*علي وجيه
من غير الممكن الإحاطة بعوالم كارلوس ساورا من خلال بضعة أفلام. السينمائي الإسباني قدّم أكثر من 40 فيلماً منذ منتصف الخمسينيات، وما زال ناشطاً حتى اليوم. صحيح أنّه الوريث الشرعي لمعلّمه وابن مقاطعته لويس بونويل، إلا أنّه يرفض أن يكون «أحد حوارييه» كما قال.
سيظهر ذلك في ابتعاده التدريجي عنه، وتجريبه العديد من الأساليب والتيارات قبل التفرّد بمسار خاص. أطلق النار على فاشية فرانكو رغم عمله تحت سلطته، متخفياً بحكايا اجتماعية وحبكات عائلية وبعض الشخصيات الرمزية. ركّز على الثقافة الشعبية الإسبانية، من خلال أنواع الرقص والموسيقى وقصص الغجر والشعراء. هذا لم يمنعه من اقتراح أفلام ذاتيّة حملت هواجسه الشخصية. ضمن تظاهرة «ساورا أو الرواية الراقصة»، نشاهد اليوم مع «الصيد» (1966، 91 د ــ تُعرَض نسخة مستعادة ومرمّمة) إذ يجتمع ثلاثة أصدقاء قدامى في رحلة لصيد الأرانب تتخذ منحى دموياً. المكان الصخري يعيد الشلة إلى أيام الحرب الأهلية الإسبانية (1936 ـ 1939)، حين قاتلوا إلى جانب النظام الفاشي. ثمّة جثث غير مدفونة كالذكريات المشتركة والخلافات القديمة التي تطفو على السطح. الدم يدعو الدم، والقتل يستدرج المزيد. مشاهد الصيد الحي تحرّض نزعات عدوانية داخل النفس البشرية. التلميحات الجنسية الكثيرة تحيل على تاريخ من القمع. التباينات الاجتماعية بعد تاريخ دموي تحمل إسقاطاً نارياً على حقبة فرانكو.
البطء والملل وحرارة الطقس عناصر تتضافر مع كاميرا ساورا الشرسة، ومباشرتها في تعرية الشخصيات، لتصل بالتصعيد إلى الانفجار. هذا شريط صادم يمشي على خيط رفيع بين الاحتفاء بالعنف الجمعي كما في مصارعة الثيران وبين تحليل العنف الفردي. دراسة الشخصيات عندما تكون قادرة على القتل، تيمة مفضلة عند بونويل وتلميذه الشاب (آنذاك) ساورا. هذه الشراسة دفعت بازوليني إلى منحه الدب الفضي لأفضل مخرج في «البرليناله» عام 1966. «الصيد» كان أيضاً بداية تعاون طويل (12 فيلماً) بين ساورا والمنتج إلياس كريخيتا الذي سيتحمّل الضغوط السياسية والرقابية لاحقاً.
في آخر عهد فرانكو، لجأ ساورا إلى الدراما العائليّة لتمرير سهامه السياسية والمجتمعية. في «ابنة العمة أنجليكا» (1974، 107 د ـ 5/9)، يعود رجل الأعمال «لويس» إلى بيت عمّته في «سيغوفيا» لدفن رفات أمّه. لقاء حبّه الأوّل ابنة عمته المتزوجة أنجليكا، يعيده إلى عام 1936، حين أمضى الصيف معها عند اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية. العائلة البرجوازية تعايش انتقال البلاد من مرحلة إلى أخرى، فتزداد انغلاقاً وتفكّكاً بين القومي والجمهوري، والماضي والحاضر، إذ لم تتكفّل السنوات بدمل الجروح. إذاً، تعترض الفاشية طريق الحب والجمال كما كانت دائماً. تتوّج تاريخاً من القمع الديني والإحباط العاطفي. تعرية إيديولوجيا القمع بهذا الوضوح، عرّض الفيلم لحرب ضارية في الداخل الإسباني، حتى أنّ بعض الملثّمين سرقوا عدداً من بكراته في مدريد. هجوم ساورا الأعنف على الفاشية كان في «آي، كارميلا» (1990، 102 د ـ 8/9). كارميلا (كارمن ماورا) وباولينو (أندريس باخاريس) يقيمان عروضاً ترفيهيّة للجمهوريين أثناء الحرب الأهليّة. يقعان في قبضة الفاشيين مصادفة، فيقدّم لهما ضابط محبّ للمسرح عرضاً لا يمكن رفضه. «بورليسك» مسرحي عن إسبانيا الجمهورية مقابل الحرية. الفودفيل الإجباري الرديء يتحوّل إلى مسدس لإطلاق النار على اسبانيا فرانكو وإيطاليا موسوليني وألمانيا هتلر. تُضاف لذلك عناصر محبّبة لساورا: الفلامنكو، والموسيقى الشعبيّة الاسبانية، والبروفات المسرحية، وغويا، والشاعر الإسباني المعروف أنطونيو ماتشادو (1875 ـ 1939).
في «إليسا، حياتي» (1977، 125 د ـ 6/9) الذي كتبه ساورا بمفرده، نتلمّس طرحاً ذاتياً لا يخلو من الغرابة والغموض. ساورا يقول الكثير من خلال علاقة الأب وابنته بعد فراق تسع سنوات. الأب غارق في ذكريات يخطّها في رواية يبدو أنّها تمثّل ابنته أكثر ممّا تعبّر عنه. هي تستمتع بالبقاء في الريف المدريدي بعيداً من زوجها الخائن، الزمن يغير هويات البشر، يخلق أسئلة عن بداية شخصية ونهاية أخرى، العلاقة ملتبسة لكنها واضحة المعالم، المناخ هادئ ومتوتر معاً. الأب قد يستحضر زوجته من خلال الابنة، لذا تلعب زوجة ساورا وبطلته المفضلة لعقد كامل جيرالدين شابلن (ابنة شارلي) الدورين. صورة حميمية تعيدنا إلى كلاسيكيات سينمائية وتشكيلية (غويا) يفضّلها ساورا دائماً. أداء ثنائي لافت استحقّ عنه فيرناندو راي جائزة أفضل ممثل في «كان». هذا السياق الاجتماعي القائم على الإفلاس الأخلاقي والقمع العائلي، اختتم سبعينيات ساورا بترشيح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي من خلال «ماما تكمل الـ 100 سنة» (1979، 100 د ـ 7/9). تتمّة كوميدية لـ «آنا والذئاب» (1973، 102 د) التي تعود إلى قصر العائلة (الريفي بطبيعة الحال) لتكتشف أنّها لا تزال وسط ذئاب البشر.
في التسعينيات، عرفت إسبانيا استقراراً سياسياً واجتماعياً، انعكس على سينما ساورا التي اتجهت نحو مزيد من الذاتية والتفرد، حقّق أفلاماً عن الرقص والسير. في «غويا في بوردو» (1999، 100 د ـ 9/9) غاص في عوالم التشكيلي الإسباني الشهير (1746 – 1828). في منفاه الفرنسي الذي شهد أيامه الأخيرة، يبدو غويا عجوزاً بائساً نزقاً لا يكفّ عن التذمّر. الثائر الليبرالي ضد حكم فيرديناند السابع، يعود إلى محطات بارزة في حياته عبر أحاديث ليلية مع ابنته روزاريو. لا يقترح ساورا بيوغرافيا تعريفية، فمن لا يعرف غويا جيداً لن يستمتع بالفيلم كما يجب. ساورا يتفنّن في الضوء والبصريات والتنويع بين الألوان النارية والباردة. يتلاعب بالزمن، مزيلاً الحدود بين الحقيقة والوهم، وبين الرسوم والواقع. كذلك، يُسجّل حضور تفاصيله المحبّبة من غجر وموسيقى ورقص وأفكار ثوريّة ضد الفساد والجهل.
في العمل المتكرّر مع مدير التصوير الإيطالي الشهير فيتوريو ستورارو (1940)، يحقق ساورا بحثاً في الصورة بوسائط تقنيّة متنوّعة. كولاج إيقاعي وضوئي لافت ينجزه معه في «فلامنكو، فلامنكو» (2010، 97 د ـ 10/9)، محوّلاً جناح إشبيلية في «معرض إكسبو 92» إلى استوديو لتصوير الوثائقي التجريبي الذي يستكمل «فلامنكو» (1995). التيمة تحيل على عدد من أفلام الرقص التي برع ساورا في صناعتها، أشهرها «عرس الدم» و«كارمن»، وفيلمه المتفجّر فنياً «تانغو» (1998). ساورا يحبّ البروفات والتحضير على الخشبة. يستمتع بسبر قلق الفنان ومآله، وإذابة كل فاصل بين الحياة الواقعية والحياة الفنية. خشبة المسرح قد تمتد إلى الشارع والحديقة. لا بأس من أنسنة المخرج أمام عدسته أيضاً. هل كان تكرار اسم «لويس» في أفلام كثيرة من باب المصادفة؟
____
*الأخبار