خليل صويلح
هذه المرّة يذهب رائد وحش (1981) إلى السرد اضطرارياً، كأن الشعر لم يعد كافياً لاستيعاب المذبحة السورية. التمرينات التي بدأها في «عندما لم تقع الحرب» (2012)، وضعته على تخوم الكتابة المتفلتة من التجنيس، في وصف مشهديات الحرب، والاشتباك معها، تبعاً لتحوّلات ذات قلقة، يتنازعها الخوف من جهة، والانتساب إلى لحظة احتجاج صريحة، من جهةٍ ثانية. في كتابه السردي «قطعة ناقصة من سماء دمشق» (دار النايا – بيروت)، يفتح العدسة على اتساعها، لتوثيق مجريات سنة عاشها في ظل الحرب، قبل أن يتمكّن من عبور الحدود عن طريق مهرّبين جبليين. حالة العشق ومكابدات الحواس التي يفتتح بها الكتاب، ستتكشف لاحقاً عن كوابيس متلاحقة هي مزيج من وقائع وركام هزائم قديمة، والتباسات شخصية، بالإضافة إلى إعادة ترميم ذاكرة، على هيئة مسوّدات لكتابة سيرة مخيّم فلسطيني عند تخوم دمشق، فاتحاً القوس على مضافة الأب في «خان الشيح»، وذلك في مرويات بدوية يظللها ضوء قنديل شاحب، عن هجرات أولى، وبروفات لهجرات أخرى قيد التحقق. هكذا يستعيد شخصيات فانتازية من شوارع المخيم وأزقته وخمّاراته، في ظل جحيم اللحظة الملتهبة، في محاولة أخيرة ربما، لكتابة السيرة المؤجلة لهؤلاء البشر المنكوبين، أمس واليوم، قبل أن تطيحهم الحرب، والشائعات عن احتمال اقتحام المخيّم. لن نستغرب إذاً، أن يسأل أحدهم الحشّاش الذي تحوّل إلى بائع خضر «بكم غرام البندورة؟»، أو أن تعود الحياة إلى اليد المشلولة لأحد المجانين تحت الأنقاض، أو أن تندلق أحشاء أحدهم بانفجار لغم، ويرفض الموت، من دون أن يدخّن سيجارة. ليس ما يسرده رائد وحش محاولة لأسطرة حيوات مهمّشة، بقدر ما هي هتك لعسف عنيف عاشه هؤلاء البشر، في حرب مفتوحة منذ نصف قرن مضى.
هكذا تتضاءل المحنة الجمعية بتلاشي سيرة أصحابها، موتاً أو غرقاً أو اعتقالاً، لتبرز أوجاع الذات في هجرتها القسرية، ومحاولات الاختفاء الأولى، كسيرة موازية، سوف ترتطم بقلق هوية مزدوجة، حين يحصل على بطاقة هوية مزوّرة باسم «مروان حسن» بقصد عبور الحواجز الأمنية باطمئنان، وحيرته بين شخصيتين متناقضتين في السلوك والذاكرة، فهل يهشّم تاريخه الشخصي ويتماهى مع اسمه الجديد، أم يستعيد روحه التائهة، بين برزخ «الفار المطلوب للجندية»، والعاشق المحاصر بدورية أمنية في العمارة التي لجأ إليها في العاصمة؟ هنا تتناهبه أسئلة وجودية أخرى، فهل ما يكتبه في صفحته على الفايسبوك باسمه المستعار كواحد من المنخرطين في الحراك الثوري، يشبه ما يعيشه من خوف بشخصيته الأخرى؟ وإذا بالحياة تتحوّل إلى «مجرد فواصل من الوهم»، تحت بندول ساعة الكون التي هي «ساعة الموت» وفقاً لإيقاع ضربات المدفعية. سينجو أخيراً من كوابيسه اليومية، لكنها ستتمظهر على نحو آخر في المنفى، إذ تتشرّد «العائلة السعيدة» إلى جغرافيات متباعدة، ولن يجد وسيلة لاختزال المسافة إلا عبر «سكايب»، كأنه لم يغادر الحكايات الأولى في مضافة الأب. سرد هجين مشحون بالأسى، وأمكنة تفقد شخوصها بفانتازيا مضادة، أفرزها العنف والخوف والملاحقة، فتتلاشى صورة «مروان حسن» تدريجاً، لتحلّ مكانها الصورة الحقيقية للشخص الأصلي، من دون أن تكتمل سيرتهما التي تبقى عالقة في سديم سماء داكنة» نتذكّر الحياة آن زوالها في لحظة تحوّلها إلى مرثية» يقول. هذه الإقامة المؤقتة قدر الفلسطيني، إذ تندحر عبارة «سنعود إلى البلاد» التي كانت ترددها الجدّات، لمصلحة عبارة عبثية مثل «بإمكان برميل متفجّر تحويل تعب الأيام إلى كومة رمل، كما بإمكان معركة أن تجعل السكان بدواً رحّلاًً»، و«البيوت مبنيّة للغياب، ونحن مبنيّون للمجهول». الترحال ليس جغرافياً فحسب، بل يدخل في متن السرد، باستنفار شعرية تكمن في الظل، وريبورتاجات صحافية غير مكتملة، تتمازج في متوالية روائية، تنطوي على استذكارات حميمة لمكان قيد الفناء، وشخوص على وشك الهلاك. مشهديات فجائعية تقف عند حدود التهكم والمرارة والبؤس، و»استيراد الأسى»، تنهض خلف مشهد راهن لكائن تائه وشهواني وأعزل، يرتد إلى طفولة بائسة تارةً، ومشاغبات صبي طوراً، ليجد نفسه الآن في عراء الوحشة
_ الأخبار