*فريد نعمة
أفضل ما قدمه الأديب الروسي نيقولاي غوغول (1809- 1852) للأدب العالمي رواية «الأرواح الميتة»، وأشهر ما كتب رواية «تاراس بولبا»، التي وصفها همنغواي بواحدة من أجمل عشر روايات في كل زمن وعصر. وشتان ما بينهما! فالأولى تمثل الواقعية النقدية التي تنطوي على كشف وفضح مساوئ المجتمع…
والثانية تسجيل ملحمي بالشعر المنثور لبطولات الشعب الأوكراني في معارك التحرير في القرن السادس عشر. وإذا ركبت الأولى القطار إلى العالمية، فقد ركبت الثانية الصاروخ ووصلت إلى أماكن لا يعرف قاطنوها عن غوغول أكثر من أنه مبدع شخصية تاراس بولبا!
البطولة والوحشية
من الأقوال المأثورة للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: عندما تحارب وحشا، فاحذر ألا تصبح وحشا مثله. وهذا ما يطرحه غوغول في هذه الرواية التي نشرها سنة 1835، أي عندما كان عمر نيتشه 11 سنة. إن أندريه مقاتل شهم وشجاع يحارب مع والده البولونيين الذين يعاملون الأوكرانيين بوحشية.
وعندما يكتشف أنهم بمحاصرة القلعة يقتلون النساء والعجائز والأطفال جوعاً، تصيبه الصدمة ويتراجع. إنه لا يريد أن يصبح وحشاً. ومن جهة أخرى، إن والده صاحب قضية عادلة لكنه مُخاطر جريء يريد طرد البولونيين من وطنه ولا يبالي بالعواقب والنتائج. وفي غمار المعارك، يتجاوز الحد ويتحول الى وحش لا يبقي على فريسة حتى لو كانت ابنه.
وبذكاء العبقري، لم يتعاطف غوغول مع تاراس ولا ابنه، ولم يحاول إدانة أحد منهما. وإنما ترك ذلك للقارئ. ومن هنا يصدر ذلك الوميض الذي لا يخبو، كما قال همنغواي، مع الأيام. وحتى الآن تعج المدونات النقدية بالتعليقات الشاجبة والمؤيدة لتاراس بولبا.
تاراس بولبا
تبدأ الرواية حين ينهي الأخوان أوستاب واندريه دراستهما في المعهد الملكي في كييف، ويعودان الى منزلهما بلباس المعهد الكهنوتي. يستقبلهما تاراس بولبا ويخاطب ابنه البكر أوستاب: «استدر يا بني، أليس مظهرك مضحكاً؟ أي صنف من ملابس القوزاق – وهم إثنيات عرقية في منطقة القوقاز – ترتدي؟ هل يلبس كل التلاميذ مثل هذه الثياب؟
قف، لا تتحرك! دعني أمتع النظر. ثم يقهقه ساخراً. يغضب أوستاب ويقول: لا تضحك، يا والدي، لاتضحك! تاراس: كم نحن حساسون، لماذا لا أضحك!؟ أوستاب: لأنك والدي. والله سأضربك اذا ضحكت. تاراس: أي نوع من الأبناء أنت؟ أتضرب والدك!؟
أوستاب: نعم، أضرب من يهنيني حتى لو كان والدي. يتصارعان. وعندما يدرك تاراس أن ابنه مقاتل صلب، تنفرج أساريره، ويعانقه بحرارة. ثم يلتفت الى ابنه اندريه ليختبره، فتتدخل زوجته وتوقفه».
أبطال الأرض
يحتفل تاراس بعودة ولديه ويقيم وليمة يدعو إليها قادة القوزاق المحليين. وفي الوليمة يعلن عن عزمه على الانضمام الى معسكر المقاتلين في سيتش. ينطلق الثلاثة صباح اليوم التالي ويقطعون السهوب وكل واحد شارد مع أفكاره. كان تاراس قائدا قوزاقيا تقليدياً، شعاره العائلة والوطن والدين، والقوزاقي الحقيقي، برأيه، هو الذي يرفع ذلك الشعار ويدافع عنه
. فقد كان الأتراك يستبيحون الأراضي الأوكرانية، والبولونيون يحتلون الأراضي غرب نهر دينبر منذ سنة 1569، ويعاملون الفلاحين بوحشية ويحاولون طمس الثقافة الأوكرانية وفرض الكاثوليكية على الأوكرانيين الأرثوذوكس. وقد ساعدهم واستفاد منهم اليهود وبعض العائلات الأوكرانية. لكن غالبيتهم، بقيادة تاراس، انضمت الى الأخوية العسكرية لطردهم.
القوزاقي الرومانسي
ومثل تاراس كان أوستاب، الذي لم يرغب بالالتحاق بالمعهد في كييف، وقد تذمر عندما دخل المعهد ووجد الحياة هناك لا تطاق، وسرعان ما تعود عليها وأصبح تلميذا ناجحا لكن غير متفوق. فقد كان يمضي معظم وقته مع أمثاله في المغامرة واللهو. عكسه كان اندريه رومانسياً حالماً ومتفوقاً في المدرسة، يبتعد عن الصخب ويعيش مع فتاة أحلامه في خياله.
في أحد الأيام وجدها، كانت تضحك على نافذة غرفة نومها؛ اسمها نتاليا وابنة قائد بولوني. أحبها وأحبته واختليا ببعضهما مرتين، ثم انتقل والدها إلى خارج كييف ورحلت، فحزن عليها. تذكرها وهو في الطريق الى المعسكر.
الحب تحت الحصار
يصلون الى المعسكر بعد ثلاثة أيام، ويستقبل القازاقيون تاراس، رفيق السلاح القديم بحفاوة. يتشاور تاراس مع زعيم القوزاق ويطلب وضع الحد لتدخل الأتراك واضهاد البولونيين. يخبره الزعيم بأنه عقد هدنة مع السلطان العثماني وأن الوقت غير مناسب لمحاربة البولونيين. يدعو تاراس القادة العسكريين الى الاجتماع ويطالب بعزل الزعيم والاستعداد للحرب.
يبدأون بقتل التجار اليهود الداعمين للبولونيين، ثم يحاصرون قلعة دوبنو ويقطعون عنها الإمدادات. فتنفذ المؤونة داخل القلعة ويعاني الأهالي من الجوع. في إحدى الليالي، تتسلل امرأة من التتار الى خيمة اندريه وتوقظه من نومه. ينظر اليها اندريه مبهوتا، ثم يتذكرها. إنها خادمة حبيبته نتاليا.
يحمل اندريه ما لديه من أرغفة الخبز ويذهب معها الى المستنقع حيث تقوده خلال ممر سري إلى داخل القلعة. يتألم اندريه حين يجد حبيبته هزيلة ويجتاحه إحساس بالحب والعطف عليها، ثم يغضب بشدة حين يرى الناس يزخفون على بطونهم الخاوية ويتوسلون فتات الخبز. وفي انفجار عاطفي يصمم على مساعدتهم.
معارك ضارية
تتحرك السرايا البولونية لفك الحصار وتنشب معارك ضارية. يخبر اليهودي بانكيل تاراس بأن ابنه اندريه حليف البولونيين. وفي إحدى المعارك يراه تاراس يخرج مع فوج من المقاتلين البولونيين من القلعة، فيتصدى له ويبارزه. يهرب اندريه وهو يصد ضربات والده ولا يحاول طعنه. فيلاحقه تاراس مع رجاله ويحاصره في الغابة. وهناك يطلب منه أن يترجل عن الحصان ثم يوبخه ويناديه بالخائن لعائلته ووطنه ودينه. وقبل أن يطلق النار عليه يقول: أنا أتيت بك إلى هذه الدنيا وأنا آخذك منها.
يُصاب تاراس في إحدى المعارك ويفقد وعيه، ويتولى ابنه أوستاب قيادة الجيش. وعندما يسترجع قواه، يعلم أن البولونيين أسروا أوستاب وساقوه إلى وارسو. يهربّه بانكيل في عربة محملة بالقرميد إلى وارسو، وهناك تساعده جماعة من اليهود على التنكر بزي كونت ألماني. يذهب مع بانكيل الى السجن لرؤية أوستاب..
ويعرف أنهم سيعدمونه في اليوم التالي. يندس مع بانكيل بين الناس الذين احتشدوا في ساحة الإعدام ويشاهد ابنه وهو يصعد بصمت وإباء الى منصة الإعدام. لا ينبس أوستاب بكلمة حتى عندما تتكسر عظامه على الدولاب، وقبل أن يسلّم روحه يصرخ مجلجلاً: هل تستطيع أن تسمح بهذا، يا والدي؟ يجيبه تاراس: أستطيع، ثم يختفي.
موت تاراس بولبا
يعود إلى سيتش ويجد أن كل رفاقه قد ماتوا. يرغب زعيم القوزاق الجديد بإنهاء الحرب والتوقيع على معاهدة السلام البولونية. يرفض تاراس المعاهدة ويحذره من مكر البولونيين الذين يريدون كسب الوقت حتى تصلهم الإمدادات العسكرية ويبيدون القوزاق. وبعد فترة قصيرة من توقيع المعاهدة، يحدث ما حذر تاراس منه.
فقد هاجم البولونيون القوزاق وقتلوا عدداً كبيراً منهم. يحاربهم تاراس وحده ويستمر مع جنوده في القتال حتى يحاصرهم البولونيون في حصن مدمر ويقتلوهم كلهم. يأسرون تاراس ويثبتونه على جذع شجرة بالمسامير ثم يحرقونه حياً. يصرخ تاراس من وسط اللهب والدخان مشجعاً القوزاق على مواصلة القتال ويقول لهم: سيأتي تاراس آخر يقودكم إلى النصر. يثير موته الحماس الوطني فيتوحد القازاقيون في معركة التحرير.
________
*البيان الإماراتية