باتريك موديانو يخطف نوبل من الكبار


*ترجمة: عبد الخالق علي

لم ينجح السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية، في الوصول للكاتب الفرنسي، باتريك موديانو، ، ليخبره النبأ السار الذي كان ينتظره كبار أدباء العالم / لقد فاز بجائزة نوبل للآداب لعام 2014 . المسيو موديانو كان يتناول الغداء بصحبة زوجته في أحد المطاعم الباريسية، الوحيد الذي استطاع ان ينقل اليه البشرى هو ناشره الفرنسي صاحب الدار الشهيرة غاليمار ليكون الجواب من كلمتين ” امر غريب .”

و بعد 5 ساعات من هذا التصريح المثير والغريب يسال موديانو الصحفيين الذين تجمعوا أمام منزله : لماذا فزت؟ ، ثم يأخذ وقتا ينظر فيه الى الوجوه التي تريد منه ان يطير فرحا بالجائزة والمبلغ الكبير الذي يتجاوز المليون دولار لكنه يتحدث اليهم كعادته بكلمات اقرب الى الهمس: “ما أود معرفته هو الأسباب التى جعلتهم يختارونى.. لا يستطيع المرء أبدا أن يكون قارئا لكتابات نفسه. بل إن لدى انطباعا أننى أكتب الكتاب نفسه منذ 45 عاما”. ولم يجد جوابا للصحفي الذي سأله عن ما سيفعله بقيمة الجائزة المالية :” سأهديها لحفيدي السويدي.” 
الأكاديمية السويدية، وهي تتوج موديانو بجائزتها الأدبية الكبرى قالت في بيانها ، إن موديانو كرم بفضل “فن الذاكرة الذي عالج من خلاله المصائر الإنسانية الأكثر عصيانا على الفهم” ، إن عالم باتريك موديانو “عالم رائع، وكتبه تتحاور فيما بينها”. ويُنظر إلى أعماله على أنها ساحة ثابتة للأحداث، لا يقع فيها أي تفصيل من باب المصادفة.. انه مارسيل بروست عصرنا ” 
فيما قال سكرتير لجنة نوبل إن “كتبه تتحدث كثيرا عن البحث، البحث عن الأشخاص المفقودين والهاربين، وأولئك الذين يختفون، والمحرومين من أوراق ثبوتية، وأصحاب الهويات المسروقة ، فأبطال روايات موديانو هم غالبا من الأشخاص الباحثين عن هوياتهم، يكبرون بين عالمين، بين الظلام والنور، وبين الحياة في المجتمع والمصير الذي يحلمون به. وترسم نصوصه صورا حية لباريس بدقة تحاكي الأعمال الوثائقية ” 
ولد السيد موديانو في باريس عام 1945 ، بعد أسبوعين على نهاية الحرب العالمية الثانية . التقى والداه – ممثلة بلجيكية و أب يهودي من أصول إيطالية – خلال الاحتلال النازي. عاش طفولة قلقة بين غياب الأب و انشغال الأم ، كما ترك موت أخيه “رودي” جرحاً لا يندمل في نفسه، وظل يهدي إليه أعماله ما بين 1967 و1982. يقول عن ولادته: “المصادفة هي التي جاءت بي الى الحياة عام 1945، و هي التي حرمتني من المحيط العائلي. لست مسؤولاً عن الأفكار السود والقلق، فأنا لم أختر أبداً مادة أعمالي “. 
برز السيد موديانو– الذي نشر 30 عملا بما فيها روايات و كتب للأطفال و سيناريوهات – على الساحة عام 1968 بروايته الأولى ” ميدان النجمة ” التي بدأها عندما كان طالبا في جامعة السوربون . تؤكد أكاني كاوانكامي أستاذة الأدب الفرنسي في كلية بيركبيرك – جامعة لندن على الأسلوب السهل الذي يقدّم به موديانو موضوعه الذي ينطوي على الألم أحيانا ” تعتبر مؤلفاته الأكثر مبيعا في فرنسا لأسلوبه السهل ما يجعل الأكاديميين لا يولونه اهتماما كبيرا، كما انه يأنف الكتابة الصعبة و التجريب “. 
انخرط السيد موديانو كثيرا في السينما و تزخر مؤلفاته بالمراجع السينمائية ، كما انه عمل في هيئة التحكيم لمهرجان كان السينمائي، و ألّف كتابا مع الممثلة كاترين دينوف عن شقيقتها فرانسوا دورليك . في سنوات الستينات كتب موديانو كلمات العشرات من الأغاني الفرنسية بما فيها أربع للمطربة فرانسوا هاردي .
فازت روايته ” شخص مفقود ” عام 1978 بجائزة بريكس غونكورت التي تعتبر من أكثر الجوائز المرموقة في فرنسا، و في عام 1996 منح جائزة بريكس ناشنال الكبرى للأدب عن مجموعته الكاملة . نشر كتابه الأخير “حتى لا تضيع في الحي ” في فرنسا بداية الشهر الحالي. 
من جانبها قالت صحيفة نيويورك تايمز ان رواياته، المزاجية المقتضبة و الشبيهة بالأحلام أحيانا ، تدور في الغالب حول الاحتلال النازي لفرنسا. قال عنه انغلوند ” انه مارسيل بروست زماننا ” و ان أعماله تردد صدى بعضها البعض و انها تنوعات للموضوع ذاته. احتفى قراؤه و ناشروه بفوزه باعتباره كسبا للاعتراف العالمي بمجمل أعماله التي تمتد لما يقرب من خمسة عقود و إقرارا بمجد الأدب الفرنسي على خطى مواطنيه الفائزين بجائزة نوبل جين بول سارتر و ألبير كامو . تقول آني غيسولي مديرة مكتبة غاليمارد ” ستساعد الجائزة في تسليط الضوء على واحد من أدبائنا البارعين، انه سيد الكتابة عن موضوع الذاكرة و الاحتلال الذي يطغى على أعماله، انه مؤرخ باريس و شوارعها ، ماضيها و حاضرها “. 
من جانبه قدّم الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند تهانيه لموديانو في تصريح قال فيه ” تفخر الجمهورية الفرنسية بفوز واحد من أكبر أدبائنا، اذ ان موديانو هو الفرنسي الخامس عشر الذي يحظى بهذا التمييز البارز ما يؤكد الأثر الكبير لأدبنا “و أضاف ان أعمال السيد موديانو ” تستكشف خفايا الذاكرة و تعقيدات الهوية “.
ترجمت أعماله في أنحاء العالم بما فيها عشرة مؤلفات الى اللغة الإنكليزية . في فرنسا يقرأ الكثيرون كتب موديانو بسبب أسلوبها البليغ الموجز. أشهر مؤلفاته تشمل رواية ” شخص مفقود ” و هي قصة وجود تحكي عن رجل يجوب العالم في محاولة لتجميع شتات هويته المتشظية ؛ و رواية ” دورا برودر ” التي تستقصي اختفاء فتاة يهودية عام 1941 ؛ و ” خارج الظلام ” و هي رواية هلوسة يرويها كاتب متوسط العمر يستذكر علاقة غرامية بشابة تائهة . 
ان كان موديانو قليل الشهرة في الولايات المتحدة فليس لأنه يفتقر الى الموهبة و انما يعود ذلك الى تقوقع الكثير من القراء الأميركيين، عدا إجادتهم القراءة بلغة واحدة . 
لم تتمكن أكاديمية نوبل من الاتصال بالسيد موديانو قبل إعلان فوزه . خلال مؤتمر صحفي دام ساعة كاملة في مقر دار نشر غاليمارد قال السيد موديانو بأنه علم بفوزه عندما اتصلت به ابنته و هو يسير في الشارع، يقول ” فوجئت قليلا لكني استمررت في السير. تذكرت عندما فاز كامو بالجائزة في 1957 و سارتر في 1964 “. كما عبّر عن دهشته لاختياره للجائزة . 
في مقابلة معه عام 2012 مع صحيفة لو فيغارو الفرنسية ، قال موديانو أنه يشعر بالراحة عندما يتحدث عن نفسه و عن كتبه ” في البداية ، مارست الكتابة كنوع من القيود. ان البدء بالكتابة في سن مبكرة أمر مثير للشفقة ، انها خارج قدرتك. عندما نظرت مؤخرا الى كتاباتي المبكرة ، شعرت بصدمة لعدم احتوائها على مجال لالتقاط الأنفاس “. لدى سؤاله عما اذا كان يتطور كأديب قال ” في الحقيقة لا، يبقى إحساسي بعدم الرضا مع كل كتاب. لدي حلم قديم يتكرر في انه لم يعد عندي ما أكتبه و اني تحررت، لكني في الواقع لم أتحرر و لا زلت أحاول توضيح الموضوع ذاته مع شعوري بأن ذلك لن يتحقق “. 
تمنح جائزة نوبل – ذات المكانة المرموقة و الكرم المادي – لمن أمضى عمرا طويلا في الكتابة و ليس عن عمل واحد . من المؤكد ان تساعد الجائزة على ترويج مبيعاته من الكتب، حيث أعلن ناشره الفرنسي بأن شركته ستطبع مئة ألف نسخة إضافية من مؤلفاته، بينما سيطبع الناشر الأميركي ديفيد غودين – الذي نشر ثلاثةً من كتب موديانو – خمسة عشر ألف نسخة إضافية منها حيث لم تباع من هذه الكتب الثلاثة في أميركا أكثر من ثمانية آلآف نسخة، و من جانبها أجّلت مطبعة جامعة يال – التي كانت تخطط لنشر مجموعة أعمال من ثلاث روايات لمودينو في شباط – تاريخ النشر الى شهر ت2 و زادت عدد النسخ من ألفين الى عشرين ألفا . 
خلال حديثه في المؤتمر الصحفي ، قال موديانو ان تلقيه هذا الكمّ من الاهتمام بأعماله بعد عقود من الكتابة في العزلة يبدو غير حقيقي بعض الشيء ” كنت أشعر دائما كما لو أني أكتب الكتاب نفسه على مدى 45 عاما “. 
في حوار مع مجلة أنرو كابيتيبل الفرنسية يوم العاشر من تموز 2013 عن مضمون رواياته و الخلفية التي يستلهم منها، قال موديانو ان رواياته تجسّد خزين ذكرياته في فترة الشباب عن مدينة باريس و شوارعها و ساحاتها و أهوالها خلال العقد السادس من القرن الماضي حيث كانت تلك الفترة مليئة بالفزع و الشغب، و أكد انه لا يكتب ليكتشف ذاته . عن الأحياء المعينة التي يذكرها في رواياته ، يقول انها الأحياء التي تردد عليها مثل الحي الثامن عشر في مونتسوري و المدينة الجامعية في رواية ” ليالي العشب ” ، و انها ترتبط بفترة سوداء عاشها بصعوبة و كانت باريس خلال حرب الجزائر مليئة بالقلق و خطيرة و مضطربة ” كانت باريس في ذلك الزمن تخيفني، و كل شيء كان يسبب لي الفزع “. فيما يتعلق بفكرة التخيّل الذاتي، يقول ” اعتقد ان المعطيات الأوتوبيوغرافية تنفع اذا ما أضفنا لها شيئا من التخيّل الذي يتيح لك التواصل مع القارئ و يثير دهشة شخص من خارج الذات “. 
عن رواية ” ليالي العشب ” التي تحكي قصة اختطاف المهدي بن بركة ، زعيم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الجزائرية ، في باريس عام 1965 و الذي اختفت جثته حتى هذا اليوم ما خلّف ضجة سياسية كبيرة، يقول موديانو ” كانت تلك مرحلة ضبابية ، كنت حينها في الحادية و العشرين من عمري أعيش حياة مهاجر سري عابر في باريس أتردد على أماكن غريبة ، و أرافق أشخاصا يرتبطون بعالم مشبوه هم الذين خططوا لاختطاف بن بركة بينهم رجال مخابرات مغاربة و مجرمين فرنسيين من ذوي السوابق “. انها رواية تحوي الكثير من أحلام كاتبها.
 عن: الفاينانشيال ونيويورك تايمز
_________
*المدى

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *