فروسية الشعور في “أسئلة الوقت” للشاعر هشام عودة




الدكتور راشد عيسى

( ثقافات )

في ضوء اطلاعي على المشهد الشعري المحلي والعربي، أحسب أن هشام عودة من الشعراء المقلين في الإنتاج، وربما يكون لهذا الإقلال سببان:
الأول: مزاحمة الصحافة للشاعرية، والعمل الإعلامي يأكل الأخضر واليابس من الوقت.
والثاني: مزاحمة العمل النقابي الأيدولوجي الذي يرتكب الاثم ضد التخييل الشعري، بسبب ضغط الذهنية الأيدولوجية على الانفعال الشعري الحر.
وأظن كذلك أن شاعرية هشام عودة نجت بصعوبة من المزاحمتين، أو هي على وشك النجاة الكاملة على وجه الدقة.
إن ديوان “أسئلة الوقت” يكتسب شرعيته الشعرية الناجحة من عنصرين أساسيين في المعمار الشعري وهما: بطولة الشعور وبلاغة التصوير الفني الاستعاري، فأما بطولة الشعور فإننا نشم في كل قصيدة أنفاس الشاعر المحترقة حبا وانتماء وولاء واندغاما مشاعريا بالجراح العربية، ولا سيما جرح العراق وجرح فلسطين، كقوله:
“على شمس تموز 
إذ تستبين الطريق إلى ملكوت السماء
على الأنبياء
على النهر يغسل أحلام عشاقه الحالمين
من العامرية حتى جنين”
أو قوله في قصيدة مقام الفلوجة:
“وأحملك الآن
سيفا من الأمنيات
ووعدا من الغضب المرتجى
في جبال الخليل”
فالشاعر يؤاصر بين الجراح العربية من خلال انفعال بالغ الصدق والشفافية، منتصرا لحق الشعب في المناضلة، وفي صناعة شمس تبدد حلكة المرحلة، لذلك فإن أغلب قصائد الديوان تتماس مع الأماكن تماسا جديدا، بحيث منح الشاعر بعض الأمكنة كالفلوجة والرصافة وجنين وبغداد أنسنة وبطولة فاعلة ومشاركة في مشهد ردّ المعتدين، أو في مشهد إرادة الحياة، وهي أنسنة تختلف قليلا عن جماليات المكان التي تحدث عنها غاستون باشلار، فباشلار ركز على تعالق الشعور الإنساني بالمكان وجدلية الرابطة الوجدانية بينهما، لكن هشام عودة في اشتباكه الشعري مع نهر دجلة مثلا منح النهر صفة خلاقة تتفوق على صفة النهر الطبيعية الأولى، حيث هو مصدر الماء، إلى صفة المشاركة الوطنية المصيرية، بمعنى أنه جعل الطبيعة تقاتل إلى جانب الشعب عبر علاقة النهر ببغداد، أي بالشعب في المدينة، فحينا “بغداد واقفة في انتظار فتاها.. تعيد لدجلة وهج الحياة.. وتمنح أسرارها للخيول”، وفي الأحيان الأخرى، وهي الأوفر، يبادر النهر إلى النضال، وهنا يتدانى من العنصر الثاني في البيئة الشعرية، وهو التصوير الفني، يقول الشاعر:
“ودجلة لمّا يزل واقفا
يغسل الغيم
عن وجه بغداده الساحرة”
فالصورة هنا غرائبية مدهشة، إذ لنا أن نتخيل نهر دجلة الذي يجري أفقيا على أرض العراق، كأي نهر في العالم، قد نهض بشكل عمودي، رأسه في السماء وذيله على الأرض، فيما يداه تغسل الغيم عن وجه بغداد، ونحن نعرف أن الغيوم منذورة للماء، وهي ماء مؤجل، فكيف يفزّ دجلة ليغسل بمائه الغيوم، إذن بالضرورة ليست تلك غيوما عادية، إنها تراكمات الدخان الناري الذي سببته الحرب، ثم نذهب أبعد قليلا في التأويل لنقول إن الغيوم التي يغسلها دجلة هي غيوم اليأس والحزن والغموض، والنهر لا يريد لبغداد أن يراها حزينة كئيبة، وهو الذي اعتاد رؤيتها جميلة ساحرة، ولا شك أن هذه الصورة الفنية المتأتية من ينابيع أسطورية من بلاد الرافدين، مثلها مثل الصورة الاخرى التي تبرز النهر خاليا من مياهه ليمتلئ بالدم، وعلى شاطئه جثة طفل وسيدة غامضة، فللنهر حضور بطولي اسطوري في قصائد متعددة. 
وأرى ان قصيدة (مالم تقله شهرزاد) هي أجمل قصائد الديوان، وأعلاها شاعرية، إذ استطاع الانفعال الوجداني الشاهق للشاعر أن يجعل الخيال شجاعا، وأن يُكسب الذات فضاء وجدانيا عاما، لنتأمل هذا المقطع وشاعريته الخصبة الصافية: 
” هنا غابت الشمس قبل الأوان 
فنامت على كتفيّ المراعي 
صرخت ُفلم تستجب شهرزاد الجميلة 
يمّمت وجهي شطر النخيل 
واشعلت نارا 
رأيت المريدين حولي 
يعيدون رصف الحديقة بالجلنار” 
فنحن أمام مشهد سينمائي لحظة غياب الشمس، والمراعي نائمة على كتفيّ الشاعر الذي صرخ في التاريخ لعلـّه يوقظ شهرزاد الحكاءة الماكرة، لتنقذه من صمته العنيف وتشاركه همّه البعيد، وهو صمت حكيم لا يكون في هذا المشهد الا لوليّ من اولياء الله يمم وجهه شطر النخيل في نظرة قداسية مؤمنة، واشعل نارا لعله يهتدي بها إلى طريق الخلاص، وبشرى النور، تماما كما يفعل الصوفيّ العريق في وحدته المتكاثرة حين يجتمع إليه المريدون ليخففوا من غربته وآلامه، فالمقطع مثقف بالتخييل واستحضار الموروث الديني والثقافي واللغة المحتشدة بالايقاعات البلاغية المتعددة. 
وعليه فانني أرى الشاعر هشام عودة في هذا الديوان عازما أن يعود إلى الشاعر الاول فيه، ويجدد المناسك الشعرية وطقوس القصيدة، فالشاعر هو آخر ما يتبقى في الإنسان وأول ما يبدأ به الحياة، وهو الأخلد أمام تحولات العمر ومنعطفات المراحل، فالكون في الأصل قصيدة حزينة جليلة يعيد الشعراء إنتاجها، كلّ حسب مراقه الفني، وحسب إخلاصه الجمالي لفنيات الشعر. 

الصور : غلاف الكتاب، هشام عودة، د. راشد عيسي

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *