أحمد الخطيب*
قبل هبوب الريح إلى صدري
أتفقّد عمري
وأروح إلى كيسٍ مربوطٍ في زاوية البيتْ
أفتحُهُ
وأفتّشُ فيهِ عن الزمن المفقودْ..
نبض الخميس
ليس سهلاً
تريقينَ نبضَ يديك اللتين تشمّعتا
في فضاء الحدوسْ
ليس سهلاً أريقُ يديَّ
على بُسُطٍ من كلامٍ قديمٍ
ولا أرتجي
لي صباحاً
كهذا الذي في الفِراشِ يُرى
أو أراه أنا كالضحى في مرايا النفوس
ليس سهلاً
ولكنني كلّما هئتُ في منزلِ الأرجوانِ
تعلّمتُ رفْعَ التروسْ
لأدفعَ حقل يدينِ تريقانِ نبض الخميس
خفّة الراجف
خلف هذا الجدار الذي في الحديقةِ
ظلَّ الحديثُ وقوراً
وظلتْ تمدُّ يديها إلى غصنها الناشفِ
كأنّ جهاتِ الخُطا
أوقفتها قليلاً
لتنظرَ أيّ الغصونِ يمارسُ حذف العيونِ
وأيُّ الجهاتِ ستربحُ
لو خلّفتها الرياحُ دقيقةَ قمحٍ
وأيّ المرايا سترجمُ شكلَ النوايا
إذا ما تغضّنَ إيقاعُها الخائفِ
خلف هذا الجدار الذي في المرايا
أقامتْ لها أذرعاً
ثمّ صاحتْ بكلّ الطيورِ
أنا خفّةُ الرّاجفِ..
فاعذريني إذا ما بصرتُ بفخّ الحياةِ
وأُزلِفَ صمتي إلى جدّنا العارفِ
فكلّ مرايا دمي
لا تئنُّ
على وجْدِها العاصفِ..
أجنحة الحياة
سعياً إلى الدنيا
أوفّرُ رقعتينِ من الترابِ ومقبرةْ
وألوذ بالوردِ الذي يثق الندى في ثوبهِ
وإذا أثابَ الغيمُ روحي في الكتابةِ
وانتهى حرّاسُ قافيتي
وآخرُ دميةٍ في الريحِ
أبسطُ من دمي حبراً على لغةٍ
تؤاخي بين أجنحة الحياةِ المُدبرةْ!
عدم
لو كان يخرُقُ عمراً صيغَ بالألم
لهيّأ العمرَ أسراباً إلى القلمِ
لكنّه عن رهان البحرِ في شُغُلٍ
إذ يقبضُ الموجَ منحازاً إلى العدم..
ضلالة
في ساحةِ اللغة الأخيرةِ موطئٌ للحبِّ
هل جرّبتَ ذلكَ
أم خطفتَ بنفسج الدنيا
ورحتَ إلى النعاسْ؟
أم هل فركتَ الكعبَ نحو ضلالةٍ
في آخر العمرِ الخريفِ
وهل وقفتَ على يد المبنى
وجزتَ الماءَ في لغةِ القياس؟
ليس توصيفاً
النسوةُ اللائي ذهبنَ إلى دمي
أحضرنَ لي جسداً من الكبريتْ
لا، ليس توصيفاً، ولكنْ
صبغةَ المعنى
على هَدْمِ البيوتْ.
هبوب المدد
زغردي جارتي زغردي
فقد نبتَ الشيبُ في رأسِ هذا الولدْ
واختفى
أرجوان الحياةِ
وسلّ من البحر كأسُ الأبدْ
زغردي جارتي زغردي
واصعدي سُلّم الأرضِ في بيتكِ المرمريِّ
ولا تعجبي
من هبوبِ المددْ
فقد آنسَ الريحَ نصفي
وعلّقَ أسرارَهُ في فضاء البلدْ..
زينب
من أجلها
وقعتْ يدي في سلّة الرمان
فانفرط الضياءُ على ثيابي..
من أجلِها
وقعتْ
فسددتُ الديونَ لجارتي
ورميتُ في الإعياءِ بعضَ شبابي..
من أجلِها
وإذا بزينبَ تستجيرُ برقصة الحرفِ الأخيرةِ
حالَما نظرتْ عيونيَ من شقوق البابِ..
صفيح الناي
وغدا صفيحُ الناي مثقوباً
هنا تاريخُنا
وبيوتُنا
وهنا جنازتنا إذنْ.
فاستفتحي يا ريحُ
إنّ مؤونةَ التابوتِ خيطٌ من رداء الفجرِ
تكريرُ الوصيةِ للبناتِ وللذكورِ
وللنساء المُعدماتِ
وللجواري
ولفطنةِ الشعراءِ إذ يعشونَ عن أمر الخطايا
والبرايا
للمقاهي وهيَ تفتحُ كفّها
لليلِ منصوباً على شرفاتِ أمْنِ التلِّ
من عبث الذئابِ
وللعذارى
هُنَّ عن أملٍ يجئنَ إلى السريرِ
ولا يجئنَ من الغبارِ
كأنهنَّ خُلقنَ من صدأ الجهاتِ
فقدنَ من عللِ القصيدةِ عدلَها!
حدس
الكحلُ الأسودُ في زمنٍ ما
حين يمرُّ على شفةِ الجفنِ
ويخلطُ صورتَهُ في المرآة
يتلو صحبَتَهُ النرجسُ
ثم ينام قليلاً فوق العينِ
ولا يعرف من أين يجيء الحدسْ..
حقل نعاس
شيّعني حقلُ نعاسٍ
بعد عبور الدخّان إلى كفّي
جاوزتُ المقبرة الأولى، وحدودَ البيتْ
لم أدرِ بأنَّ الحارس أوقفني
حين رأى في ساحلِ كفّي
ما يخبرُ أنّي….
إلا حين رجعتُ وحيداً
وأهلتُ تراباً فوق خُطا مَن شيّعني
وقرأتُ عليهم ما يلزمني، وبكيتْ..
ردهة
الردهةُ في البيتِ
حياةٌ لخروج الشاعر من عزلتهِ
وخيالٌ يفضي بالصورةِ
إذ يعتاش على عائلةٍ مستورة
والردهةُ في أعراف الناس المنسيّينَ
مكانٌ للحلم
وأنا في النصّ أحاولُ أن أبني
بيتاً قرب مذابحنا المأجورة..
مجاراة
قالوا كسَّرتَ المُطلقَ في بعض قوافيك
كم يلزم من شفةٍ لأجاريك؟!
ذاكرة
أمي لم تذكر يوماً أن أبي عاتبها
وَهْيَ ترتّبُ جملة منزلها ذات ضحى
وقبيلَ ذهاب الروحِ إلى بارئها
قالت لي كيف أسوّي حطبَ الدارِ شموساً
وأعارتني كلَّ صبايَ
لأذكرَ كيف أقام أبي جملته
في المنزلِ بعد خريف الروح
وكيف خَطا في جنّتها، ومحا..
مرايا الضرير
قال المعرّي وهو يرجع بالفتى
لقصيدةٍ أولى بناها في مراياهُ الضريرةِ
كلُّ شيءٍ قابلٌ للانزياحْ
إلا دم الأنثى المُصفّى
وهو يذرعُ في العروقِ إلى الصباحْ.
تفاصيل العدم
وسكبتُ في كأس المرارةِ ماء أحلامي
وعدتُ إلى الألم
كن يا أبي مثلي أباً
لأكونَ غيركَ في تفاصيل العدم.
طائرة من ورق
كلَّ مساءٍ أرقبُ طائرةً من ورقٍ
يُطلِقُها طفلي
فأطيرُ
أطيرُ
وأسبقُ ظلّي
يفلتُ خيطُ القِنَّبِ من كفِّ الأطفالِ
ويفلتُ خيطُ حرير المرآةِ من الغيمِ
وأخسرُ نصفي
وأطيرُ
أطيرُ
أطيرُ
ومن شرفاتٍ بعثرها الصّمتُ أرى وجعاً
يسبحُ في ملكوتِ القصفِ
ويسقطُ كُلّي
كلَّ مساءٍ أتزوّجُ من امرأةٍ واحدةٍ لا تعقِدُ حبلي
فأطيرُ
وأهوي
وأطيرُ
وأهوي
وتطيرُ معي من أجلِ سماءٍ أخرى
أو من أجلي..
غريب
– صدأٌ على باب السبيلِ
وناقةٌ محبوسةٌ في الكوخِ
مرَّ على الجنازةِ شاعرٌ وهو الغريبْ
في الكوخِ سيّدتانِ من قرطاجَ
امرأتان تستلاّنِ حبرَ الأرض من أفريقيا
ونهرٌ من حليبْ..
غيباً قرأتَ كتابهنَّ
وسقتَ جُرمَ الكائناتِ إلى السماءِ
ونمتَ وحدكَ يا غريبْ.
سأُخرج هذا الحصانَ من الأقبية
وأنا جدُّ مُتعبْ
رأيتُ حصاناً يدوخُ من الحبلِ
قلتُ لعلَّ أبي شدَّ حبل الكلام على جيدهِ
فاختلستُ دقيقة صمتٍ
ورحتُ أفتّشُ عني
فلم أجدِ الماءَ في دورق الأغنية
ثم اختلستُ دقيقة بوحٍ
فعاد أبي في المساء إلى نومهِ
وانتظرتُ
وفي جوف هذا السحابِ دمٌ
لا يجيدُ التصالحَ أو يعقدَ الأمنية
قلتُ علّ أبي لا يراني
لهذا سأُخرِجُ هذا الحصانَ من الأقبية
ثمّ أبحثُ عني إذا سحبَ الأغطية