باتريك موديانو الفرنسي الخامس عشر في محفل نوبل



هالة صلاح الدين *

 من بين عدد من الأسماء العالمية الراسخة في عالم القلم، نال مؤلف رواية “الشخص المفقود”، الروائي الفرنسي المنعزل باتريك موديانو (69 عاما)، في مفاجأة غير متوقعة، الجائزة المشتهاة، نوبل 2014 البالغة قيمتها سبعمئة ألف يورو لينضم إلى قائمة مهيبة من الكتاب من أمثال توني موريسون وإرنست همنجواي والفائزة في العام السابق الكندية أليس مونرو.
نشر موديانو ما يربو على ثلاثين كتابا، ولكن القليل منها مترجم إلى الأنكليزية، وقد أشادت اللجنة بما تحلّت به رواياته من “فن الذاكرة الذي استحضر به أقدارا إنسانية تتعذر تمام التعذر على الاستيعاب وحسر النقاب عن العالم الحياتي للاحتلال”، كما توجته بلقب “مارسيل بروست العصر”.

تفوّق موديانو على الياباني هاروكي موراكامي والتشيكي ميلان كونديرا والكيني نجوجي واثيونجو، وهو الفرنسي الخامس عشر الذي حاز الجائزة حتى الآن.

وهكذا تتجاهل اللجنة مرة أخرى الكاتبين العملاقين فيليب روث وتوماس بينشون، وفي كل عام منذ نحو عشر سنوات يتحدث النقاد في أغلب الأحيان عن خسارتهما أكثر من تحدثهم عن مكسب الفائز!

تدور الكثير من الأقاويل والنظريات حول “حيادية” اللجنة، ولكن الأرجح هو اعتقادها أن هناك أدبا عظيما قد يتجاوز اللغة الأنكليزية، وقد لا يكون بالضرورة مترجما إليها. بل إن أحد أعضاء اللجنة، وهو هوراس إنجال، أعلن أن ورش الكتابة الإبداعية الأميركية تقتل الإبداع وأن المنح تفصل الكتاب عن العالم بينما “كان الكتاب العظماء يعملون سائقين ونُدُلاً” كي ينفقوا على موهبتهم. وهكذا يمكن النظر إلى جائزة نوبل المعاصرة بوصفها منصة مثالية لإجهاض هيمنة أميركا الثقافية على العالم، ويسري أيضا الاعتقاد بأن أعضاء اللجنة المترفعين لا يروقهم منح الجائزة لمؤلفين تحتل كتبهم قوائم أكثر الكتب مبيعا!

ولد موديانو في أحد ضواحي باريس بعد شهرين من انتهاء الحرب العالمية الثانية. وقد تأثرت رواياته بأصله وعذاباته الشخصية، إذ ولد لأم بلجيكية وأب من أصول يهودية إيطالية كان غائبا على الدوام، فعانى موديانو من طفولة سمتها الحرمان والتشتت. وعلى انعزاله وترفعه عن التحدث إلى وسائل الإعلام وثّق تجاربه في سيرته الذاتية “الأصل” عام 2005.

قضايا الهوية

تتشرب كتابات موديانو قضايا الهوية ولا سيما اليهودية، وغالبا ما ترتبط بماضي فرنسا المضطرب إبان الاحتلال النازي. ولا ريب أن مشاعر الذنب والطموح المجوف مواضيع تتكرر تكررا لافتا في كتاباته، ومنها أولى روايته “ساحة النجمة” (1968) التي حصدت جائزة روجيه نيميه وجائزة فينيون وأشاد بها النقاد الألمان باعتبارها عملا محوريا يرسم الفترة التالية لما بعد الهولوكوست، إذ تغوص الرواية في معضلات أخلاقية جابهها المواطنون إبان الحرب العالمية الثانية لتكشف عن مدى فداحة ألم رافق فقدانهم لهويتهم.

قال موديانو يوما إنه “بعد كل رواية يراودني الانطباع بأني أنهيت كل شيء، ولكني أدرك أني سأعود المرة تلو المرة إلى تفاصيلها الصغيرة، أشياء بسيطة ترتبط بكياني. ففي النهاية تتحدد مصائرنا جميعا بمكان وزمان ولدنا فيهما”.

لذا يبدو أنه ليس بمقدور موديانو خوض مواضيع أخرى، فحين قرر كتابة فيلم “لاكومب لوسيان” (1974) مع المخرج لوي مال، دارت وقائعه أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا.

وفي الفيلم يعود القروي المراهق لاكومب لوسيان إلى أسرته لأيام معدودة في يونيو 1944 بعد أن اعتقل الألمان والده فيطمح إلى أن يصير مقاوما مثل معلمه إلا أن المقاومة ترفضه.وعند عودته إلى المدينة يعتقله بوليس حكومة فيشي المتعاونة مع الاحتلال الألماني. يشي لوسيان بمعلمه المقاوم ويجنده الغيستابو مخبرا بعد أن يتم إغراؤه بالمال والفتيات.

وينضمّ لوسيان إلى صفوف الشرطة المتواطئة مع المحتل وينعم عندئذ بالسلطة الجديدة. يفطن أنه لا يحمي فرنسا، وإنما يتعاون مع الشرّ. يدفع الثمن غاليا حين تتحرر فرنسا فيقبض عليه ويعدم بعد محاكمته.

روايات صغيرة

هكذا تلعب دائما الذاكرة وعنصر الوقت دورا لا يستهان به في روايات موديانو، وأغلبها صغيرة الحجم، ففي رواية “الشخص المفقود” الفائزة بجائزة بري غونكور عام 1978 نجد مخبرا فاقدا للذاكرة أثناء احتلال النازيين لفرنسا، وقضيته الأخيرة التي عليه فك شفراتها هي حياته نفسها. تنقلب أيامه إلى سلسلة من الألغاز والأوهام، فيتعقب خطاه عبر التاريخ ولمحات الذاكرة العابرة لكي يقف على هويته.

تتسم الرواية بلغتها البسيطة غير أنها راقية وبها من البلاغة ما يكفي للتعبير عن سعي البشر إلى المجهول.

صرح أكان كاواكامي، أستاذ الأدب الفرنسي في جامعة لندن، أن روايات موديانو تبدو في الغالب “وكأنها روايات بوليسية، فيها المخبر ذاته أخرق تعوزه البراعة ولا يسلم من الشبهات، راوٍ سيّئ الحظ وإنما محبوب، ينتهي به الأمر إلى كشف لغز -وإن لا يحله- يكتنف الاحتلال. إنها فترة يتراءى فيها موديانو مهووسا بالرغم من أنه لم يشهد الحرب في حياته”.


مسؤولية اليهود

لقد أعادت روايات موديانو تشكيل أدب الهولوكوست التقليدي، المتمحور في الغالب حول الندب وتوجيه أصابع الاتهام. ففي روايته “دورا برودر” (1997) هو وحده المجيب عن السؤال الشائك: ما صلة تعريف المرء لذاته والتفجع على أرواح ضحايا الهولوكوست بالهوية اليهودية الحقة؟

وهو بذلك يقف وقفة أخلاقية مسؤولة ليسبر مسؤولية اليهود عما جرى لهم وعلاقة هذه المسؤولية بحداد يمارسونه منذ الحرب. جسّد في الرواية حياة مراهقة في الخامسة عشرة من عمرها، تم ترحيلها من فرنسا عام 1942 ووافتها المنية في معسكر أوشفيتس النازي، وكذلك والداها، كتب موديانو، “إنهم أناس لم يتركوا أثرا، إنهم مجهولون”.

وما هم إلا مجرد أسماء على بطاقات هوية، موديانو ذاته التقى باسمها مصادفة وهو يفتش ذات يوم في جريدة قديمة. والرواية ما هي إلا محاولة لإسباغ شيء من القيمة المفقودة على “دورا”، واستعادة كيان إنسان تاه في خضم الاحتلال.

وعليه يعيد موديانو تشكيل صورة “دورا” وأسرتها مستغلا مصادر تاريخية وخياله السردي وكذلك ذكرياته الخاصة عن الحرب ليخلق مزيجا من الخيال والسيرة والتاريخ.

لقد نصبَّت روايات موديانو -بل وكتبه المخصصة للأطفال وسيناريوهات أفلامه- اسمه كواحد من أشهر الكتاب الفرنسيين منذ التسعينات وحتى الآن إلا أن شهرته لم تذع خارج حدود فرنسا.

ربما لأنه بالرغم من حصوله عام 2012 على جائزة الدولة النمساوية في الأدب الأوروبي، قلما يخالط أقرانه من الكتاب في مناسباتهم، ونادرا ما يجري الحوارات الصحافية حتى أن اللجنة السويدية أخفقت في نقل الخبر إلى موديانو قبل إعلانه رسميا!

وهو ما لا ينبغي أن يستدعي حقا استغرابا، فقد قال يوما في حادثة نادرة، “لا أحب الحديث كثيرا، فأنا أدهش من هؤلاء الناس الذين يجيدون الكلام”.


– العرب اللندنية

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *