باتريك موديانو: أكتب لأكتشف ذاتي


ترجمة : شاكر نوري*

يستلهم الكاتب الفرنسي، باتريك موديانو، كعادته، واقعه وحياته الشخصية، في روايته “عشب الليالي” الصادرة حديثاً عن دار “غاليمار”، إذ لقيت حفاوة من قبل الصحافة الأدبية، والتي تعده كاتباً “له أسلوب خاص”.

وتسجل له، على لسان نقاد كثر، أنه يواصل من خلال هذا العمل، “مقاومة النسيان وإعادة إحياء الأشخاص والأماكن، ذاك عبر تصوير شمولي وانطباعي، مازجاً بين الأحداث والسيرة الذاتية.

ويحكي موديانو نفسه، في حوار مع نيلي كابريلين، نشرته مجلة “أنروكأبتبيل” الفرنسية، في 10 يوليو 2013، عن مضمون الرواية، وطبيعة معالجاتها، وماهية الخلفية التي ينهل ويستلهم منها في العمل، مبيناً أنها تجسد صدى لمخزون ذكرياته لفترة الشباب، عن باريس وساحاتها وأهوالها ومخاوفها في العقد السادس من القرن العشرين. إذ طالما رآها حينها، مضمخة بالفزع والأهوال.

كما يشدد على مذهبه في الكتابة، إذ إنه، لا يكتب ليكتشف ذاته، بل ليعي من يكون، كما يشير.

تستحضر روايتك الجديدة، قصة رجل يبحث عن امرأة في فترة الستينات من القرن الـ20، وكأنك تكتب معها الرواية ذاتها، منذ سنوات طويلة… عندما كنت أبلغ بين الـ 17 و الـ 22 عاماً، عايشت وخبرت جيداً معنى وطعم فترة الستينات في القرن الـ20، إذ مثلت المحرّك الروائي لي، لأنها كانت مرحلة غريبة مليئة بالشغب.

ولم يكن لي أي روابط عائلية أو اجتماعية. وهذه العناصر تأتيني بلا توقف مثل الأحلام. ومن هنا فإن كتاباتي، ربما أنها متأثرة ومشبعة بهذه الفترة، وأحياناً بشكل لا شعوري.

مهد الشباب وأرض الصبا
ما آلية اختيارك أحياء محددة في باريس، لتكون مطرح أحداث روايتك؟


إنها الأحياء نفسها التي ترددت عليها وعرفتها. وبعضها يأتي إلى ذاكرتي بلا انقطاع. مثل الحي الثامن عشر في مونتسوري والمدينة الجامعية في روايتي “ليالي العشب”. إنها ترتبط بخمسة أعوام تشكل فترة لأشياء عشتها بصعوبة، وكأنها بئر سوداء في حياتي. الناس الذين كنت ألتقيهم كانوا يجرونني إلى أشياء خطرة، وباريس في تلك الفترة، كانت قلقة.

كانت باريس سنوات ستينات القرن الـ20: خطيرة للغاية، مظلمة ومضطربة.. كانت على مرمى حجر من الحرب التحريرية الدائرة في الجزائر. أرّخت لنفسي عبر محطات في الرواية. فحينها لم أدرس، كنت قاصراً.. كانت باريس أيامها تخيفني، يمكننا أيضاً أن نلتقي بكبار السن الذين يخبرونك عن ذلك”.

أشياء مزخرفة


هل يمكننا القول، بناءً على كلامك، أن باريس في تلك الفترة، كانت مسكونة بالاستعمار وحرب الجزائر؟


نعم. بعض الأحياء في باريس كان مضطرباً أثناء حرب الجزائر، وخاصة في الحي الثامن عشر في منطقة ربورت كليانكور.

فالناس الذي كانوا يزوروننا في شقتنا، كانوا يأخذونني إلى أماكن غريبة، وهي مرتبطة بحرب الجزائر، حيث تنتشر هناك مقاه في بورت دي اتالي في بوليفار فنسان ــ أوريول. كانوا بشراً مرتبطين برجال الشرطة من الفرنسيين أو الجزائريين. هؤلاء الناس يراقبون كل شيء. كل هذه الأشياء كانت تفزعني.

إذاً أنت لا تكتب بدواعي الحنين إلى الماضي؟


كلا. على الإطلاق. إنها أشياء تبدو لي مزخرفة وبعيدة. إنها أشياء خالطتها وأشياء مهددة.

اجترار نرجسي 


ما رأيك في فكرة التخييل الذاتي التي راج الحديث عنها بصدد روايتك الجديدة؟


هذا مؤكد. إذ أصبح لازماً ومحتماً عليّ الانتفاع من مادة حكائية شخصية في الخصوص. بيد أني أعتقد دائماً أن المعطيات الأوتوبيوغرافية: (الحكائية الذاتية)، تكون نافعة إذا ما ضُخّ فيها قدر من التخييل. أحس بشيء من الحذر إزاء المحاولة التي لا تسعى إلا لأن تكون أوتوبيوغرافية، بالرغم من أني معجب، مثلاً، بـ “شواطئ أخرى” لنابوكوف، وكذا في أعمال شاتوبريان.

ولا يمكن للمرء أن يكون مهذباً بالتمام مع ذاته، وقد يكون من الرائق أن ينسى المرء أو يمحو أشياء من حياته الشخصية، جميع أنواع النسيان.. يصعب على المرء أن يكون المشاهد الشخصي لذاته: يتعذر عليه أن يسمع وقع صوته وأن يرى من خلفه. من هنا فإن المرء مرغم على أن يكشف عن ذاته.

ولهذه الأسباب، يبدو لي أن مشروعاً أوتوبيوغرافياً صرفاً هو شأن مصطنع، زد على ذلك أن هذا المسعى يجازف، أحياناً، بأن يصبح مجرد اجترار نرجسي، بينما يتيح ضخّ التخييل التوجه نحو الآخرين، والتواصل مع القارئ، وجعل الأشياء مدهشة أكثر لشخص يوجد خارج الذات. وإذا كانت السيرة الذاتية تعدم المزايا الشعرية كما عند “نابوكوف” أو “شاتوبريان”، فإنها تنزع إلى المماحكة النرجسية .إذا لم تجعل من المادة الحكائية سلبية، فإننا نكون إزاء عملية ثأر بسيطة.

كما أحب أن تحدث المادة الحكائية نوعاً من الوميض والتألق… أو على النقيض من ذلك، فإن ما يهم هو وثيقة خامّ عن حياة شخص، شبيهة بتقرير بوليسي.. إن “الأنا” التي تكتب في رواياتي، ليست، إذاً، ذاتية بشكل تام، إنها “أنا” أندسّ فيها لا بطريقة سردية بل بطريقة تكاد تكون حلمية، وإنه لمن الصعب تفسيرها. ليست الكتابة نهجاً أسعى إلى التعرف فيه على ذاتي، ليست هذه الأنا، إذاً، استبطانية. فأنا لا يهمني أمر اكتشاف من أكون.

«المصادفة قادتني»


ولد باتريك موديانو، في باريس عام 1945، من أب إيطالي وأم بلجيكية، التقيا في باريس زمن الاحتلال. عاش طفولة ترنحت بين غياب الأب، وجولات الأم التي كانت تعمل ممثلة سينمائية. ترك موت أخيه “رودي” جرحاً لا يندمل في نفسه، وظل يهدي إليه أعماله المكتوبة بين 1967 و1982.

ويقول عن ولادته: “المصادفة هي التي خلقتني عام 1945، هي التي وهبتني أصولاً مضطربة، وهي التي حرمتني من محيط عائلي، فلا يمكنني أن أكون مسؤولاً عن الأفكار السوداء والقلق ..فأنا لم أختر، البتة، مادة كتبي”.

تعرف إلى الكاتب الفرنسي ريمون كونو وهو في سن الخامسة عشرة فأخذ بيده إلى عالم الأدب، بعد أن قرأ مخطوطة روايته الأولى “ساحة النجمة” عام 1967.

مدارات الحقيقة ومتاهات الأحلام 



يتناول باتريك موديانو، في “عشب الليالي”، قصة اختطاف المهدي بن بركة. وتدور أحداث الرواية في سنوات الستينات من القرن الماضي، في مدينة باريس. ونتبين أن بطلها شاب يبحث عن الحب. وعن أصدقاء غامضين، ومن بينهم شابة وقع البطل في غرامها، قبل أن تتورط في قضية بن بركة.

وقوع الحدث ذاك، خلّف ضجة سياسية كبرى. وفي تلك الأثناء، كان باترك موديانو في العشرين من عمره. ويقول عن تلك الفترة: “كانت مرحلة غائمة أو بالأحرى ضبابية. لم أكن قد بلغت 21 سنة. وكنت حينها أعيش، إلى حد ما، حياة مهاجر سري عابر في باريس، وأرافق أناساً يرتبطون، بشكل غير مباشر، بعالم مشبوه، وأتردد على أمكنة غريبة.

وكانت توجد هنا وهناك مؤشرات على ما سيصبح لاحقاً معروفاً بقضية بن بركة”. وكانت هذه الأوساط المشبوهة والغريبة، كما يجسدها في أثواب شتى في روايته، تضم رجال مخابرات مغاربة ومجرمين فرنسيين من ذوي السوابق، وهم الذين سيخططون وسيتعاونون على اختطاف زعيم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية المهدي بن بركة في باريس، في 1965 الذي اختفت جثته إلى يومنا هذا.

جولات وأحاسيس مختلطة 


عندما نغلق هذه الرواية، الممتزجة مع السيرة الذاتية، يتملكنا إحساس بالخفة وبالفراغ اللذين كان يحس بهما باتريك موديانو بينما يتجول في باريس، على رصيف نهر السين، المسمى رصيف هنري الرابع، وذلك ذات مساء من مساءات شهر يوليو.

عموماً، إنها رواية تحوي الكثير من أحلام كاتبها.. أحلام تحوم حول: المحكوم عليهم، الرصاص الطائش، فندق مريب.. وهكذا تعود الذاكرة بالكاتب الفرنسي موديانو، في تلافيف العمل إلى عمق الماضي وتفاصيله، ليلعب دور المخبر المحقق الباحث عن الحقيقة، من خلال ذكريات “باريس 1960، الخطيرة.. المظلمة والمضطربة”.

«مجرد رصاصات»


في هذه الرواية، يحاول الراوي، “جون”، الذي نكتشفه تدريجياً داخل الرواية، وعبر استخدامه مفكرة مليئة بالملاحظات، إحياء أبناء الماضي من موتهم، أو إعادة الشباب إلى شيخوختهم، وإرجاعهم إلى تلك الأيام التي كان فيها يافعاً، عاشقاً لفتاة جميلة تدعى داني، الفتاة ذات الجمال الغامض.. الراحل في “تاريخ قذر”.. ربما يريد أن يثبت انه لا يحلم بل يعيش تلك الأيام من جديد. وتقول داني في الرواية:

“ماذا كنت لتقول إذا قتلت أنا شخصاً ما؟”. فيجيبها جون، من دون أن يأخذ قولها على محمل الجد: “ماذا أقول؟ لا شيء”.

ويكتشف في ما بعد أنها قتلت رجلاً، جريمة، تقول عنها داني:” إنها حادث.. مجرد حادث، ومجرد رصاصات طائشة”.

الرواية عبارة عن تيه في عالم الجريمة الباريسية، نجد فيها البطل والليالي الطوال التي لا يُعرف فيها طعم النوم، وشخصيات مثيرة للقلق، ومزعجة، تطارد ذكريات مضطربة، وتجعل الرواية مضطربة في آن واحد. وتستوحي هذه الرواية في جزء منها بعضاً من الأحداث التي رافقت قضية بن بركة.

ولكن موديانو يذكر الاختطاف والظروف التي مهدت له، من دون أن يتعمق كثيراً في حيثياته وفي ما بعده.. فقط يكتفي بالتركيز على الأشهر السابقة. ونجد المؤلف يتحدث عن شخص “خطير”، هو الشقي “جورج.ب”، المتورط المشارك في مسألة بن بركة. إنه أيضاً أحد أصحاب فندق بمونبارناس، فندق غريب، وهو مركز أحداث الرواية.


* روائي وصحفي من العراق يعيش في الإمارات
– عن البيان 

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *