*محمد إسماعيل زاهر
باتريك موديانو الفرنسي الخامس عشر الذي يفوز بجائزة نوبل للآداب، معلومة نصادفها في الفقرة الأولى من متابعة وكالة الأنباء الفرنسية لهذه الجائزة العالمية، وفي المتن تعداد لجنسيات الفائزين السابقين، حيث حصل عليها 27 أديباً يكتبون بالإنجليزية و14 بالألمانية، أما في وكالة “رويترز” فهذه المعلومة ملقاة في متن الخبر مع تراجع أعداد الفائزين الفرنسيين بها إلى أحد عشر أديباً، والخلاف يعود إلى أن “رويترز” حذفت الأدباء الفرنسيين من أصول أخرى، وهناك إشارة إلى أنه روائي غير معروف في الإنجليزية، وكتبت “بي .بي .سي” أن موديانو الفرنسي الثاني الذي يحصل على نوبل في ست سنوات بعد لوكليزيو (2008) .
في الكثير من المواقع العربية ستشعر بأن الجميع تفاجأوا بهذا الاسم، مع الأخذ في الاعتبار بأن موديانو حصل في السابق وفي أوقات مبكرة من حياته، حيث يبلغ الآن 69عاماً، على جوائز موزونة: جائزة “الرواية الكبرى من الأكاديمية الفرنسية” في عام 1972 ، و”غونكور” ،1978 و”الجائزة الوطنية الكبرى” عن مجمل أعماله ،1996 واسمه متداول ضمن قائمة المرشحين لنوبل منذ سنوات، والكثير من أعماله التي تتراوح بين 30 و40 عملاً، والمعلومات هنا متضاربة أيضاً، مترجمة إلى 36 لغة، وترجمنا له ثلاث روايات، تدور أحداث واحدة منها حول شخصية المهدي بن بركة .
يحق للمتابع أن يلاحظ ذلك السباق بين الآداب المختلفة التي تفخر بالحصول على هذه الجائزة، أي أن هذه الحالة لا تقتصر علينا وحسب، مع عدم الالتفات إلى ما يدعو إليه البعض بدافع الملل أو أرضاء الذات الجريحة ويتعلق بضرورة ألا نفكر في هذه الجائزة ولا نلهث وراءها ولا نظل ننظر كل عام في قائمة المرشحين بحثاً عن الأدباء العرب يحدونا الأمل، مرددين بعناد في الظاهر أن الجائزة ذات ميول سياسية معينة أو أن هناك مؤامرة أو توجهاً ما يمنع حصول أي أديب عربي عليها . . إلخ، وفي الباطن يتمنى الجميع فوزنا بها، وهو ما يقع في باب النفاق الثقافي .
لقد تحول شهر أكتوبر/تشرين الأول من كل عام إلى موسم لتوقعاتنا، وهي في النهاية مجرد توقعات لا تبنى على معرفة حقيقية، في كل عام نسأل عن المرشحين العرب ونحلم بالفوز، ولكن ماذا عن الأدباء العرب الآخرين بخلاف الاسمين اللذين نكررهما دائماً؟ وماذا عن آليات وكيفية الترشح؟ الغائمة الغامضة، وأعضاء لجنة نوبل ومزاجهم، وماذا عن غياب من يحدثنا عن الأدباء الأجانب الآخرين المرشحين؟ منذ سنوات والياباني هاروكي كوراكامي والأمريكي فيليب روث على القائمة، الأول تباع أعماله بالملايين وبكل لغات العالم، تقرأ له وتشعر بأنك متورط في رواية غربية بامتياز، حيث تكاد اليابان أن تختفي في أعماله، والثاني أشهر أدباء أمريكا المعاصرين ينفذ إلى أعماق مجتمعه ليحوله إلى سردية تسحر القارئ المدمن للرواية، بل وماذا عن أعمال الفائزين بنوبل خلال السنوات الماضية؟ الفرنسي لوكليزيو الذي يراوح بين الرومانسية والسحرية، والألمانية هيرتا موللر التي تقاوم بكلماتها العادية الاستبداد، والصيني مويان الفاتن الذي يضعك في قلب الصين .
في قائمة السنوات الأخيرة لم نكن نعرف إلا البيروفي يوسا سليل ماركيز وساراماغو وغيرهما، حيث الأدب اللاتيني الذي ازدهرت ترجمته مع دعوات الانعتاق من أسر اللغات المركزية، فخرجنا من الإنجليزية والفرنسية والألمانية إلى الإسبانية والبرتغالية، وفاجأنا السويدي ترانسترومر، من باب اللغة والشعر، والكندية أليس مونرو، من باب القصة، والصيني مويان القابع في الشرق الأقصى، في هذه الحالات لم نكن نعرف شيئاً عن هؤلاء، وكان لمعظمنا العذر، فالسويدية ليست على قائمة اللغات المنتشرة، هي تنتمي إلى المركز ولكن من بعيد ولذلك فإهمالنا لها هنا مضاعف، والزمن للرواية وليس للشعر أو القصة، والصين وفق ذهنيتنا العتيقة من الدول المغضوب عليها التي لا يمكن لأحد أدبائها أن يفوز بالجائزة .
ولكن ماذا عن موديانو؟ وهل معنى أن نتجه إلى آداب اللغات الأخرى أن نتوقف عن ترجمة اللغات “القديمة”؟ وما يثير في هذا الموضوع أيضا أن روايتين له ترجمتا في الجزائر، مع ما في ذلك من إشارات لافتة لا نحب التطرق إليها، ورواية ثالثة ترجمت في مصر خارج سلسلة الجوائز والتي لم تلتفت إلى كاتب حصل على جوائز كبرى ووصف بأنه “حكاء باريس”، وأين هو هذا الاسم في قائمة الترشيحات التي قرأنا عنها في الفترة الأخيرة؟ وهل نحينا هذا الاسم لاعتقاد يستبعد فوز فرنسي بالجائزة مرة أخرى في ست سنوات؟
إن الثقافة ليست شعارات أو مقولات تردد ولا تقاس بمزاج السوق، والخلل ليس في “نوبل” التي تتجاهلنا أو على الأقل تتجاهل توقعاتنا، بل إن تأمل مفردات فوز أديب واحد بهذه الجائزة يكشف أن الخلل كامن في رؤانا المعرفية، خلل في الذهنية وطرائق التفكير، وخلل في آليات على الأرض فلا ناقد يتابع المترجم إلى العربية، ولا مثقف موسوعياً يمتلك لغات عدة يفتح نافذة على العالم، ولا مجلات تنقل ما يحدث على الضفاف الأخرى إلينا، وهؤلاء وفق الموضة الثقافية مبدعون من الدرجة الثانية أو على الهامش، ولكن فالحقيقة أن تكوين هؤلاء يخضع لمعايير أخرى لا تتفق مع “الشو” الثقافي الذي نعيشه .
الأكثر إزعاجاً في إحصاءات نوبل التي أشرنا إليها في البداية يتمثل في ضرورة الوقوف مع النفس، في لحظة صدق، هي لحظة تستدعي الابتعاد قليلاً عن نقد رؤيتنا المعرفية للجائزة، لنقترب أكثر من الأدب، هل يعني فوز هذه الأعداد الكبيرة بالجائزة في لغات المركز بتحيز دائم لهم وتجاهل “دائم أيضاً” لنا؟ وهل كل الفائزين الغربيين بنوبل يخضعون إيديولوجيا لسياساتها التي لا تتفق، وفق صرخات البعض منا، مع أهدافنا وتطلعاتنا؟ الواقع يقول إن قلة ضئيلة من هؤلاء ينطبق عليهم ما يروج حول نوبل في الساحة الثقافية العربية، ولماذا كنا نمتلك في السابق تلك المجموعة من الأدباء التي يسارع أي متابع بالقول إنهم يستحقون الجائزة؟ والآن هناك خلاف وإن كان يدور في الكواليس المغلقة حول الاسم أو الاسمين العربيين المرشحين للجائزة، ويتزايد الخلاف إذا طرح أحدهم اسماً ثالثاً، هنا هل يتميز الأدب العربي المعاصر ببعده عن الذائقة النوبلية؟، وهل تراجعت جودته الراهنة وفق معاييرنا الداخلية بعيداً عن نوبل؟ سؤال مزدوج وإشكالي، ولكن الإجابة الصادقة عنه ستقربنا من الجائزة بحيث تتحول إلى مناسبة معرفية لا كرنفالية.
______
*الخليج الثقافي