منصف الوهايبي*
السيّدة لميعة عبّاس عمارة شاعرة عراقيّة مرموقة، كنت قد تعرّفت إليها في تونس والقيروان؛ في الثمانينات من القرن الماضي. وهي امرأة رقيقة أنيقة. وأنا أقرأ منذ مدّة، بكثير من المتعة والغبطة، ما تنشره في «القدس العربي».غير أنّ حدْسها اللغوي العراقي، لم يحالفها في قراءة بيت ابن الرومي (القدس العربي 30 حزيران/ سبتمبر2014):
ثغَبٌ ينقعُ الصدى وغناءٌ
عنده يوجد السرورُ الفقيدُ
من قصيدته الشهيرة «يا خليليّ تيّمتني وحيدُ»؛ وهي من عيون الشعر العربي. ومردّ ذلك إلى سببين: أوّلهما أنّ السيّدة لميعة انتزعت البيت من سياقه. فقد سبقه هذا البيت
وهو في وصف الفم أو الثغر، وما يتفرّع عنه من وصف الرضاب؛ ممّا دأب عليه شعراء العربيّة القدامى:
طاب فُوها وما تُرَجِّعُ فيه كلُّ شَيْءٍ لها بذاك شهيدُ
وثاني السببين أنّها لم تُنْعِمِ النظر، في معاني «الثغب». أمّا وقد أغفلت جماليّة قصيدة ابن الرومي، من حيث هي كلّ مترابط الأجزاء، له بداية ووسط وخاتمة، ونظرت في البيت؛ وكأنّه صُنع على حدة مستقلا بمعنى خاصّ؛ فكان من الطبيعي أن لا تجد له منفذا إلاّ في»المحكيَة العراقيّة». تقول: «بينما لو سألت أيّ امرأة من جنوب العراق (ومن مدينة العمارة التي أغنت مفرداتي) ما معنى الثغب؟ لأجابت ببساطة بأن الثغب أو الثغيب هو الصراخ بأعلى طبقات الصوت…» وسخرت من شرّاح ابن الرومي؛ فقد «استبعدوا(الثغب) الطعن والذبح، واختاروا أهون الخطأ «الغديرفي ظل جبل.»، وخلصتْ دون أن تكلّف نفسها عناء النظر في معاني «الثغب» التي تناسب صورة ابن الرومي، وفي البيت الذي سبق المفردة موضوع حديثها، إلى أنّ الشاعر تعمّد « بلاغة الطباق بين شدة الصراخ وعلوّ الصوت مقابل النشيد أو انسياب اللحن بهدوء في غناء الطرب…»
إنّ من معاني «الثغب» بقيّة الماء العذب في الأرض. وهو أيضا الماء الصافي البارد. وقالت العرب: ليس شيء أصفى منه ولا أبرد. وهو ليس الغديرعامّة أي الماء الراكد أو مستنقع الماء؛ وإنّما الغديرالذي يكون في ظلّ جبل لا تصيبه الشمس، فيبرد ماؤه . ومن معاني الغَدِير في العربيّة : النهرالصغير(النهَيْر) مثل بويب السيّاب الحزين.
وقالت العرب: غديرا الوجنتين: مجريا الدَّمع في الوجنتين. وقال الأخطل في وصف الخمر:
وثالثةٍ من العسلِ المُصفّى مشعشعةٍ بثغبان البطاحِ
أفيعقل سيّدتي أن يشبّه الخمرة ممزوجة بماء راكد؟ وإنّما هو يقصد الماء الصافي البارد.
وقال عبيد في وصف المُجاج (الرضاب). ومجاج النحل: العسل. والمجاج هو أيضا العنب والخمر والمطر:
ولقد تحلُّ بها كأنّ مُجاجها ثغَبٌ يصفّق صفوَهُ بمُدام
وتمثّلوا ببيت يتيم مجهول النسب، ليبيّنوا أنّ الثغب هو الماء وليس الصراخ:
وفي يدي مثلُ ماء الثغْب ذو شطبٍ
أنّي بحيث يَهُوسُ الليثُ والنمرُ
فقد شبّه الشاعرالسيف بذلك الماء في رقته وصفائه، على نحو ما فعل ابن الرومي في تشبيه رضاب مغنّيته وحيد.
لقد فعلت السيّدة لميعة ما كان يفعله نقّاد العربيّة في حفاوتهم بالبيت المفرد الجاري على الألسن، بسبب الإيجاز، وتنكّب الفضول. وكانوا يستحسنون» أن يكون كلّ بيت قائما بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله ولا إلى ما بعده». ويعدونّ ما سوى ذلك تقصيرا «إلاّ في مواضع معروفة، مثل الحكايات وما شاكلها، فإنّ بناء اللّفظ على اللّفظ أجود هنالك من جهة السّرد» والعبارة لابن رشيق القيرواني. ولا يخفى أنّ القصيدة التي نحن فيها ذات منحى سردي. وهم لا يستحسنون الشّعر مبنيّا بعضه على بعض: «على أنّ فيه بعدا ولا تنافرا؛ لأنّه وإن كان كذلك، فهو الذي كرهت من التّثبيج». والتّثبيج هو طول الكلام واضطرابه وإبهامه. وهوعند ابن رشيق جنس من المعاظلة. وينقل صاحب العمدة عن الجاحظ قوله: «أجود الشّعر ما رأيته متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، فتعلم بذلك أنّه أفرغ إفراغا واحدا، وسبك سبكا واحدا، فهو يجري على اللّسان كما يجري الدّهان «. والمقصود بـ «أجود الشّعر» في قول الجاحظ، إنّما هو البيت لا القصيدة كما يدلّ على ذلك كلامه في ذات الموضع، حيث يستحسن أن «يكون البيت بأسره كأنّه لفظة واحدة، لخفّته وسهولته؛ واللّفظة كأنّها حرف واحد». ويستجيد ابن رشيق الكلام على هذا الأسلوب الذي ذكره الجاحظ،؛ فكلّما كان كذلك «لذّ سماعه، وخفّ محمله، وقرب فهمه، وعذب النّطق به، وتحلّى في قلب سامعه؛ فإذا كان متنافرا متباينا،عسر حفظه، وثقل على اللّسان النّطق به، ومجّته المسامع، فلم يستقرّ فيها منه شيء». ولا يخفى ما في قوله من عبارات مثل السّماع والنّطق والحفظ وما إليها، تؤكّد أنّ الإيجاز يرجع إلى استقرار تقليد شفهيّ لم تطمسه الكتابة ولا هي حجبت عنه. وأكثرشعر ابن الرومي لا يجري في هذا المجرى، وإنّما هو أشبه بالطائي (أبو تمّام) أستاذه في البديع؛ مداره على صورة كليّة ووحدة فنّية موضوعيّة متماسكة معنى وموضوعا ولفظا ونظما.
إنّ فصل الأبيات بعضها عن بعض ينزع عنها هويّتها وهويّة القصيدة التي تنضوي إليها. وما نخال هذا الفصل في القراءة، إلاّ صورة من بنية القصيدة؛ وقد أدارتها السيّدة لميعة على جماليّة البيت المفرد، وكأنّه البيت الذي غَنِي بنفسه. على حين أنّ البيت الذي أغفلته واضح جليّ «طاب فُوها» يدلّ على أنّ المعنى لا يعدو وصف هذا الرضاب الذي يروي الصدى أي العطش أو يسكّنه. لكن ربّما لا شيء أصعب من حدّ الواضح، فالبيت الذي يبرأ من البيت إنّما يظهر متخفّيا مستترا، فيزيد من صعوبة الفهم والإدراك.
* ناقد وأكاديمي من تونس
( القدس العربي )