هل تسبب سلمان رشدي بقتل إيغاراشي؟


ميسرة عفيفي*


مشهد أول في الساعة الثانية بعد ظهر العاشر من رمضان عام 1393 الموافق السادس من أكتوبر عام 1973 قامت قوات الجيش المصري بعبور قناة السويس وتحطيم خط برليف على عدة محاور والاشتباك مع العدو الصهيوني في معارك دامية برا وجوا، مكبدة له خسائر فادحة على كل المستويات.
مما جعل الحكومة الأميركية تأخذ قرارا بمد جسر جوي بينها وبين إسرائيل من أجل تعويض الخسائر التي أصابت على عدة جبهات الجيش الأقوى في الشرق الأوسط والذي كان يوصف بأنه الجيش الذي لا يقهر.
عندها اجتمعت كلمة القادة العرب ربما للمرة الأولى، معربين عن تأييدهم الكامل لمصر ولدول المواجهة مع العدو الصهيوني.
وفي الرابع والعشرين من شهر رمضان 1393 الموافق للعشرين من أكتوبر 1973 قررت الدول العربية المصدرة للنفط استخدام البترول كسلاح لأول مرة في معركتها ضد عدوها، وأخذت تلك الدول قرارا تاريخيا بمنع تصدير النفط العربي لأية دولة تؤيد “إسرائيل” أو تدعمها.
مشهد ثانٍ في السادس عشر من نوفمبر لعام 1973 يجتمع مجلس الوزراء الياباني برئاسة رئيس الوزراء كاكوئيه تاناكا في طوكيو لبحث تداعيات قرار وقف تصدير النفط العربي على الأمة اليابانية والمجتمع الياباني بعد أن انتشرت الشائعات في عموم الدولة اليابانية بالوقوع في أزمة اقتصادية طاحنة وحدوث شح في المواد البتروكيماوية، مما نتج عنه تكالب الشعب على تخزين تلك المواد ووقوفهم في طوابير لا تنتهي من أجل الحصول على المواد التي توقعوا نفادها من الأسواق بسبب قلة النفط، وكانت أشهر هذه المواد هي أوراق (التواليت) التي لا يستغني عنها اليابانيون لقضاء حاجتهم لأنهم لا يستخدمون الماء في الطهارة من الحدث.
اتخذ مجلس الوزراء عدة قرارات لمواجهة الأزمة وأحد هذه القرارات هي البحث عن بديل ولو مؤقت للدول العربية لكي تستورد اليابان منه النفط بأسعار معقولة بعد عقد اتفاقية استراتيجية معه، وكانت إيران الشاهنشاهية هي الدولة المقترحة.
وبالفعل تم توقيع عدة اتفاقيات بين الدولتين في عام 1974، وكانت إحدى هذه الاتفاقيات هي اتفاقية لتشجيع التبادل السياحي بين البلدين، وبالتالي إلغاء شرط الحصول على تأشيرة دخول مواطني كلّ من البلدين إلى الأخرى بغرض السياحة، والسماح لمن يحمل جواز سفر إحدى البلدين بالدخول للدولة الأخرى دون تأشيرة والبقاء فيها للسياحة لمدة ثلاثة أشهر.
مشهد ثالث في الأول من فبراير عام 1979 يعود الإمام الخميني إلى طهران ليقود آخر مرحلة من مراحل الثورة الإيرانية ضد الشاه محمد رضا بهلوي وبقايا حكمه، ليتم في الأول من أبريل إجراء استفتاء شعبي عام على جعل إيران جمهورية إسلامية يقودها روح الله الخميني.
وتبدأ الدولة الجديدة في تدعيم أركانها باستبعاد كل من يعارض التوجه الجديد للدولة ممثلاً في قائدها الأعلى، وبدأ ما سُمّي بالثورة الثقافية فتم إعدام عدد كبير من جنرالات الجيش السابقين، وتم غلق الجامعات لفترة مؤقتة، وإبعاد آلاف الضباط عن الجيش وعشرات الآلاف من المدرسين عن التدريس.
وبدأت أعداد كبيرة من الإيرانيين الذين كانوا يؤيدون الخط الذي كانت تسير عليه الدولة في عهد الشاه في البحث عن بلد يهاجرون إليه بعد سيطرة الثورة الإسلامية الشيعية على مقاليد الحكم وبدأت تضيق الخناق على المخالفين لأفكارها حتى أولئك الذين قاموا بالثورة مع التيار الإسلامي من تيارات ثورية غير إسلامية.
وهاجر الكثير من هؤلاء إلى العالم الغربي سواء أوروبا أو أمريكا.
ووجد جزء من أولئك الذين لم يرضوا بما آلت إليه الثورة من حكومة إسلامية متشددة في نظرهم، وجد فرصة في الاتفاقية التي بين بلدهم واليابان السابق ذكرها، فشدوا الرحال إلى طوكيو وغيرها من المدن اليابانية التي استقبلتهم في فترة استثنائية من تاريخ اليابان يطلق عليها فترة ازدهار اقتصاد الفقاعة.
وهي الفترة من عام 1986 حتى عام 1991.
مشهد رابع بعد عقدين كاملين من النمو الاقتصادي المتسارع منذ منتصف الستينات وحتى منتصف الثمانينات وصلت اليابان إلى مصاف الدول الصناعية الكبرى وحققت نهضة صناعية واقتصادية حقيقية أدت إلى زيادة مطردة في الدخل القومي وبالتالي الدخل الفردي للمواطنين، مما زاد من كمية الأموال الموجهة للاستثمار ولكن بسبب ارتفاع سعر الين الياباني تدريجيا بعد إجبار اليابان على تحرير سعر الصرف، ولأسباب عديدة أخرى تقلصت إمكانية زيادة الاستثمارات بالطرق الطبيعية وهي بناء المصانع وزيادة التصنيع والإنتاج.
فاتجه الجميع سواء الأفراد أو المؤسسات إلى الاستثمار في العقارات والأراضي والأسهم والسندات وغيرها من أشكال الاستثمار غير المنتج.
مما أدى إلى زيادة غير حقيقية في أسعار تلك الأشياء فزاد الطلب عليها أكثر وزادت أسعارها أكثر وأكثر، فوصل سعر المساحة التي داخل نطاق خط يامانوتيه الدائري للسكك الحديدية في مركز طوكيو والتي تبلغ 63 كيلومترا مربعا، إلى سعر يمكن به شراء مجمل أراضي الولايات المتحدة الأمريكية.
وحدث انتعاش اقتصادي غير حقيقي جعل اليابانيين لديهم فائق في الأموال، مما جعلهم أيضا لا يرغبون في العمل في الأعمال التي توصف دائما في اليابان بأعمال الثلاثة (K) وهي الأعمال الشاقة والخطرة والقذرة وهذه الصفات الثلاثة تبدأ بحرف (K) في اللغة اليابانية، وأدى ذلك لتهاون الحكومة مع وجود عمالة أجنبية غير شرعية لكي يقوموا بالعمل بهذه الأعمال التي ابتعد عنها اليابانيون للأسباب السالفة الذكر.
مشهد خامس تتجمع في حديقة (يويوغي) التي تقع بجوار معبد (ميجي) الكبير بمدينة طوكيو، أعداد كبيرة من المقيمين غير الشرعيين، الأغلبية العظمى منهم إيرانيون دخلوا اليابان بناء على الاتفاقية التي تسمح لمن يحمل الجنسية الإيرانية بالدخول إلى اليابان للسياحة لمدة ثلاثة أشهر، ويعمل الكثير منهم في أعمال مشبوهة في نطاق منطقة رمادية قانونيا، بل وعدد منهم كذلك يعمل بشكل صريح في أعمال الجريمة المنظمة كبيع المخدرات وتزييف بطاقات الهاتف والعملات المعدنية المستخدمة في آلات البيع الإلكترونية.
ولكن في عام 1992 ألغت اليابان اتفاقية التبادل السياحي المشار إليها بينها وبين إيران لأسباب عديدة أشهرها هي الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي أصابت اليابان وجعلت نسبة البطالة ترتفع وبالتالي شدّدت الحكومة اليابانية قبضتها على المقيمين غير الشرعيين الذين يعملون بشكل غير قانوني وشددت من العقوبات على المخالفين.
فقل عدد الأجانب المقيمين بشكل غير شرعي في البلاد،خاصة الإيرانيين ليصبح عدد الإيرانيين المقيمين في اليابان يزيد قليلا على الأربعة آلاف (إحصائية وزارة الخارجية اليابانية لعام 2010) بعد أن كان يقدر عددهم في وقت الذروة بأكثر من أربعين ألفا في كل أنحاء اليابان.
مشهد سادس في الحادي عشر من شهر يوليو عام 1991، يقف د.هيتوشي إيغاراشي الأستاذ المشارك بجامعة تسوكوبا القومية، وحيدا في بهو مبنى الأبحاث المكون من سبعة طوابق والخاص بدراسات الاجتماع والإنسانيات الذي يعمل فيه.
ينتظر المصعد بعد انتهائه من عمله ذلك اليوم، وفجأة يأتي شخص من خلفه حاملا آلة حادة يطعنه بها عدة طعنات نافذة ترديه قتيلا، ثم يفر هاربا من المكان دون أن يراه أحد.
ولا يتم اكتشاف جثة د.إيغاراشي إلا صباح اليوم التالي.
كان د. إيغاراشي قد ولد عام 1947 في محافظة نييغاتا بشمال اليابان، وتخرج من جامعة طوكيو القومية أفضل جامعات اليابان عام 1970 في قسم الرياضيات بكلية العلوم، ولكنه حول تخصصه بعد ذلك إلى الدراسات الإنسانية لينهي دراسة الدكتوراه عام 1976 من نفس الجامعة في تخصص عام الجمال والفنون، ثم يسافر إلى إيران في نفس العام ليعمل كباحث في الجمعية الإيرانية الشاهنشاهية للفلسفة حتى قيام الثورة الإسلامية في عام 1979، ليعود إلى اليابان في نفس العام ويواصل دراساته وأبحاثه حول الإسلام، خاصة مرحلة النهضة الإسلامية وعلاقتها بنقل العلوم والفنون من اليونان إلى أوروبا، ويصدر مؤلفات عدة مثل “أبحاث ابن سينا – طب الشرق ومعرفته”، و”عصر النهضة الإسلامية”، و”الموقف المتأرجح سوف يقضي على اليابان – هل نحتاج العرب أم لا نحتاجهم؟”، ويقوم بالاشتراك مع آخرين بترجمة “موسوعة الطب” لابن سينا، وأخيرا في عام 1990 يقوم د. إيغاراشي بترجمة رواية “آيات شيطانية” لسلمان رشدي التي صدرت عام 1988 والتي أثارت جدلا واسعا ولاقت استهجان واستياء الغالبية العظمى من المسلمين وبسببها أصدر الإمام الخميني في فبراير من عام 1989 فتوى بإهدار دم مؤلفها سلمان رشدي الذي يعيش منذ ذلك الحين متخفيا لا يظهر علانية إلا في حماية مشددة من الشرطة.
مشهد سابع تقلع ظهر الثاني عشر من شهر يوليو عام 1991 طائرة من مطار ناريتا شرق طوكيو عليها شاب بنغالي، يُرحَّل من اليابان فجأة، وبدون مقدمات، بعد أن جاء منذ فترة قصيرة ليدرس في جامعة تسوكوبا، عائدا إلى دكا عاصمة بلاده بنغلاديش دون أن يخبر أحد أو يودعه أحد من أصدقائه أو معارفه.
مشهد أخير الشرطة اليابانية تعقد مؤتمرا صحفيا تعلن فيه عدم توصلها لأي قرائن أو أدلة تساعد في الوصول إلى معرفة الجاني الذي قام بطعن د.
إيغاراشي، وتلمح إلى اكتشافها بضعة أوراق في مكتب د.
إيغاراشي بالجامعة بها أربعة سطور يُعتقد أنه كتبها بنفسه باللغة اليابانية واللغة الفرنسية يقول في الجزء الفرنسي منها: “سأقُتل تحت بئر السلم”، مما يعني أن د.
إيغاراشي كان يشعر بمن يتربص به ويريد قتله.
لكن الشرطة قالت إنها لا تستطيع أن تحدد هوية القاتل أو أسباب القتل وإنها لا تستبعد أن تكون مشاكل شخصية هي التي تكمن وراء الجريمة.
وحتى هذه اللحظة لم يتم توجيه الاتهام إلى أحد.
وفي الحادي عشر من يوليو 2006 أعادت الشرطة مقتنيات الضحية التي كانت ضمن أحراز القضية إلى أهل القتيل بسبب مرور خمسة عشر عاما على وقوعها وانتهاء المدة القانونية لمقاضاة الجاني حتى لو كان يعيش طوال تلك الفترة داخل اليابان، أما لو كان خارج اليابان فتخصم فترة وجوده خارج اليابان من فترة الخمسة عشر عاما حسب قانون العقوبات الياباني.


*المصادر: عدة مواقع باللغة اليابانية على الإنترنت.

( الاتحاد الثقافي – الإمارات )

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *