أصبحت كلبا !


*اعتقال الطائي

بدا رواق المستشفى في قسم الأمراض الصدرية الجديد طويلاً جداً، تنبعث منه رائحة الطلاء المخدشة للجهاز التنفسي، وبات المراجعون يلوذون بين الحين والآخر بالنافذة الكبيرة في نهايته والمطلة على حديقة المستشفى المستكينة على مرتفع جبلي، ومن لم يأت بعربة عليه الصعود مشياً، وهذا ما يجعلنا نعلم بوصول المرضى ومرافقيهم يسبقهم صوت اللهاث الكاسر لسكون الرواق قبيل رؤيتهم.الجميع ينتظر، وجوه كالحة لا يمكن تمييز صاحبها إن كان مريضاً أو مرافقاً لمريض، تجمعها صفات مشتركة من شحوب، ذهول، خيبة وربما أمل، لا نعرف إن كانت تتألم أم تعاني نفسياً، يظل القلق المستبد بأرواحهم سيد المكان. في ذلك اليوم بدأ العمل رسمياً في القسم حتى أننا لم نعلم أين توجد طبيبتنا إلا بعد أن خرجت فجأة من إحدى الغرف. لم تُعلَّق لوحات باسماء الأطباء ولم توضع كــراســـي للمرضى بعد. نقف جميعاً. بعد ساعة بدأت قوى بعض المرضى بالهفوت، إحساس جارف بالتوقع السيئ. يضيق صدر رجل، فيغمغم بكلمات مبهمة متكئاً على كتف زوجته. تُخرج إحدى السيدات فطورها، مستديرة نحو الجدار لتناوله بعد أن تعدل باروكتها. تنتهي منه، عيناها تزوغان وكأن الرؤية قد غامت فتتقرفص متكئة بظهرها على الجدار شديد النظافة اللامع.

لا أحد ينطق بكلمة، لا تذمر، لا استياء. كان ظهور الطبيبة المفاجئ بادرة خير للجميع، أي سيصلنا الدور ولكن متى وكيف؟! لا أحد يدري. المهم أنها هنا نعم هنا وسيعرف من بين المنتظرين نتيجة فحوصه والآخر طريقة علاجه لا بل الى متى سيستمر؟ وهل كان مفيداً أو بلا جدوى؟ وربما استفحل عليه المرض، ومع ذلك علينا الانتظار. لمح رجل رعشة خفيفة على شفتي زوجته فراح يشد على كفها بيد وبالأخرى يربت كتفها.
عادت الطبيبة لتلقي التحية على الوافدين الجدد وتدخل الغرفة غالقة الباب خلفها. غابت ابتسامة البِشر عن الوجوه البائسة بعد اختفائها ثانية. تخرج بحذر دون أن تلتفت إلى أي منا خشية السؤال فتشرئب أعناقنا جميعاً وتتجمد الابتسامة على شفاهنا ثم ترتسم الخيبة في أعيننا حين نتطلع إلى بعضنا البعض.
تكررت تلك الحالة لعشرات المرات: أعناق متلعة، ابتسامة ترحيب إثباتاً لوجود صاحبها ونظرة انتظار مستجدية.
لم أعد أطيق ذلك الوضع فرحت أتمشى في الرواق وتوصلت إلى أن طوله خمسون متراً لأني لم أعرف للوهلة الأولى سر وجود تلك الأرقام على الجدار، إلا بعد أن حسبت عدد قطع البلاط ضاربة طولها بالعدد بين رقم وآخر، حينئذ عرفت أنه المتر. بينا كنت مشغولة بتعداد المرات رواحاً- مجيئاً حتى وصلت العشرين، أي أنني سرت كيلومتراً، كان بعض المرضى والمرافقين ومن بينهم زوجي قد نفد صبرهم. اتقدت النار في الوجوه الشاحبة، فقدت أصوات بعضهم نغمتها وصارت أشبه بالفحيح، والطبيبة خارجة- داخلة ويتكرر المشهد. 
ذكرني وضعهم بمنظر الكلاب التي تُربط ُعند باب مخازن التسوق، فتجد الكلب يرفع رأسه لينط مهللا لأي شخص يخرج من المحل معتقداً بأنه صاحبه. 
ها أنا آخر الكلاب إذن، أدخل لمقابلة صاحبتي لتقرر مصيري بعد أربع ساعات انتظار، استلمت الدواء، وحينما حددتْ الموعد المقبل في الساعة الحادية عشرة صباحاً فطرحت عليها السؤال:
_ يعني متى يجب أن نكون هنا؟
_ في التاسعة تقريبا.
رددت بسؤال آخر ضاحكة:
_ لماذا كي ننتظر ساعتين… وهل هو مقرر علينا كما اعتادوا القول في السنة الدراسية؟
نظرت إلي مبتسمة كي تخفي تذمرها لتقول:
_ تعالي متى شئتِ!
شكرتها وقبل أن أخرج طلبت منها تقريراً طبياً عن حالتي المرضية لأنني قررت السفر وليس لدي جواز سفر أحتاجه ربما للعلاج في بلد أوروبي آخر. كتبتْه، وضعتُه في حقيبتي متجهين صوب البيت لتناول الغداء، وكانت ابنتي في انتظارنا.
لقد تلبستني حالة الكلب. كان الغذاء أفخاذ الدجاج المشوية مع الرز. سلخت اللحم عن العظم وحين رؤيتي للعظم بدأت أصدر أصوتاً كلبية ” ععوو عووو” ثم انقضضت على العظم لأقضمه ونابحة بصوت خفيض تعبيرا عن فرحي به:
_ عووو.. عووو.
الغريب في الأمر أن ابنتي أصبحت أكثر رقة فمدت يدها بحنو لتمسد على يدي، أما زوجي فكان لاهياً بهضم تبعات الانتظار وطعامه ولم يدرك تحول زوجته إلا بعد أن شكرنا على الغداء فرددت بنباح بشوش أعلى:
_ عو عو عو …
في عصر اليوم نفسه كان علينا الذهاب إلى دائرة شرطة الأجانب لمحاولة الحصول على وثيقة سفر مجرية تمكنني من التنقل في أوروبا لكوني مقيمة في إحدى دولها. 
كان الرد هو يجب الحصول على ورقة من السفارة العراقية تثبت بأنهم لم يستطيعوا منحي جواز سفر عراقي لأنه لا توجد لديهم مثل هذه الامكانية. 
في السفارة وبعد الرفض الأول لم أنبح هذه المرة بل أصبت بالسعار وأصبحت كالكلب المسعور دون أن يلمحوا ذلك. بعد أخذ ورد بينهم ودراسة لوضعي الصحي، استلمت الورقة. وبغبطة نبحت بكل ما أملك من طاقة حتى تحول نباحي إلى عواء:
_ عاوووووووووووووووووووووووو….
مكان آخر أُمسخُ فيه إلى كلب!!
أعددنا كل الأوراق متوجهين الى دائرة شرطة الأجانب، وكان زوجي على يقين بعدم تسلم الوثيقة. دخلنا وانتظرنا بعد توجيه رجل الاستعلامات.
كان الرقم 4 قد أُضيئ فأسرعنا نحو السيدة المسؤولة عن معاملتي. بينما كانت المرأة تتفحص الأوراق وتقارنها مع المعلومات في الحاسوب كنت أتساءل في داخلي: ” لماذا يفقد المرء بعضاً من معالم شخصيته في مثل هذه الأماكن كي يصبح أكثر وداعة إذا اقتضى الأمر وليمر كل شيء بسلام؟
قطع زوجي تلك الأفكار كرجل قانون عندما استفزها بسؤال يحملهم مسؤولية الخطأ في تغيير تاريخ إقامتي. رمقتُه بنظرة حادة ولاكزة قدمه ورحت أداري الموقف بلطف معها، فاعتذرتْ عن ذلك ثم استدارت نحوي لتسألني: 
_ تقيمين عندنا منذ زمن طويل ومتزوجة هنا ولك بنت مجرية ولم تقدمي على الجنسية المجرية لماذا؟!
رفعت كتفي، زامة شفتي لأرد:
_ اردت أن أبقى عراقية لا غير.
_ حسناً انتهيت من كل شيء… متى ترغبين في الحصول على وثيقة السفر أي يوم يناسبك في هذا الشهر؟
اخترت اليوم وتوجهنا نحو موظف آخر كي يعلمنا الوقت وما هي وثيقة السفر التي تحل محل جواز السفر.
_ سيدتي ستستلمين جواز سفر يُمنح لمن ليس لهم وطن.. 
قاطعته بصوت باكٍ:
_ لا.. لكن أنا عندي وطن….
_ لكنك لا تملكين جواز سفر وطنك..
حاولت مجددا أن أشرح له، لكن زوجي أثناني عن ذلك، فابتلعت غصتي وسكت.
غادرنا المكان. 
كنت أئن ككلب ركل في بطنه. طلبت من زوجي أن نسير قليلاً لأنفّس عن ألمي وغضبي وهو يشرح ويعيد:
_ عزيزتي.. هذا مجرد قانون لا أكثر..
لم أرد وكانت الريح القوية تقف إلى جانبي حينما راحت الدموع تسيل من عيني دون إرادتي فتذرعت بها.
” هكذا إذن تَصدَّق علي المجريون بجواز سفر لمن ليس له وطن!!”
دخلنا البيت وكنت كمن فقد عزيزه.
أسرع زوجي نحو ابنتنا:
_ أمك فقدت صوابها عندما قالوا لها” ستحصلين على جواز لمن ليس لهم وطن”
_ حقها بابا… أنت لا تفهم ذلك.. حقها.. حقها..
لذت بالركن الدافئ أمام التلفاز لأسمع أخبار الوطن. كان الدم يسيل في كل ركن من الشاشة.. 
نِعال وأحذية بمختلف القياسات، عباءات تطايرت في الفضاء وماتت النساء بلا حجاب، حقائب مدرسية وأقدام دامية. “لا حول ولا قوة إلا بالله.. ليش ليش؟!”
أسرعت ابنتي لتغلق الجهاز. تهادى من الخارج صوت امرأة ظننتها تناغي طفلا رضيعاً، ذهبت نحو باب الشرفة لأتطلع إليها. كانت تناغي كلبها الصغير العنيد. 
أحسست بنفسي أضيع وسأهوي على أرض الشارع حيث الكلب وصاحبته فالتفتُ نحو زوجي:
_ لا أريد الانتماء إلى أي بلد ولا لأي أرض.. سأموت ككلب صغير.. احرق جثته ولا تدفنها في التراب.. احرقها وذر رمادها فوق الغابات!.
عاوووووووووووووووو.
______
*الصباح العراقية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *