أحمد الشهاوي *
لم يبدأ سيد قطب ذو الأصول الهندية النشر بالشِّعر، ولكنَّه بدأ بنشر كتابٍ نظرىِّ حول الشِّعر عام 1933 – وهى سنة تخرُّجه فى كلية دار العلوم التى دخلها عام 1929 – هو «مَهمَّة الشَّاعر فى الحياة وشعر الجيل الحاضر»، وبعدها بعامين، أي في عام 1935 نشر مجموعته الشعرية الأولى «الشاطئ المجهُول».
ومنذ انضمامه إلى الإخوان عام 1951، وتركه الشِّعر والرواية والنقد الأدبى، حرص الإخوانُ باستماتةٍ ودأبٍ صارمٍ على الاهتمام فقط بكتبه الدينية، رغم أنَّ كتبه الأدبية فى عددها يزيد على ما سواه ممَّا ترك سيد قطب، لكنَّهُم الإخوان دائما ما يُغيِّبون ما لا يخدمُ مصالحهم وأهدافهم، ولو سألتَ إخوانيًّا عتيدًا عن شعر سيد قطب لما استطاع أن يقولَ شيئا، إذْ هو حفظ «معالم فى الطريق» 1964، و«فى ظلال القرآن» من 1951 حتى 1963 وغيرهما من الكُتب الدينية.
ترك سيد قطب حوالى مائةً وأربعين قصيدةً، بدأ كتابتها عام 1924 وحتى 1957، وهو عدد لو جاء من شاعرٍ آخر ؛ لصنع منه اسمًا راسخًا ومُؤثِّرًا، حتى لو اختلفنا معه فكريًّا، لكنَّه «شعرٌ» أشبه بالنظم الذهنىِّ كنتاجِ أستاذه عباس محمود العقَّاد «1889- 1964».
ديوان سيد قطب «الشاطئ المجهُول»، طُبعت طبعته الأولى فى مطبعة صادق فى المنيا، وصدر فى يناير من عام 1935، ويقع فى مائتى وثمانى صفحات، أى أنه كتابٌ كبيرٌ إذا ما قُورنَ بدواوين مُجايليه من الشُّعراء وقتذاك وبعد ذاك.
وإغفال دراسة وإعادة نشْر ما ترك سيد قطب – المولود فى الشهر نفسه والسنة نفسها مع مُؤسِّس الإخوان ومُرشدهم الأول حسن البنا، وهما متخرجان فى كليةٍ واحدةٍ أيضًا – من «شعرٍ» لا يعودُ إلى اقتصاصِ مُخالفيه ومُعارضيه فى الفكر، ولكن يعودُ بالأساس إلى حِرْص الإخوان على ألا يكونَ هذا الديوان وغيره من قصائد لم تُجْمع فى طىْ الكتمان، وفى جيبِ النسيان، لما فيها من رومانسيةٍ، وموضوعاتٍ شعريَّةٍ كثيرةٍ تدورُ حول الغزَل والحُب والشكوى والحنين كاتجاهٍ وموضُوعٍ، فمن عناوين قصائده مثلا: قُبلةٌ، غزلٌ ومناجاةٌ، هى أنتِ، أحبُّكِ، لماذا أحبُّكِ، الغيرةُ، مصْرعُ حُبٍّ، الحنينُ والدموعُ، رقية الحُبِّ، عصْمةُ الحُب، على أطلالِ الحُب، مرض الحبيب، طيفُ الحبيب، شكوى وحنينٌ، فداؤك نفسى، هدأتَ يا قلبُ، قصَّةُ قلبين، عينان، حدِّثينى، خصامٌ، صوتُها، بيانو وقلبٌ، ريحانتى الأولى أو الحرمانُ، صدى قُبلةٍ، ماذا عليكِ، قُبلةٌ للتجربةِ، انتهينا، جمالٌ حزينٌ، وعيُها،…
وهناك من الإخوان من عمد إتلاف معظم شعره وحرقه، ويكفى أن أقول إن الديوانَ ظل قرابة ثمانين عاما منسيًّا، لم يُطبع ثانيةً، مع أن دار الشروق المصرية تنشرُ كُلَّ ما هو دينىٌّ لسيد قطب، كما أن الإخوان لديهم من السَّطوةِ وامتلاكِ المالِ والنُفُوذ لنشر ملايين النسخ لو أرادوا.
ناقدو سيد قطب من الدراعمة «أى أهل كلية دار العلوم» يقولون بفمٍ ملآن إنَّ شعر سيد قطب الذى وصل إلينا هو من شعر الصبا، ليُدارُوا بهذا التحجُّج ضعفَ شعره، مع أن الديوان حين صدر كان عمر الشاعر سيد قطب تسعة وعشرين عاما، ناسينَ أن شعراء مصر والعرب والعالم المُهمين والأساسيين، كانوا قد قدَّمُوا تجاربهم الشعرية المُهمة والخاصة وهُم فى هذه السن أو دونها «سآخذ تجربتىْ صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطى حجازى مثالا»، لكن لأنَّ مُريديه الذين يصفُونه دومًا بالفذِّ والعبقرىِّ والرائد عندما يأتى حديث الشعر يقولون إنه كان صبيًّا، ولا أدرى هل هناك صبىٌّ فى عمر التاسعة والعشرين؟
عبداللطيف عبدالحليم وهو أستاذٌ فى دار العلوم «وينظم الشِّعر» يعترفُ أن سيد قطب «استولى على ناصية النظم والصناعة»، ولم يقُلْ لنا الشعر والتجربة، إذْ شتَّان بين الفعلين كَتَبَ ونَظَمَ، وبين أبدع وألَّف، وبين التجربة والصناعة.
منذ البداية ارتضى سيد قطب أن يكون تابعًا، وتلميذًا، فكان ظلا لعباس محمود العقاد، مع أنَّ العقاد حين أصدر قطب ديوانه «الشاطئ المجهول» لم يُعرْه اهتمامًا، ولم يلتفت إلى ما كتب تلميذه، وهو ما جعل سيد قطب يُغادرُ موقع التلمذة، بل ويتركُ الشِّعر والأدب لأهله المُخلصين، ويذهب نحو ما ذهب إليه من الانخراطِ فى الإخوان المسلمين وتأليف الكُتب الدينية، وهو تحوُّلٌ نفسىٌّ عميقٌ، إذ رأى نفسه «منبوذًا» فى الحركة الأدبية بسبب موقف العقَّاد من شعره، وكان يحلو لسيد قطب أن يُسمِّى نفسه «تلميذ العقَّاد»، فهو باعتراف أحد مُحبِّيه «لم يخرج فى شعره من نطاق أستاذه»، مع أن أستاذه من وجهة نظرى ناظمُ شعرٍ، وليس شاعرًا، ونادرًا ما تضعهُ الحركةُ الشعريةُ المصرية فى عداد الشعراء الذين أثَّرُوا وأثْرَوْا، إذ كان ذهنيًّا وناظمًا، وأراد أن يُجرِّبَ كُلَّ أنواع الفُنُون الأدبية، مع أنه لم يفلح فى الشِّعر والرواية، ولكن دراويش العقَّاد وتلاميذه مازالوا يرقصُون رقصات التسبيح باسمه أمام مقامه الورقىِّ.
لم يأت سيد قطب فى كل شعره بجديدٍ، لقد كان الرجل مُحافظًا، تقليديًّا، مُقلدًا لمن سبقوه خُصُوصًا العقَّاد، ابتعد عن الجِدَّة، ولم يُضف إلى مُدونة الشِّعر ما يمكنُ أن يحفظه له التاريخُ، إذ سلك الدروبَ المُمهدة، والسبل المحروثة، والصفحات المطرُوقة سلفًا، كان وجدانيًّا فيما كتب، ولكن من يقرأ شعرَهُ بتأنٍّ، فلن تمسك يدا رُوحه جديدًا من الشعر.
لم يُكمل سيد قطب – الذى اتسم شعره بالجفافِ والذهنية – دربًا بدأه فى جانبه الأدبىِّ شِعرًا أو روايةً أو نقدًا أدبيًّا، ولعل رأى شاعر بحجم محمود حسن إسماعيل، وهو ابن بلده أسيوط، ودرعمى مثله، ومولود بعده بأربع سنوات «1910» كان من أسباب تركه الشعر، إذْ لم ير فى ديوان سيد قطب «الشاطئ المجهول» إلا قصيدةً واحدةً توقَّف أمامها، ووصف شعر سيد قطب بأنه «محاولاتٌ طيبةٌ… أقولُ مُحاولاتٍ وقد يغضبُ صديقنا الشاعر سيد قطب من هذا التعبير ولستُ أبالى إن غضب»، فهو يأخذُ عليه بعضَ أنواع الضَّعْفِ والخطأ.
* شاعر وإعلامي من مصر
( المصري اليوم )