‘شرف’ أليف شفق حفريات في مجتمع شرقي



محمود فرّاج النّابي

«طَعن صَبي في السَّادِسة عَشرة من عمره مِن أصل تركيّ كرديّ أمه حتى الموت في حيّ هاكني غَسْلاً للعار. فقد طَعَن إسكندر طبرق بمبى طبرق أمام بَيت الأُسرةِ في شَارع لافندر غروف». بهذا الخَبر المُختزل، والمجرّد مِن التفاصيل، المُقتبس مِن عناوين صفحات الحوادث في الصُّحف، والذي يأتي في منتصف الجُزء الأوّل مِن الرِّواية تقدِّم لنا الكاتبة التُّرْكِيَّة أليف شَفَق المولودة في ستراسبورغ بألمانيا لوالدين يعملان في السِّلك الدبلوماسي، روايتها «إسكندر» باللُّغة التُّركيّة والمترجمة إلى العربية بعنوان دال يُلَخِّصُ أحداث الرِّواية وجوهرها، «شَرَف» الصّادرة حديثًا عن دار الآداب في جُزْأين بترجمة الدكتور محمد درويش، يصل عدد صفحاتهما إلى حوالي 735 صفحة (في الطبعة التركية 456 صفحة) من القطع المتوسط. لتغوصَ في عمق المجتمع التركيّ حيث عادات المجتمع الكرديّ.

يُطِل هاجس الماضي الذي تنهلُ منه الروائيّة أليف شَفَق في معظم كتاباتها، في الرِّواية الجديدة ولا يني يواصل إلحاحه على أن تسطّره، منذ روايتها «العشق» أو «قواعد العشق الأربعون» التي ارتحلتْ فيها إلى التاريخ والعصور الوسطى حيث العلاقة الشّائكة بين مولانا جلال الدين الرومي وشمس التبريزي، والتي انتهت نهاية مأساوية، مِن خلال تضفيرها بحكاية حديثة، إلى روايتها السّابقة «لقيطة إسطنبول»، والتي ذهبت فيها مَذْهبًا بعيدًا، بالحفر في الإثنية التركيَّة، وبحثت عن جذور العلاقة الشَّائكة التي أرَّقت المجتمع التركيّ وكادت تعصف بالروائية نفسها بعدما أقيمت ضدها دعوى قضائية، تتهمها بإهانة الهُوية التّرْكيَّة، أثناء تَطرقها لمسألة الأرمن. ومرّة ثانية يُطِلُّ هاجس الهُويات عبر روايتها مِن خلال أُسرة آدم طوبراق.
صخرة سيزيف
في لُعبة تَعتمِدُ على التّخييل الذي يتخذُ مِن تعدُّد الأماكن (قرية كردية (مالا جار بايان أو منزل الرياح الأربع) / إسطنبول / لندن / دبي) فَضاءً سَرديًّا وَاسعًا، معتمدة على التفاصيل الدقيقة والرَّحابة الفكرية التي تجدها في كلِّ ما تَكْتُب، فتغوص بحكايتها في الواقع الاجتماعيّ وأنساقه الفاعلة، التي لا تُفارق أصحابها أينما رحلوا رابطة بين الجانب السِّياسيّ والدينيّ، وما أفرزته العُنصرية للأقليات في بلاد الحرُّيات، في توليفة روائية تبدأها مِن قرية في جنوب غرب تركيا تحدُّد معالمها في عجل «قرية كردية كالحة تخلو من الطرقات والكهرباء ولا أَثَر فيها لمدرسة أو لطبيب وقلمّا كانت أخبار العَالم الخارجي تتغلغل في عُزلتها»، وإن كانت تقف على ديموغرافية المكان؛ حيثُ الأَنْساقُ الفَاعِلة التي تَعودُ مَرجِعيّتها إلى نِظام ٍأبوىٍّ / ذكوريّ يرى زهوًا في الرّجل أنّه حَامي الشَّرف، حتَّى أنّ الكثيرين مِن أفراد المجتمع ـ وِفق آلياته ـ يَتخذونه اسمًا، في حين يكون نقيضه العار أو العيب مُلاصقًا للمرأة. فترتحلُ إلى الماضي والذِّكْريات التي تُسيطر على شخصياتها (أسماء / بمبى / جميلة / إسكندر / آدم) فجميعها تستحضر الماضي وتجتره في غربتها، حتى غدا أشبه بصخرة سيزيف التي لا تفارقهم رغم ما يعانونه في غربتهم من مشاكل قد تصل حدّ القهر.
حكاية كلاسيكية
تقدُّم الكاتبة نصًّا يجمع بين النُّصوص القرائيّة بمصطلح رولان بارت والنُّصوص الكتابيَّة «ROMEN SCRIPTIBLE»، من بين الحكاية الطويلة المسرودة التي تستفيض في تفاصيلها (زمانيًا ومكانيًا)، عبر عِدّة رواة وبأساليب مُخْتَلِّفَة ما بين سرد عادي يعرض للحدث والأشخاص من قبل راوٍ غائب، أو ما تضفِّره وتكمله الحكايات الناقصة بشهادة أسماء، التي تسجلها بالراوي الأنا، مثلها مثل ما يكتبه إسكندر من يوميات في السّجن وتحمل توقيعه، أو عبر الرّسائل المتبادلة بين الأختين بمبى وجميلة، وبين الأم وإسكندر في السِّجن، من الممكن أن نخرج بحكاية كلاسيكية عَن الأختين بمبى وجميلة منذ أن ولدتا في قرية كردية، مرورًا بطفولة بائسة بعض الشيء وإن كان الأب قد حَرِص على تَعليمِ فتياته بإرسالهنّ إلى المدرسة، «كي يتمكنَّ من قراءة الدستور» في ردّه على زوجته نازي، ثمّ تَتوسَّعُ المأساة التي تبدأ بوفاة الأم بعد أن يتسرب حُلمها بإنجاب الذكر بعد ثماني فتيات، إلى زواج الأب ومأساة الأخت هدية الكبرى التي أُجْبرت على الانتحار امتثالاً للنَّسق القبليّ حتَّى أنَّ الأبَ يفرحُ لعدم وجود ابن ذكر يقوم بغسل شرفه بعدما هربت هدية مع طبيب الصِّحة الذي جاء للعمل في هذه القرية النائيّة، ثم تخلَّى عنها بعدما رفضتها الأسرة، فتعود لتواجه المصير الحتميّ (الموت)، إلى حكاية زواج آدم طوبراق ببمبى ورفضه الزواج مِن جميلة التي تنامت إليه حكاية خطفها وتلويث شرفها مِن قبل خاطفيها، وهي القصّة التي أثبتتْ كذبها لاحقًا.
شرف الأم
وقد أصرّتْ جميلة على ألا تتزوجَ وإن اكتفتْ بالعمل كقابلة تولِّد نساء القرية والقرى المجاورة، إلى حكاية عائلة طوبراق التي طاردها شبح الماضي؛ شبح الأم التي هَرَبتْ مع حبيبها، وأورثتْ مرضًا للأب ماتَ على إثره، ثمّ لعنة طاردت الأبناء في غربتهم، والتي جعلت الجميع يتجاوز سيرة الأمّ بالإشارة إليها بأنها ميتة، فكان الهاجس الذي طارد آدم ذاته وانتهى به الحال إلى الانتحار في دبي بعدما كرّر هو الآخر حكاية الأم القديمة وانقادَ خلف الراقصة «رواكسانا» تاركًا أسرته الصغيرة، وهو ما دفع بأخيه طارق عمّ الأولاد لأن يتخذ من زوجة أخيه بعدما رآها خارجة مع إلياس المتعدّد الهُويات مِن السينما، خَلاصًا للماضي الذي طارده وَتَرَكَ مِن أجله إسطنبول إلى ألمانيا ثم لندن، فيحرِّض الابن على قتل الأمّ وهو بالفعل ما يقوم به الابن بعدما شُحن مِن أَشخاصٍ عِدّة كالخطيب والعمّ طارق وراشد، فَيُقْدِم على جريمته التي هزّت الحيّ الفقير في لندن مُمْتَثِلًا لنسق القيم الذي يقول: «إنّ شرف الأمّ كان يحميه الابن الأكبر عند غياب الأب» على نحو ما ذكر أحد الشهود في إفادته. إلى أن ينتهي به الحال سجينًا، لكن القدر يجعل الموت من نصيب الخالة الشبيهة بأمّه والتي لم تسمح ظروفه بأن يلتقيها.
بهذه الحكاية الكلاسيكية البسيطة نصبح أمام حكاية مكرّرة عن الشَّرف والعادات، ولكن من خلال التقنيات التي استخدمتها الكاتبة في توزيع هذه الحكاية عبر جزأي النّص (النسخة العربية)، نُصبح أمام سرد يكشف عن خصوصية تمتاز بها السَّاردة التي تمتح مِن مخزون ثقافيّ وذاكرة حاضرة تمزج الحاضر بالماضي، متجوِّلة بين مكانيْن مختلفيْن (تركيا/لندن).
حول الترجمة
وتوقف الكاتبة جانبًا مِن سردها لمناقشة قضايا مُعاصرة كالرّأسماليّة والنّسوية، وعلاقة الآباء بالأبناء على نحو علاقة الزَّعِيمِ بأمّه المعلمة باول، والخطيب بأبويه، أو حالة التمرُّد التي سيطرت على جيل الشَّباب، فترصدُ للتغيرات التي ألمّتْ بالمجتمعات وبطريقة تفكير الشَّبَاب وتبنيهم لآراء مُخَالِفَة تحوي قيمَ التمرُّدِ على المَألوف والسُّلْطة، سواءَ كانت سُلطة الدَّوْلة (راجع شباب المخزن) أو سُلْطَة العُرف والعَادات كما في الفتيان الإنكليز الذين يثقبون الأنوف ويضعون الأوشام في كلّ مَكانٍ في الجَسدِ، أو حتَّى في عدم احترام الكبير كما في موقف الشُّبان والفتيات عندما دخلوا لشراء الزنجبيل من ميرال زوجة طارق.
رغم أن النص مترجم عن اللغة الإنكليزية لكن ثمّة ملاحظات خاصّة باللُّغَةِ التُّركيّة، في كتابة الأسماء باللغة العربية، حيث كثير منها في الحقيقة أصله عربيّ على نحو اسم الكاتبة ذاته أليف شفق، الذي تأتي ترجمته خلافًا لأصله العربية بـ «شافاك»، في حين أنه من الكلمة العربية بمعنى حُمْرَةٌ تَظْهَرُ في الأفُقِ حيث تغْرب الشمسُ، وتستمر من الغروب إلى قبيل العشاء تقريبًا “فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ”، ومنها أيضًا أسماء «ياطر» وهي كلمة تركية (yeter)بمعنى يكفي، و«بيرزو» وهو في الأصل اسم كردي يُنطق هكذا «ميرزو» بمعنى السيد بين العامة، أما إذا كان الخطاب للغني فهي تنطق بالمد بالألف «ميرزا»، بالإضافة إلى أنواع الأطعمة التي جاءت ترجمتها مختلفة عن الأصل كما هو الحال في الجبن بالثوم في الكردية Otlau peynir وفي الأصل لا يوجد هذا النوع وإنما ثمة نبتة تشبه رائحتها رائحة الثوم، تسمى «سيرم» وإن كانت تختلف عنه، ولهذا يطلق على هذا الجبن اسم النبتة للرائحة، وبالمثل ترجمته لمدينة أورفه الكبيرة، والصحيح هي شانلي أورفه sanlıurfa، والتسمية بمعنى أورفه الشريفة. كما أن الاسم الصحيح للعائلة هو «طوبراق» وليس طبرق، وهو اسم مشهور في تركيا بمعنى «التراب».
ليس ثمّة شك في أنَّ الاقبالَ الشّديدَ على كتابات أليف شفق (حيث تُعَدُّ الكاتبة الثانية من حيث نسبة القراءة وفقًا للإحصاءات التي توردها دور النشر)؛ والمكانة التي حظيت بها، ليسا من فراغٍ، بل تَسْتَحِقُهما بإثارتها قضايا ذات خصوصيّة، علاوةً على ما تدمجه في نصوصها مِن معلوماتٍ تاريخيّة مُوثّقَة، وعلميّة، على نحو ما فعلت في هذا النص بحديثها عن الماس. وصناعته والحروب التي دارت بسببه. فتصبح كتاباتها حَقْلاً معرفيًّا يحوي العِلْميّ وكذلك الخياليّ في مزيجٍ يَدْفَعُ بها إلى كتابات الصَّف الأوَّل.
______
*العرب

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *