ما هو جوهريّ يراه القلب ولا تُبصره العيون


*لطفية الدليمي

” الأرض تفيدنا عن أنفسنا أكثر مما تفيدنا جميع الكتب، ذلك أنها تقاومنا فالإنسان يكتشف نفسه عندما يواجه معضلة ولكنه يحتاج إلى أداة كي يبلغها ، تلزمه فأس أو محراث ، فالفلاح عندما يحرث الأرض ينتزع شيئا فشيئا بعض الأسرار من الطبيعة والحقيقة التي يستخرجها هي حقيقة كونية “

هذا ما يقوله ناقل بريد العشاق والروائي أنطوان دي سانت أكسوبيري في روايته “أرض البشر” وهو الطيار الذي اختفى في المجهول مع طائرته وترك لنا روايات مهمة ، منها روايته الفاتنة ” الأمير الصغير” وتوفي بعد نشرها بسنة واحدة وجرت ترجمتها إلى 230 لغة من لغات العالم وتجاوزت مبيعاتها الـ 140 مليون نسخة ولاتزال تبيع نحو مليون نسخة سنويا حتى يومنا هذا وعُـدّتْ من بين أعظم الروايات في القرن وقُـرِّرت في المدارس الابتدائية الفرانكوفونية وأنتجت للسينما مراراً وكان أجملها الفيلم المنتج في بريطانيا . أكسوبيري ليس بروائي حسب إنما هو قائد طائرة تنقل بريد العشاق والأسرار بين القارات وهو مُنقِب جريء عن أسرار الروح الإنسانية وكان يتحول لدى كل طيران إلى مخلوق كوني منتمٍ للأبدية مفتون برؤى كاشفة وأساطير كونية ،وهو الذي قال في رواية الأمير الصغير “بالقلب وحده يمكن الرؤية بوضوح فما هو جوهري لا تبصره العيون “
لم يكتب أكسوبيري رواية “أرض البشر” حسب الأسس الصارمة للرواية الكلاسيكية إنما قدمها كبيان إنساني عن الحنان والتعاضد وأطروحة عن اندماج الإنسان بالطبيعة والتحالف الخفي بين الإنسان والكائنات الأخرى في مواجهة الأبدية .
تعلّم أكسوبيري أن مغامرة الطيران وسط الغيوم وفوق القمم الثلجية وبين زئير العواصف وفوق السهول الشاسعة والمحيطات والأنهار العظمى، كل ذلك لا معنى له ولا قيمة إلا من خلال ثقافة ما أو حضارة ما أو مهنة ما ، الكتابة والفن والعلم كلها تمنح المعنى ، كان يرى بعين الشاعر وقلب المغامر عالما آخر غير ما ترسمه الخرائط والعلامات، فكانت تبهره في محيط العتمة فوق المدن أنوارُ بيوتٍ قليلة تومضُ فيصفها بـ ” أنها أعجوبة وعي” ذلك أن النور في عتمة السهول والمدن يخبرنا أن هناك إنساناً يحيا : يقرأ أو يحب أو يفكر في أرَقِه ، وكان كلما رأى نيرانا تأتلق كالنجوم الحية على تخوم الريف يصيح بصوت جذل إنها ” نار الشاعر والمعلم والنجار” ولكن ، يتساءل أكسوبيري ، ترى بين هذه النجوم الحية كم من نافذة موصدة ؟ كم من نجمةٍ مطفأةٍ وإنسانٍ خامد ؟
صنع هو ورفاق الطيران قصصاً و جعلوا من بلد مجهول صديقاً : فإسبانيا رفيقة سفر ، الأرجنتين خالة حنون ، لم تكن أحاديثهم عن الجبال والماء والرعاة ، أحد الطيارين فتح الخارطة ليرشده إلى العلامات : انظر هنا إلى شجيرات البرتقال الثلاث عند أطرافِ حقلٍ قرب مدينة قادش ، ضعها علامةً على خارطتك واهتم بها ،فصارت شجيرات البرتقال الثلاث صديقات الطيارين وأصبحن أعظم مهابةً من الجبال والأنهار.
أنطوان دي سانت أكسوبيري الروائي والطيار كان يعلم أنه تحت دثار الغيوم تنتظره الأبدية و يزهو بأنه تحوّل عبر مسارات مهنته وفن الكتابة إلى فيزيائي وعالم بيولوجيا ، كان يتفحص الحضارات التي توطنت في الأودية من الأعالي ويراها تتفتح كالزهور أو تضمحل وهو بهذا يعيد تقييم الإنسان على المستوى الكوني ويعيد بناء تاريخ البشر قائلا:” الزهور تتآخى مع الزهور والبجع يعرف البجع ويألفه، البشر وحدهم يُشَيّدون عزلتهم”.
______
*المدى

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *