*د . عبدالمعطي سويد
تاريخياً عملت الأديان السماوية والوضعية، وكذلك الإيديولوجيات على تشكيل المزاج البشري، أو الجماهيري، وعلى تنميط وعيه وصياغة نظراته في الفكر والحياة، ومن هذه الرؤية النظرية العامة، ويمكن القول بأن شعوب منطقتنا، ومنذ ظهور الديانات الإبراهيمية التوحيدية الثلاث وبعد أن تجاوزت إلى حد ما مرحلة التفكير الأسطوري، وأخذت المنطقة تميل فكرياً وسيكولوجياً إلى تغليب النظرة الدينية، والتركيز على ثنائية: “الدين والدنيا”، وتولد عن الثنائية المذكورة ثنائية: العقل والنقل وأصبحت هذه الثنائية قاطعة بين طرفيها، فأما المحاولة الدائمة للتوفيق بين الطرفين أو إقحام هذه التوفيقية، أو لفصل بين طرفيها وإقصاء أحد طرفيها بالخطاب (الفكري) أو الممارسة الفعلية في مسيرة الحياة .
وتكونت المشاعر والأفكار لدينا انطلاقاً من هذه الثنائية القصية والحادة، ونظراً لضالة ثقافة العقل، عملت – الأغلبية المطلقة منا، نخباً – أو جماهير، إلى إخضاع الأفكار إلى المشاعر والانفعال المحض، وتكونت آلية القبول والرفض عندنا بناء على هذا التكوين الشعورى والانفعالي، وقد ساهمت بشكل فعال كل من: التنشئة الاجتماعية، والتعليمية والإعلامية، وقبل كل هذا الأنظمة السياسية على (إثراء) وتشكيل مزاج شكل قاعدة التناقض الوجداني الحاد والذي مال أوتوماتيكياً إلى الراديكالية .
هذه الراديكالية، أصبحت مألوفة في نمط فكرنا وحياتنا، تدفعنا إما إلى أن نقطع مع العصر ونرتد إلى الماضي، أو نحاول قسراً التوفيق بينهما أو نحسم الأمر لمصلحة أحد طرفي الثنائية .
وتبعاً للثنائيات المذكورة والمكونة لأفكارنا ومشاعرنا فقد تكونت منذ خمسينات القرن الماضي وعلى الساحات الثقافية والشعبية العامة تيارات راديكالية إقصائية سنتكلم عنها بعد لحظات الراديكالية تعني: جذر الشيء وأصله، ونميل من جهتنا إلى عقد مقاربة بين: الراديكالية والأصولية لغة وفكراً، ذلك أن الراديكالية تعني الالتزام القاطع بالأصل والقبض على الشيء من جذوره، والأصولية كما أصبح مألوفاً تعريفها هي أيضاً العودة إلى الأصول فالمشترك بينهما هو: الأصل والجذر .
والراديكالية باختصار هي: لحظة مزاجية أو ميل سيكولوجي مستمر وحالة ذهنية، فإن يكون أحدنا راديكالياً يعني أنه يريد العودة إلى الأصول والجذور والتقيد الحرفي بهما، أو الانخراط الكامل بالحاضر، وكل مكوناته أي الحداثة بلغة اليوم، وكذلك فإن الراديكالي يعني من ناحية أخرى، هو الثوري العنيف الذي يتسم بسلوك غير مهادن، ويريد تغيير الواقع جذرياً وقلب الأمور كلها على عقب وبلا تلكؤ أو تدرج أو تسلسل .
ولقد أصبحت الراديكالية حالة فكرية ترغب بكل قوة في تغيير الأوضاع كافة، وقد اتخذت الراديكالية موقفا نقدياً شاملاً لكل ما هو سائد، ووضعت بديلاً ثورياً، إما بمعنى الثورية المرتدة نحو الوراء أو المتقدمة نحو الأمام .
اتخذ الفكر العربي – الإسلامي منذ ما سمي بعصر النهضة العربية في منتصف القرن التاسع عشر، اتجاهين راديكاليين: ديني وليبرالي فأما الأول فقد انطلق مع جمال الدين الأفغاني يقوم على مواجهة الغرب (الدهري – المادي) ورفضه، عارضا البديل الشرقي الروحاني وذلك بالعودة إلى الأصول بينما، الليبرالي عمل على تبني قيم التقدم والحداثة وخاصة في الحياة السياسية الديمقراطية، وبعض القيم العصرية في العلم والفكر، ومثله: شبلي شميل، لطفي السيد، طه حسين . . الخ .
في المرحلة الحديثة والمعاصرة ساد الساحات الثقافية والسياسية في العالم العربي تياران رئيسيان وهما: التيار الديني (التقليدي) والتيار اليساري، والأول: أراد أن يقفز إلى الوراء، والثاني أراد أن يقفز إلى الأمام، وقد اتخذ كلا التيارين الطابع الراديكالي في الخطاب والممارسة، ومنذ بداية السبعينات، وعقب هزيمة 1967 تراجع التيار اليساري وفرغت الساحة ليتقدم التيار التقليدي (الديني) .
اتجهت الراديكالية في إطارها التقليدي، العربي – الإسلامي، إلى جعل الحاكمية للنص الثابت، وجعله المحرك الأول والأخير للواقع والحاضر المتحركين، وبعبارة ثانية طالبت الراديكالية بكل قوة بالعودة إلى الأصول والجذور العقيدية لتكون الحكم الفصل في شؤون الفكر والحياة كافة على صعيد الأفراد والمجتمعات، وبعبارة ثالثة الدمج التام بين الدين والدولة (كمؤسسة سياسية)، وتجيير كل شؤون الحاضر لماضي يتصوره الراديكاليون أنه هو المثل الأعلى الواجب اتباعه حرفياً .
والنقطة الثانية والجوهرية أيضاً في الفكر الراديكالي: تتمثل في رفض فكرة التقدم والحداثة القائمة على القدرات العقلية الإنسانية المستقلة والحرة في الإبداع الإنساني، وحيث اعتبرت التيارات الراديكالية الفكرية العربية – الإسلامية كافة أن فكرة التقدم هذه مستوردة /غربية/ استعمارية/ صهيونية/ صليبية ترمي إلى غزونا فكراً وحياة .
وبالمقابل لم تخل الساحات الثقافية في العالمين العربي – والإسلامي من خطوات ومغامرات جريئة في وسط فكري تقليدي، أعني ظهور كثير من (الفرقعات) الثقافية في نقد الفكر الديني وخطاباته بصورة أكاديمية، أعمال محمد أركون، ومحمد عابد الجابري وعبدالله العروي، وطيب التيزيني، وصادق جلال العظم، وقبل هؤلاء حسين مروة، ثم، ونصر حامد أبو زيد، سيد القمني وأيضاً المفكر السيد ياسين، ولعل أشد راديكالية من هؤلاء على صعيد العمل النسائي: نوال السعداوي .
إننا نعيش في هذه المرحلة وسط مناخ عام تسوده راديكالية في غاية الضحالة، وهي غير صحية ترمي بنا إلى الوراء البعيد، إن لم نقل تأوي بنا إلى حال من العدمية، حيث نعيش بعض تجلياتها في الوقت الراهن (في الميدان السياسي) سبقتها حال من الظلامية في العقل منذ عقود من الزمن .
_______
*الخليج الثقافي