في ندرة الكتابة عند المغاربيّين: هل كلّ نادر ثمين؟!


منصف الوهايبي *



أعادتني قراءة خاصّة في أدب الأندلسي ابن الخطيب (محمّد بن عبد الله بن محمّد السلماني 713هـ-1313 /776 هـ-1377م) صاحب الموشّح الشهير»جادكَ الغيثُ إذا الغيثُ هَمَى/ يا زمانَ الوصْل بالأندلسِ»، إلى ظاهرة في الأدب المغاربي؛ كثيرا ما استوقفتناـ كلّما تعلّق الأمر بنسبة الكمّ ودرجة النوعـ هي ظاهرة الندرة. أمّا ابن الخطيب- وهو ليس موضوع هذا المقال- فقد كان على طرف النقيض ممّا أنا فيه؛ وهو الذي كان يُلقّب بِـ «ذي الوزارتيْن» أي وزارتَا السيف(رئيس الوزراء) والقلم، و»ذي الميتَتيْن» إذ دُفنَ مرّتين؛ فقد قُتل شنقا بمدينة فاس، ودُفن؛ ثمّ نبشوا قبره، وأُلقي في النار، ثمّ أُعيد ثانية إلى قبره. وبسببٍ من هذه الفاجعة سمّاه آخرون «ذا القبرين». ولكنّ أشهر ألقابه، وأنمّها على ما أنا بصدده، هو «ذو العمْرين»؛ فقد كان ابن الخطيب يعاني من الأرق طوال حياته. قال في كتابه (مخطوط) «الوصول إلى حفظ الصحّة في الفصول»: «العجبُ منّي مع تأليفي لهذا الكتاب الذي لم يُؤلّف مثله في الطبّ؛ ومع ذلك لا أقدر على داء الأرق الذي بي.» وهذا الأرق الذي تأوّله القدماء بعمْرثانٍ، هو الذي جعله صاحب مصنّفات عديدة في شتّى الفنون والعلوم في عصره، على خلاف كثير من الأندلسيّين والمغاربيّين، وثقافة الأندلس من ثقافة بلاد المغرب كلّها.
لِمَ هذه الندرة؟ وما هي أسبابها ودوافعها؟ الحقّ لم أطّلع عل دراسة مستفيضة توفي هذه الظاهرة حقّها عندنا نحنُ المَغارِبِيّينَ، أو تستجلي آثارها ونتائجها. ولعلّ مبحثها أن يكون من اختصاص المشتغلين ب»الاجتماعيّات» أو سوسيولوجيّة الثقافة، فندرة الكتابة قد تكون قضيّة اجتماعيّة أكثر منها أدبيّة. وربّما غلب فيها الموضوعي على الذاتي، أو هي راوحت بين هذا وذاك، وتفاوتت نسبتها من كاتب إلى آخر. على أنْ لا أحد في تقديري؛ ينكر صلتها بسلطة الكتابة في مجتمعاتنا المغاربيّة ومكانتها، وما يتفرّع عنها من مسائل وقضايا أخرى، أجدها على صلة بحرّية الكاتب ولغته ونمط حياته. والكتابة بشتى تحلّياتها تجري على وتيرة من «قانون التراكم» أو الكمّ. فهي أشبه بطبقات جيولوجيّة، يسلسل فيها اللاحق السابق؛ مادامت تنشأ تحت وطأة التقاليد الأدبيّة المتراكمة، من جهة، وحرّية الكاتب في أدائها والتصرّف فيها، من جهة أخرى. وهي بهذا المعنى سياق كميّ على قدر ما هو نوعيّ؛ يدركه كلّ من تأتّى محنة اللفظ ومعضلة اللغة؛ ومشادّة على قدر ما هي مصالحة بين أساليب شتّى، في حيّزها تتجاذب الكلمات وتتدافع. وربّما كان لها من السطوة ما يجعلها تناوئ الكاتب، وهو يروّض ما توحّش من أشكال العلاقة بين كلمة وأخرى. وربّما انزلقت كلمة من موقعها وتملّصت، فيمسكها الكاتب من ذيلها، ويعيدها إلى جملتها الأصليّة، ويغلق عليها الباب، بفاصلة أو نقطة أو هلالين او مزدوجتين. وربّما حَارَ في أمرها، فوضع لها نقطة تعجّب أو علامة استفهام أو نقاطا مسترسلة؛ غير آبه بها ولا حافل، إن هي اساحت في ذاكرة النصّ أو في ذاكرة قارئه.
ومهما يكنْ فأنا أكاد لا أعرف أيّا من كتّابنا وشعرائنا المغاربيّين، تفرّغ للكتابة أو تخيّرها حرفة؛ حتى يكون في فسحة من أمره ومن وقته، تتيح له أن يستكمل ما بدأ، ويستوفي ما نقص؛ فتكون درجة النوع من نسبة الكمّ. وإنّما أكثرنا من المقلّين الذين يختلسون الوقت اختلاسا. وربّما جرفتهم الحياة وهمومها، فتناسوا عملا كانوا قد شرعوا فيه، وتغافلوا عنه؛ حتى إذا عاودهم الحنين إليه، وجدوا من عناء الكتابة وعَنَتها؛ ما يصرفهم ثانية عنه. والكاتب إنّما يتعهّد لغته، ويشحذها باستمرار، فإذا تراخى به الزمن وتطاول؛ أسلمته اللغة إلى دروب من الكدّ، موحشة عصيّة. 
على أنّني أدرك أنّ الكتابة لا تُقاس بالكمّ، بل قد يكون النوع قرين الندرة. فهذا خوان رولفو وهو أبُو الرواية الحديثة في أمريكا اللاتينيّة، لم يكتب سوى رواية يتيمة هي «بادرو باراما» ومجموعة قصصيّة واحدة. وهذا التونسي محمود المسعدي طلّق الكتابة الأدبيّة منذ الأربعينات، ولم ينشر سوى أربعة أعمال إبداعيّة. وهذا السوداني الطيّب صالح لم يكتب هو أيضا سوى» موسم الهجرة إلى الشمال» و»عرس الزين» و»دومة ود حامد». على أنّ هذه الأسماء وغيرها تظلّ استثناءً في تاريخ الكتابة، ولا ينبغي أن نتعلّل بها في لتسويغ الندرة، أو أن نحملها على محمل القاعدة. والقاعدة أن تجري الكتابة على وتيرة من «قانون التراكم» حتى يكون لها جمهورها تلقّيا وتداولا من جهة، وتستثير أعمالا إبداعيّة أخرى، أو تكون قادحا لها من جهة ثانية. وهذا مبحث موكول إلى المشتغلين بـ «سوسيولوجيا الأدب»، وربّما في جانب آخر منه إلى المشتغلين بـ «جماليّة التلقّي». فهؤلاء هم الأقدر على استجلاء الشروط التاريخيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والأدبيّة التي تتحرّك في أفقها صناعة الكتابة، وتتأسّس العلاقة بين الكاتب (المنتج) والمتلقّي(المستهلك) والعمل الأدبي (الإنتاج). ولا أظنّ أنّنا نملك في المغرب الكبير كلّه، تصوّرا واضحا لهذه «الصناعة»، من شأنه أن يجترح لـ «الندرة» حلاّ؛ إلاّ أن يكون «الأرق» أرق اين الخطيب.

* كاتب من تونس

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *