا لي أن القصة تكتب نفسها. حدث هذا مع بعض القصص مثل قصة «إسراء أرضي»، التي لم تستغرق كتابتها أكثر من ربع ساعة. مع الزمن تغير هذا. بقيت الحالة الانفعالية ضرورية، ولكن أصبح استدعاؤها أكثر صعوبة وقد لا يتحقّق إلا بقراءة نص جيد أو الاستماع إلى الموسيقى، وظلّت العلاقات المُلتبِسة، سوء التفاهم وإخفاق اللغة الموضوعات الأهم في نصوصي.
______
*الدوحة

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *