نيتشه: الغباء ليس من شيم النساء


* محمد زكريا توفيق

في كتابه “إنسان مفرط في إنسانيته”، ناقش نيتشه موضوعات مثل التعليم، التاريخ، الثقافة، الميتافيزيقا. نجده يلخص مناقشة العلوم والدين، ويضغطهما معا في فقرة واحدة. هنا يتبين لنا أسلوب نيتشه المميز، الذي نجده في بعض الأحيان، أسلوبا محيرا: “الذي يتعمق في الأمور، يعرف أنه دائما مخطئ، مهما كان اختياره.”

في أحيان أخرى، نجد اسلوبه استفزازي: “ليس هناك توافق وهارمونية بين طلب الحقيقة ورفاهية الإنسان.”
وقد نجد أسلوبه مثيرا للجدل: “ما نطلق عليه الآن اسم العالم، هو نتاج تراكم أخطاء وتهيؤات وأوهام، ظلت تتراكم تدريجيا مع الوقت وتتطور، وأصبحت متداخلة ومتشابكة مع بعضها، نتوارثها من جيل إلى جيل، على أنها كنوز الماضي الثمينة.”
في أحيان أخرى نجد أسلوبه عدمي: “عدم معقولية الشيء، ليست دليلا على عدم وجوده، إنما حالة من حالاته.”
في أعماله: “ما وراء الخير والشر (1886)”، “أصل الأخلاق (1887)”، “هكذا تكلم زرادشت (1833-5) “، قام نيتشه بمناقشة الموضوعات الآتية: أصل الأخلاق والدين – حدود العلم – إرادة القوة – الحقيقة وطبيعتها.
تنوع نيتشه في موضوعات الكتابة، أمدنا بإنتاج فكري وأدبي بأسلوب مركز يستخدم الاستعارة والتشبيه والرمز. كان يتجنب المناقشات العميقة، لأنه يعرف أنها طريقة تفكير الأكاديميين المتحذلقة الذين يسلكون طرقا ضيقة ببطء، في بحثهم عن الحقيقة المطلقة، أو البحث عن نظام فكري كلي يصف أفكارهم.
كتب يقول بأنه لا يثق في الأنظمة الفكرية ويحاول تجنبها. كتب عام 1887 “العلم الجذل”. بعض الجمل التي جاءت به تقول:
“أعامل المشاكل العميقة، مثل أخذي لحمّام بارد. سريعا أدخل، وسريعا أخرج.”
“هذه الطريقة تجعلك تفشل في الوصول إلى أعماق المشكلة.”
“خرافة مرض الكلب”.
“هل تبقى الأمور حقا غامضة إذا قمنا بلمسها، رؤيتها، فحصها، أو إضاءتها بمجرد المرور بها؟”
“هل من الواجب حتما الرقاد على المشكلة أولا لكي تفقس، كما نرقد على البيض؟”
“لا، المفكر العظيم له لمسة سحرية وروح طليقة. مثلما تخبرنا السحب عن اتجاه الريح فوق رؤوسنا. كذلك اللمسة السحرية والروح الطليقة للمفكر تتنبأ بما يخبئه المستقبل لنا. لكن، يفقد هذه الروح الطليقة، الأكاديميون الذين تختلط عليهم الأمور.”
العالم الأكاديمي الذي يشبه عالم النمل، ينتج الكثير من المراجع والكتب للقراء، يؤكدون مقولة، إن الأفكار العميقة، يجب عرضها بشيء من التطويل الممل. لكن نيتشه يختلف هنا.
ما يقال باختصار، يمكن أن يكون ثمرة تفكير طويل. لكن القارئ عديم الخبرة، يرى في كل شيء قيل باختصار، شيئا لم يقم المؤلف بخدمته جيدا.
معظم المفكرين، يكتبون بطريقة رديئة. لأنهم لا يناقشون أفكارهم فقط، وإنما يناقشون معها رأيهم فيها. لهذا يجب استخدام الكلمات بعناية وشغف. اكتب بالدم. فقط، القارئ الفطين هو الذي سيفهم المعنى.
الأقوال المأثورة والأمثال، هي صيغ خالدة. كل ما أرجوه، هو أن أقول في عشر جمل ما يقوله، أو لا يقوله، غيري في كتاب كامل.
دعنا نضرب بعض الأمثلة لما يعني نيتشه بالأقوال المأثورة بالنسبة لموضوع المؤلفين والقراء:
“لن أقرأ ثانية لكاتب أشعر بأنه يريد أن يكتب كتابا. لكنني سأقرأ بالطبع لهؤلاء الذين كونت أفكارهم، بدون قصد، كتابا.”
“الأفكار الحقيقية للشعراء الحقيقيين، نجدها دائما منقبة، مثل المرأة المسلمة.”
“لماذا أكتب؟ لأنني لم أجد طريقة أخرى للتخلص من أفكاري.”
“ما هي أهمية كتاب، لم يستطع اخذك إلى ما هو أبعد من عالم الكتب؟”
“عندما يفغر الكتاب فاه، على المؤلف أن يغلق فمه.”
“التناقض، ما هو إلا أدلة، يبغي المؤلف اظهارها جلية، أو ربما يحاول تضليلنا أو خداعنا.”
“الكتاب، يكون أفضل، بأفضل القراء. وأوضح، بأشد الخصوم.”
“السطور غالبا ما تختفي بتفسيرات القراء.”
“ضعف الشخصية الحديثة، يظهرها النقد الكثير بدون قواعد.”
“في النهاية، لا يستطيع أحد استخراج من الأشياء، بما في ذلك الكتب، أكثر مما يريد أن يعرفه. لا أحد يستطيع الحصول على خبرة غير مهيأ لقبولها.”
“قد يصف أحد الناس أن هذا الكتاب ضار. لكن دعه ينتظر، ربما ليوم واحد، ستجده يقر بينه وبين نفسه بأن هذا الكتاب قد أسدى له خدمة كبيرة. لقد بين له أمراض نفسه وقلبه وجعلها ظاهرة جلية.”
عندما نشر نيتشه مؤلفه، “إنسان مفرط في إنسانيته”، كانت صحته في النازل. فقد الكثيرين من أصدقائه. أرسل نسخة من الكتاب إلى فاجنر، لكن الكتاب لم يلق القبول. قال فاجنر عن الكتاب: “لقد أسديت له معروفا بعدم قراءتي الكتاب. كل ما آمله هو أن يقوم بشكري لذلك.”
بعد ذلك بعام واحد، تدهور صحته جعله يستقيل من التدريس في جامعة بازل. كتب يقول في خطاب الاستقالة: “أشعر، وأنا في منتصف العمر، أنني رجل عجوز محاط بالموت من كل جانب. يتربص بي لكي يأخذني في أية لحظة.”
في خطاب آخر، كتب يقول: “الصعوبة التي واجهتني في تأليف هذا الكتاب، لا تجعل أحدا يريد تأليفه بأي ثمن.”
كما تبين فيما بعد، أن نيتشه قد دفع ثمنا باهظا لأفكاره العقلية.
“إذا كان قدرك هو أن تفكر، اعطِ أفكارك احتراما وشرفا إلهيا. ضحِّ من أجل أفكارك بأعز ما لديك وأغلى ما تحب. كل انتصار للمعرفة، يأتي بعد صعوبات ومكابدة للنفس.”
في عام 1889، فقد الكثير من الأصدقاء المقربين، واكتسب الكثير من الأعداء، وبات يعاني من الوحدة المتزايدة. كل هذا بالإضافة لمعاناته المرضية اليومية.
بعد غلق منزله في بازل، سيقضي نيتشه ما تبقى له من عمر في الرحلات إلى فرنسا، إيطاليا، وسوسرا. في عام 1880، زار مارينباد، هيدلبرج، فرانكفورت، البندقية، بولزانو، ستريسا، وجينوة حيث قضى هناك فصل الشتاء.
الجزء الثاني من كتابه، “إنسان مفرط في إنسانيته”، نشر تحت عنوان “المسافر وظله”. وهو عنوان يلائم ما تبقى له من سنوات.
في أغسطس عام 1881، كان نيتشه في سيلس ماريا بسوسرا. كتب يقول:
“كنت في ذلك اليوم أمشي في الغابة بجوار بحيرة سيلفابلانا. توقفت بجوار صخرة عظيمة شامخة في شكل هرمي. عندئذ، خطرت ببالي فكرة.”
فكرة “العود الأبدي”، أو التكرار الأبدي. لقد انبهر نيتشه بعظمة وقوة وبساطة الفكرة، وقام بتكرارها في كتاباته. إنها فكرة مشابهة لفكر الفلاسفة الرواقيين الإغريق. كما أن صداها نجده في البوذية وفكرة تكرار الكارما. لكن ماذا يعني نيتشه بـ “العود الأبدي”؟
ماذا لو جاءك شيطان يوما في خلوتك ووحدتك، وقال لك:
“هذه الحياة التي عشتها وتحياها الآن، عليك أن تعيشها مرة أخرى وأخرى وأخرى،… إلى مالانهاية. لا شيء جديد فيها، غير ما قد عانيته سابقا من ألم وما صادفته من سرور، وكل ما مر بك من أفكار وتنهدات، وكل ما قابلته من أحداث، كل ذلك سوف يعود ثانية إليك مرارا وتكرارا. “
“ألا تلقي بنفسك أرضا، وتصر بأسنانك غيظا، ثم تلعن الشيطان الذي يخاطبك؟”
ربما نجد مثل هذه الأفكار كئيبة، لكنها في نفس الوقت، تعطينا راحة ميتافيزيقية. تخبرنا بأن الموت ليس هو نهاية كل شيء. فكرة “العود الأبدي”، تعطي معنى لسلوكنا الحالي.
ما نفعله الآن، سيرتد إلينا، مرارا وتكرارا. مما يؤكد حقيقة مسؤولياتنا عن هذه الأحداث.
يعني هذا أننا يجب أن نكون أكبر مما نحن، لكي نتحكم ونتغلب على أنفسنا. يجب أن نستخدم أنفسنا واللحظة التي نحن فيها أفضل استخدام.
يقول في كتابه “هكذا تكلم زرادشت”:
“هل قلتم نعم للسرور يوما؟ آه يا أصدقائي، ثم قلتم نعم أيضا لكل المحن. كل الأشياء متسلسلة ومجدولة ببعضها. كل الأشياء في حالة حب واندماج. إذا أردت تكرار لحظة سعادة معينة، فأنت تطلب تكرار كل شيء.”
كُتب الكثير عن علاقة نيتشه بالمرأة. لقد تربي منذ أن مات والده وهو في سن الخامسة مع أمه وجدته وخالتيه واخته، إليزابث، التي تصغره بسنتين.
أي أنه نشأ منذ الصغر وهو محاط بعالم من النساء، قمن بتربيته وتعليمه وفقا للتعاليم المسيحية التي تدعو للتحكم في النفس، التواضع، الإيثار، … إلخ. وهي قيم ومبادئ، بالنسبة لشخصية نيتشه، لا يمكن تحملها.
“كلما وجدت الحياة، جاء من يتكلم عن الطاعة. أينما تعيش، لابد أن تطيع.”
عندما كان طالبا، زار أحد البيوت المشبوهة على الأقل مرة واحدة. تسببت في إصابته بمرض الزهري. في بعض كتاباته، يمجد المرأة عاليا:
“المرأة ذكية، والرجل شخصية وشهوة”.
“الغباء ليس من شيم النساء”.
“هل هناك قداسة أجل من حالة الحمل عند المرأة؟”.
“العلاج الأكيد لمرض احتقار الرجل لنفسه، هو حب امرأة لها إحساس.”
لكن هذا لم يمنع نقده لها:
“المرأة في الأساس غير مسالمة.”
“بالنسبة للحب والانتقام، المرأة أكثر بربرية من الرجل.”
“الرجل الحق يريد شيئين: الخطر والتنوع. لهذا هو يريد المرأة، وهي أخطر الأشياء.”
“المرأة الكاملة، تمزقك إربا عندما تحبك.”
ثم يقوم نيتشه بتوضيح الفرق بين المرأة والرجل.
“الفرق بين المرأة والرجل، يجب أن يتسع بقدر الإمكان.”
“كلما كانت المرأة أكثر أنوثة، كلما كانت أكثر استخداما لأنيابها وأظافرها، ضد الصحيح بصفة عامة، والطبيعي من الأشياء. الحرب الخالدة بين الجنسين، تعطيها اليد العليا.”
“تاريخ المرأة يبين أن الإعجاب بالنفس شيء صحي. فهل رأيت امرأة تهتم بنفسها وبمظهرها تصاب بالبرد؟”
“المرأة تفهم الأطفال أفضل من الرجل. الرجل أكثر طفولة من المرأة.”
“لكن كلاهما، يجب أن يكونا متوافقين للرقص سويا. بالرؤوس والأقدام.”
“الرجل بالنسبة للمرأة، وسيلة إنجاب للأطفال. لكن من تكون المرأة بالنسبة للرجل؟”
كان لنيتشه مشروع زواج فاشل من امرأة هولندية عام 1876، ماتيلدا ترامبيداك. لكن حبه الوحيد كان عام 1882، لفتاة روسية، لو أندرياس سالومي.
صديق نيتشه المحلل النفساني اليهودي، بول ري، قام بتقديم الفتاة له في روما. بعد يومين من التعارف، عرض نيتشه عليها الزواج، لكن بدون استجابة منها. بول ري كان هو الآخر يحب الفتاة لو. بعد ذلك بفترة قصيرة، فقد نيتشه كلا منهما، الصديق والحبية، وعاد لوحدته.
“كان من الواجب أن أحبكما معا. لكنني أتفهم أنني إنسان يعاودني الصداع، نصف مجنون، تكاد تقتلني الوحدة”.
هذه الحالة التي كان عليها نيتشه عندما بدأ في كتابة أشهر أعماله “هكذا تكلم زرادشت” عام 1883. زرادشت، هو مسافر جوال وحيد في بلاد غريبة. زرادشت هو نيتشه نفسه.
الفتاة “لو” التي أحبها نيتشه، كانت فتاة رائعة. أحد الصور تبينها وهي تقود عربة تجرها، لا الخيول، وإنما نيتشه وصديقه ري، بينما هي تضربهما بالسوط. كان انطباعها عن نيتشه بعد مقابلته: “إنه يظل منفصلا عن الجو المحيط به. صامت تحيطه الوحدة من كل جانب.”
في عام 1887، كتب نيتشه “العلم الجذل”. انتقاده وتحليله للثقافة، يبدأ بكتابه “إنسان مفرط في إنسانيته”. به تجد أفكاره عن العلوم والدين والأخلاق. التي تتطلب لا شيء أكثر من تنظيم جديد لوعي الإنسان الحديث.
________
*ميدل إيست أونلاين

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *