*نذير الماجد
أغراني المفكر المصري عبدالوهاب المسيري في مقالة له حول التفكيك، وبغير قصد منه، لقراءة وإعادة قراءة دريدا ودولوز ومن لفّ لفهما من وجوه ما بعد الحداثة، وكما هو ديدني رضيت بما يشبه الفهم وبما يشبه القراءة طالما أن كل قراءة هي دائما “سوء قراءة”.
أغراني نقد المسيري للتفكيك بقدر ما فيه من فتنة.
أحببت دريدا وتفكيكه لأن فيه ما يشبهني، وربما لأنني هامشي أمقت المتن وأميل بالمثل إلى كل ما هو هامشي، وربما لأنه يكتب، كأي “لا عقلاني” منحدر من نيتشة وهايدغر، مثلما ترقص راقصة باليه.
أيا تكن دواعي الغواية، الأكيد أن غواية النص كفكر يمتهن نحت الماء جاعلا إياه أداة للمقاومة ضد كل خطابات الهيمنة، تعود أولا إلى طاقته التدميرية، طاقة الهدم الكامنة في كل مفاصله. غير أن للغواية أيضا أسبابها الأخرى، خاصية العبث سبب لا يقل أهمية في الخطاب التقويضي. مع دريدا خاصة، يؤدي العبث إلى ذوبان الفواصل بين القراءة والكتابة، بين النص وتفسيره، بل إن للقراءة مصيرا حتميا من التورط في المقروء، النقد لا يمارس الهدم وإنما يقتات، يصبح طفيليا، هناك ما يشبه القصد “الهوسرلي” كشرط للفهم، كأن النص قبل ايمان مستغلق عصي على الفهم وبالتالي النقد، كما لو كان الأخير مشروطا بالإيمان، بحيث تتقدم المقولة الإيمانية “آمن قبل أن تفهم” على حساب الفهم الذي يسبق الإيمان.
الطفيلية والتورط تجعلان القارئ منتميا لنصه، مؤمنا به إيمانا لحظيا، النص سلسلة من الاقتباسات، والإيمان سلسة من الجحود، بهذا المعنى تبدو القراءة مثل متعة عذرية، فهم الخطاب مشروط بانتماء وقصد ايماني يتجاوز الفرض التعسفي نحو نمط معايشة، بحيث يبدو التفسير ماهية مؤنثة، والقراءة فخ، والنص دعوة.
فخ القراءة يعني شكلا من الإيمان المتحول القلق، في قفزات راقصة يأخذ شكلا نقيضا ماثلا في تعددية وثنية، ليس هنالك من تراكم وإنما قفزات، تحولات مضحكة بين النصوص والأيديولوجيات والخطابات، الطفيلي إذن رحالة بين النصوص، “فينيق” روائي يموت في حكاية لينبعث في أخرى: سيبدو المتلقي ماركسيا حين يقرأ ماركس، مسيحيا حين يقرأ المسيح، تفكيكيا حين يقرأ دريدا.
من هنا جمالية السمة الطفيلية للقراءة، إنني أفهمها دون أن أكون وفيا بشكل كامل لدريدا وتفكيكه، على أنها تحطيم لكل ما هو مؤكد في الذات المتلقية والمتكئة على النصوص، الذات المؤكدة والمتماسكة تتحول إلى ذات سعيدة بهشاشتها، ذات هي محض احتمال، هي فراغ وتقبل أنثوي منتهك بصراع مضني للنصوص والأفكار، إنه يتشكل منها لكن هذه التشكلات سريعة العطب والتبخر، ستتسم جماليات التلقي في هذه اللحظة بعشق من النوع السادومازوشي، النص ذكر يمارس ساديته المحببة لضحيته المريضة، مرض أنثوي لذيذ بالنص وتحولاته وتناقضاته وتوتراته.
سأمد التفكيك إلى أقصى مدى، سأقول مغامرا إننا بحاجة إلى الإيمان ولكن بعد التشبع بالتفكيك “الفريضة الغائبة”، سأتابع خيانتي لدريدا بما يداعب مشاعر المفكر عبدالوهاب المسيري المعروف بموسوعته اليهودية، لأقول إن التفكيك بحاجة إلى الإيمان كمخلص، ذلك لأن التفكيك سيرورة نفي، تقويض لثوابت آخذة في تقلصها، وصولا للحظة العدم، حيث يدمر التفكيك ذاته إن لم يتوقف مستدركا بنوع من التعسف الإيماني.
ترتكز المآخذة إذن، والتي هي الحل في الآن نفسه، على حقيقة مفادها أن التقويض اللامتناهي للإيمان ولكل مدلول متجاوز، لكل ميتافيزيقا، سيؤدي لا محالة إلى عدمية معلقة في فضاء جنوني ذاتي مغلق، بحيث لا يؤدي ذلك إلى سوء فهم وحسب وإنما إلى انعدام كل إمكانية للفهم والتواصل، نهاية الفكر الغربي المركزي لم تبدأ على يد دريدا، وإنما من لحظة التدمير لآخر ميتافيزيقا، مرورا بارساء عقلانية مناهضة للماورائيات، إن مآل الحداثة هو العدم، كأن مآل النقد المزيد من التآكل، مصير التهام الذات بممارسة التفكيك على التفكيك ذاته، ولكن للحؤولة دون ذلك، على التفكيك أن يتحول إلى مطلق آخر، إلى مدلول متجاوز، إلى إيمان، وهكذا يبدأ النقد بتفكيك الإيمان ليصبح هو ذاته إيمانا، لكنه إيمان الآخر المختبئ والمحتجب خلف حجب اللاهوت الثبوتي والمطلق والعقلاني، ولنقل بعبارة منحوتة: إنه الإيمان الشكوكي!
وهنا سؤال مقلق: أليست هذه مفارقة تجعل التفكيك خائنا لذاته؟ ليكن، فهذا الإيمان المتعسف والخلاصي المنقذ سيفتح إمكانية لتموضعات إيمانية منزلقة ومنزاحة باستمرار، هذا الانزياح العزيز على قلب دريدا سيتيح معانقة فريدة، مصالحة بين اللاإنتماء والإنتماء، اللاأدرية واليقين، العدم والوجود. في التفكيك المنتهي بإيمان كما في القراءة كسلوك ونشاط طفيلي سيولد أفلاطون سفسطائي، فيلسوف دون نسق أو مبدأ أو مركز، فيلسوف دون فلسفة.
تدشن هذه القراءة غوايات وافتتانات وأفخاخ لا تنتهي، كسلسلة مستحيلة من الإحالات: كل نص يحيل إلى غيره حتى ما لا نهاية، ليس للقراءة مرسى إلا العبث، العبث ربما هو المبدأ المتعالي، هو خطيئتنا الأولى والأخيرة، هي نقصنا الفطري الذي يجعلنا في نهم دائم لكمال مستحيل، نحن نؤمن لحظيا، ودائما ما نقرأ على نحو سيء، القراءة دائما فعل ناقص، تحضرني هنا نصيحة لكاتبة مبدعة تحثنا على نبذ الكتابة الكاملة بوصفها معادلا أدبيا للطغيان، الكتابة المبدعة هي دائما كتابة مجنونة تنهل من الفوضى والنقص وحتى الرداءة، كذلك هي القراءة، وكذلك هو القارئ الذي هو دائما قيد التشكل، يتغذى طفيليا على اقتباسات تؤثث وعيه وحصيلته الثقافية، وعلى هذا النحو أيضا، ستبدو القراءة الكاملة، القراءة النرجسية التي تدعي فهما كاملا ونهائيا وايمانا مستقرا، ستبدو كنقبض لقراءة لعوبة راقصة ومعادية للصرامة، قراءة وتلقيات منغمسة في ملذات الكائن الطفيلي الملوث بأخطائه وتراجعاته والمتعطش في الآن نفسه لذلك اليقين البعيد.
______
*ميدل إيست أونلاين