لؤي حمزة عبّاس
(1) القرية:
منذ أيامٍ بعيدةٍ تواصلُ الخيولُ اندفاعها على الطريق الصخري بين أشجار السرو العالية قاتمة الخضرة، طريق طويل يضيق ويتّسع، وأشجار تزداد علوّاً وتشابكاً، كلما اقتربنا من القرية نسينا شيئاً مما مرَّ بنا حتى إذا وصلنا لم نعد نتذكّر سوى الألم الذي يعصرُ مفاصلنا، ورائحةِ الخيول وقد أعماها التعبُ فأخذت تُحمحِمُ وتحرّكُ رؤوسها كأنها تصدمُ الهواء. رحلةٌ طويلةٌ شاقّةٌ لم نصدّق أن بإمكانها أن تنتهي، لكن القريّةَ أمامنا الآن، بيوتها المتفرّقةُ على السفح بهياكلها الخشب تمنحُ من يراها انطباعاً بأنها بُنيتْ على عجلٍ كما لو كانت مساكنَ عمالِ مناجم أو قاطعي أحجار، لكن الطيور الكثيرة حولها تبدّدُ مثلَ ذلك الانطباع: ديوكُ هندٍ بأعرافٍ غبيّة حمراء، وطواويسُ كسولةٌ، وببغاواتٌ تحوّلُ السفحَ إلى غابةٍ، وتحوّلُ الغابةَ إلى فكرةٍ أوليّةٍ عن العالم.
ـ كلُّ طريق لا بدّ أن ينتهي بقريةٍ على سفح.
قلتُ لصاحبي وسط ضجيج صبية استقبلونا حفاة راكضين، قصيري الأطراف واسعي الجباه يتقافزون من حولنا ويهتفون بكلمات غير مفهومة. أمام منزل سيد القريّة اقترب مني وهو يُمسك ألجمةَ الخيول وقال بصوت خفيض:
ـ كلُّ طريق ينتهي بقريةٍ أو غابةٍ أو نهرٍ سوى طريقِ الزمان، إنه لا ينتهي إلا ليبدأ من جديد.
نظرتُ إلى عينيه، لالتماعة النجم البعيد فيهما، ورأيتُ أن من الواجب أن أكتبَ عنه ولو سطراً واحداً في هذا المنعطف من الرحلة، فليس من السهل أن يُهيأ لكلِّ رحّالةٍ صاحبٌ لمّاحٌ مثله، لكنني، ويا للأسف، لم يعد بإمكاني أن أتذكّرَ شيئاً عنه أو عن الرحلة أو عن الخيول التي توقفت عن الحمحمة وانقطعت عن تحريك رؤوسها منشغلة بالعلف والماء.
في الليل عند سيد القرية وعلى ضوء النيران المتّقدة، عرفتُ أننا في فصل عجيب من فصول رحلتنا، الفصل الذي يحدّثنا فيه الرجلُ والنارُ تُضئ ملامحه المنحوتة مثل جذع شجرة صلب، عن اللحظة التي مُحي الزمنُ فيها من القرية، التفتُّ نحو صاحبي لأستوثق مما سمعت فالتقت أعينُنا في حيرةٍ وذهول، واصل السيدُ حديثه وقد لاحظ حيرتنا:
ـ نعم، إنها اللحظةُ التي غاب فيها الزمنُ كأن ستاراً عظيماً أُسدل عليه، ومُحيت كلُّ أقسامه ولوازمه، لا ماض ولا حاضر ولا مستقبل في قريتنا، ليس غير لحظةٍ وحيدةٍ واحدةٍ ننامُ على أطرافها ونصحو، لا الصغار يكبرون خلالها، ولا الكبار يشيخون، ليس ثمة ما يشيخ في قريتنا، لا الطيور ولا الأشجار ولا الماشية ولا السحالي ولا الأحجار، لو التفتما أيها السيدان الكريمان ستريان خلفكما عظايةً بحجم الكف تواصلُ النظرَ نحوكما بعينين جاحظتين جمّدهما الفزعُ، هي بالنسبة لكما عظايةٌ قليلةُ الشأن لن يمرَّ عليها وقتٌ طويلٌ حتى تنسحب مطبقةً أجفانها بثقل، لكنها بالنسبة لنا لن تبرح مكانها يوماً ولن يخفّ فزعُها، على هذه الهيئة خُلقت وعليها ستبقى، لو كان بإمكانها أن تنطقَ لحدّثتْكم بما أحدّثكم به، نحن الزمن وقد ارتأى أن يكون قريةً على سفح.
(2) العلامة:
بعد أيام من التوقف أخذت السفينةُ تمخر النهر مع هبوب رياح المساء، ومع أول النهار سمعنا الأصوات تواصل نداءها، تصوّرناها تصعد من العنبر الواسع أسفل السفينة أو من إحدى حجراتها المقفلة، لكن صيحةً من أحد البحّارة زادت من مخاوفنا، بدت ضرباتُ أقدامه واضحةً وهو ينزل سُلّم الخشب مكرّراً بوتيرة واحدة: ـ إنهم ينادون..
صيحة جليّة بصوت صافٍ، لا أثر فيها لقلقٍ أو خوف.
ـ إننا نقترب من المقبرة..
تبرّع أحد البحّارة بالتوضيح، لفت نظري جلوسه أقصى منضدة الطعام حيث يبدو الضوء أقل سطوعاً، مواصلاً النظر إلى كوب أمامه.
ـ لكل رحلةٍ علامةٌ وعلامةُ هذه الرحلة نداءُ موتاها.
أضاف بصوتٍ خفيضٍ كأنه يحدّث نفسه، غير معني بالصمت الذي ساد الغرفة، من نبرة صوته الآمنة تصوّرته أكبر البحّارة سنّاً، ولسببٍ ما شعرتُ بأنني لم أره من قبل لا في السفينة ولا على الساحل. بعد أن خفّت حرارة الشمس، وسكنت الريح، وأكملت السفينة رسوها مضينا لزيارة المقبرة استجابة للنداء، يسبقنا حرّاس مدججون بالسلاح، تراءت لنا فور نزولنا على الضفّة مساحةٌ ترابيّة جرداء درست قبورها منذ زمن بعيد. كان الحرّاس يسيرون في طرق ملتوية كأنهم يحفظون أماكن القبور عن ظهر قلب، وكنا نتتبع خطواتهم محاذرين السير فوق القبور.
مضى يومان كاملان منذ خلّفنا المقبرة وراءنا وما زالت السفينة تمخر النهر، تدفعها رياح رطبة تكتم الأنفاس، لم نر خلالهما سوى بيوت طينيّة متفرّقة ينقطع أهلها عن كلِّ عمل لينظروا نحونا، من نافذة الممر الضيّقة أراهم متشابهي الوجوه، نحاف الأجسام، لقاماتهم طول متقارب كما لو كانوا نسخاً متناثرة لرجل واحد، وما أن تغيب البيوت عن الأنظار حتى أعاود البحث، أصعد إلى سطح السفينة، وأسير بين ممراتها الطويلة شبه المعتمة بروائحها الكثيفة، ثم أقترب متمهلاً من غرف البحّارة مفتوحة الأبواب، لعليّ أرى البحّار الذي حدّثنا عن الرحلة وعلامتها.
(3) السير في العراء :
بعد نهار من السير على أرض قاحلة ليس فيها سوى قطع حجارة بنيّة متناثرة تلمع تحت الشمس، بدت أمامهم، في حوالي الغروب، بناية كبيرة من الآجر، لم يصدّقوا أن بإمكانهم الوصول إلى خانٍ للاستراحة والمبيت بعد ما لاقوا من عناء، كانت تلوح أمامهم آثارُ مدنٍ قديمةٍ طوال النهار فيحثّون جيادهم على مواصلة السير كلما استبدّ بها التعب وتباطأت خطواتها، لكن الآثار لم تكن تقترب رغم سيرهم الطويل. كان الخان واسعاً، تطل حجراته على صحنٍ واسعٍ مرصوفٍ بالطابوق، يتقدّم كلَّ حجرةٍ إيوانٌ صغيرٌ يستريح فيه المسافرون أول الليل، حتى إذا تعالت البرودةُ آووا إلى حجرهم وقد تركوا الخيول في الاصطبل القريب، تصلهم حمحمتها كأنها تواصل السير في الظلام.
كانت رائحة غريبة تغطّي المكان، خانقة وغير مفهومة كأنها رائحة أسماك متيبسة، لم يمنحوا الأمر كثير عناية فالتعب يظل أقوى من كلِّ رائحة، ونداء الراحة يبدّد كلَّ ظن. دخلوا الحجرة حاملين فوانيسهم، وفي الزاوية البعيدة المظلمة رأوا أشياء مركومة فوق بعضها، تقدموا في النور الواهن وما كادت أيديهم تمتدّ حتى ارتدّت إليهم، لم تكن الأشياء سوى جُثث لُفّت في بُسط قديمة ورُبطت بحبال، وأسجي بعضها بتوابيت خشب مهلهلة بدت من شقوقها بقايا الجلد المتيبس المسود.
خرجوا من فورهم تنفخ الريح أنوار فوانيسهم، تاركين الخان ليكملوا ليلتهم في العراء، وقد عاودوا السير حيث لا يلوح للمدن القديمة أيُّ أثر، بعد أن أجهدهم السير تمددوا صامتين ينظرون نحو السماء الفسيحة وقد توقفت الخيول عن الحمحمة، لكن الرائحة ما زالت تصلهم خفيفة متقطّعة كلما هبّت الريح من جهة الخان.
٭ قاص وكاتب من العراق
( القدس العربي )