سينما الذئاب: تغريبة العواء بين مرابع الشمال وعباءة الشقراء


لينا أبوبكر


إنه الشمال، بيت الذئاب الناعمة، صاحبة اللحى الشقراء، التي تطلق القوس من جرح الفريسة، كي تحقن دم الثلج في قبعة الجبال أو في رداء أحمر لصبية من منازل التخوم في أرض القمر.

تبدأ القصص من تلك الخيالات التي تخصب قبل النوم، حتى تدرك عنان الرؤى، فتصبح مع مرور الزمن ذاكرة تنطلق من نواة المخيلة عبورا بالحلم وصولا إلى ما بعد الحقيقة التي تشتبك مع الخدع البصرية في ملحمة شعبية بطلها الأول والأخير هو الذئب.
المشهد مخطوف هنا من ممارسات غوائية، أتاحت لها الصبابات البكر اقتناص مشاهد لا مرئية، مصفاة من شوائب الإبهار السينمائي المعاصر الذي يبطل وضوء التأمل الدلالي للأداء التعبيري في العمل الإبداعي، ويعكر انتباهة المخيال للغيبيات المتوارية خلف ستارة العرض بعد انتهاء الفيلم! “العشاء الأخير” الصناعة السينمائية التي قادها رواد التسعينات في هوليوود كانت تعتمد أولا على الحدس الفطري الخام قبل ارتكازها على أسس التنافس التجاري القائم على تجريد الصورة من الإحساس لصالح الخدع البصرية المزغللة للنظر، مما يسطح المضمون، ويضع الفتنة في قالب آني سرعان ما يتبخر وتذهب ريحه، بمجرد انحسار الذاكرة المشهدية بمد مروع من التراكم الصوري المشوش للذهن والوعي! ألا تصبح السينما حينها مجرد دربكات غير منتظمة على خشبة مصابة برعاش مرضي؟ إن كان يمكن لكل هذا التضخم السرطاني المخيف للصورة أن يحل محل المضمون اللغوي المستند إلى دلالة- توحي أكثر مما تربك بثرثرة صورية فضفاضة- ويصبح ديدنا للحكم على براعة الصنعة، فهل نتوقع من أكاديمية الفنون وعلوم الصور المتحركة أن تقيم عشاءها الأخير على شرف صناعة سينمائية تتقهقر إلى الدرك الأسفل بفارق عبثي يسخر التقنية التكنولوجية في هذه الصناعة لصالح الصورة على حساب النسيج التعبيري في روح العمل؟ نحن إذن على مشارف سينما خرساء وليست صامتة، مع كل ما تحتويه من مؤثرات صوتية هائلة! وبين العشاءين، الأول الذي عقد في السادس عشر من مايو عام 1929، في فندق “هوليوود روزفيلت”، وبين الأخير المنتظر ما يبشر بانتكاسة سينمائية وشيكة، على الأوسكار بعدها أن يحال إلى التقاعد إن لم يصبح تذكارا سيرمونيا، يحث السينما الهوليوودية على الهرولة إلى الوراء كي تدركه، حينها لن يظل موجودا من أجلها بل ستسعى هي للبقاء من أجل إبقائه موجودا! قد يقول قائل: إن الرمق الأخير هو الأطلال السينمائية الكلاسيكية، ولكن إلى أي مدى يمكن للذاكرة السينمائية أن تسعف تكنولوجيا بلا ذاكرة! “ليلى والذئب” Red   Riding Hoodفيلم الفانتازيا السوداء إنتاج العام 2011، المشتق من القصة الفلوكلورية التي تعود جذورها إلى كلاسيكيات الأدب الفرنسي لصاحبها شارل بيرو (1628- 1703) والذي وضع حجر الأساس للحكايات الخرافية التي تنضوي تحت لواء الأسطورة، فكانت باريس وطنها الأم الذي هاجرت منه إلى أنحاء أوروبا عبر أقلام أعادت صياغة الخرافة بما يتقاطع ويتوازى مع النص الأصلي، لتصل إلى الشرق بهيئة “ليلى والذئب”.

الصورة مبهرة، لا شك، جبال بيضاء، تصعد أدراج الغابة بقدمي شقراء ترتدي عباءتها الحمراء التي يمتد ذيلها القاني خلفها كأفعى تراود الذئب عن سرير البياض، وتنجب منه ذئبا يبشر بسلالة يمكنها أن تملأ فراغ سلسلة عنقودية من أجزاء لاحقة.

التصوير الإخراجي جاء مطعما بالحس الفني والرؤية الإبداعية التي اعتمدت أولا على المهارات التقنية، ولكنها مخذولة من نص مبتذل لـ”ديفيد ليسلي جونسون” حسب ما أقرت به بطلة الفيلم “أماندا سيفريد”، التي واجهت حملة النقد الحاد بإلقاء اللوم على العناصر الأخرى، ممثلة بالكادر التمثيلي الذي لم يبرع بتقمص أدواره، وبالتحديد البطل الذي تقف أمامه “شيلو فرنانديز” والذي لم يرق لها قبل البدء بالتصوير، بحيث انقطعت الحبال الكيميائية بينهما، وهو ما ظهر جليا للنقاد على الشاشة وأثبت قصر نظرمخرجة العمل “كاثرين هاردويك” التي أقنعت “سيفريد” بمنحه الفرصة.

إنه الرجل الذئب، شخصية وهمية من أساطير القارة العجوز في القرون الوسطى، يتحول بها الرجل عند اكتمال القمر إلى مذؤوب، يبحث في أخاديد العتمة عن ضحية، فما أن تشرق الشمس حتى يعود مجددا إنسانا بحتا، وهي شخصية شهيرة ومنتشرة في قصص الشعوب على اختلاف أعراقها من الصين إلى البرازيل وحتى أصقاع الأقطاب المتجمدة.

لطالما أغوت صناع، السينما وعلى رأسهم مايك نيكولز مخرج فيلم “الذئب” (1994) لبطله جاك نيكلسون، وكتاب الروايات وعلى رأسها رواية “هاري بوتر” وتحديدا شخصية “ريموس لوبين” في الجزء الثالث من السلسلة.

بطلة فيلم “ذات الرداء الأحمر” فاليري، تعيش مع عائلتها في بلدة على أطراف الغابة حلت عليها لعنة الرجل الذئب، “أبيها” ثم “زوجها” لتبدأ التدرجات المشهدية الباردة بحبك ثلة من الصراعات الخشنة والمطاطة، الخالية من لزوم ما يلزم من الشحنات العاطفية والتعبيرية المقنعة، حتى في أوج حاجة النص إلى دهشة أدائية تنقذه من الخواء اللغوي، لم يجد كلمة سر واحدة تعينه على منطقة العقدة الحكائية وتشويق المشاهد للقطة الانفراج الحاسمة.

أما أن يصنف الفيلم في خانة أفلام الرعب الرومانسي، فإن في هذا انحدار آخر للتصنيف، لأن الناقد السينمائي والصحافي الأمريكي المرموق “روجر إيبرت” لم ير فيه سوى تقاطعا مسفا مع المعادلة السينمائية لفيلم “الشفق” (2008)، حيث تعشق فتاة ما رجلا مذؤوبا وترتدي طوال الفيلم رداء أحمرا دون أن تترجم عنوان الأسطورة فعليا.

لا، بل إن تهكمه من تصنيف الفيلم جعله يرى فيه عملا أقرب إلى إثارة الضحك منه إلى إثارة الرعب، لدرجة أنه رشح فرقة “مونثي بيثون” البريطانية الكوميدية لتولي هذا العمل، لأنها كانت ستكون أكثر جدارة بإصباغ النكهة الكوميدية عليه من أبطاله الذين خرجوا من دائرة التصنيفين، إلى مجال سينمائي فالت من النطاق المغناطيسي المحايد، مما يضعك كمشاهد أمام صدمتين “صدمة المقدمة والنهاية”، ليغدو العمل مجرد فقاعة هوليوودية لا أكثر! أضف إلى هذا ما حل على الفيلم من لعنات المواقع الإلكترونية التقييمية، فموقع “الطماطم الفاسدة” منحه نسبة عشرة بالمئة، بنما منحه موقع “ميتاكريتيك” علامة تسعة وعشرين من مئة، ولم تتوانَ اللعنات النقدية في الصحف والمجلات المختصة عن رجم هذه الفقاعة التي أخقت باستمالتها، فال “USA TODAY”اعتبرت أن القصة تشي بالحمق من حيث المبالغة في الأداء وعدم التمكن من القبض على الأدوار بشكل محكم، عدا عن مجلة التايمز التي صنفته كأحد أكثر عشرة أفلام سوءا تم إنتاجها عام 2011، خاصة أن صناع الفيلم ذيلوا المشهد النهائي له، ليتم تحميله اختياريا، مما يعد فشلا مضافا إلى كل تلك القائمة السوداء من الإخفاقات! الذئاب البشرية والسينمائية عليك إذن أن تكمم عينيك وأنت تشاهد فيلما عن الذئاب، لا لشيء إنما لتقي الأسطورة لعنة النظر إلى عيون من حجر، لا تقوى على التبصر حين تستبد متعةُ البصر! ولكنك حين تشاهد روائع الأعمال السينمائية، ستترك ما تراه جانبا، طالما أن ما تراه يظل طيّ المخيلة، وهو أشد فتنة وأعمق تأثيرا، لأن المجال البصري لا يحدد وحده نوعية المشهد بقدر ما يشكل بوصلة ماورائية للتنبؤ بما ظهر أكثر مما بطن منه! عد إلى عهد البورصة المفتوحة وإنعاش هوليوود للدماء الحية في الحكايا السينمائية لترى كيف تحفظ الروائع في سجل توثيق الأفلام العالمية في مكتبة الكونغرس الأمريكية، في حين يتم إسقاط النصوص المبتذلة في قوائم العار، لتستشعر الفارق بين زمنين، يستثمر الأول فيهما الذئب كبطل في العمل السينمائي وليس ككومبارس، تماما كما حدث في فيلم “يرقص مع الذئاب” (1990) لكيفن كوستنر، الذي استغرق تحضيره للعمل خمسة أعوام قضاها بين إتمام الاستعدادات والاستعانة بمربي الثيران، علما بأنه أدى لقطات الصيد بنفسه، وبين انتظار الكاتب “مايكل بلاك” ليحول النص إلى رواية، بتكلفة تقارب التسعة عشر مليون دولار بينما الإيرادات قاربت النصف مليار، يعني أضعافا مضاعفة من إيرات “ذات الرداء الأحمر” التي لم تصل إلى تسعين مليونا.
حصد فيلمه سبع جوائز عالمية، بينما لم يحصد ذئب الشقراء (أماندا) أية جائزة، حيث خلا من المضمون الإنساني والرمزي والأخلاقي أو حتى الإسقاط التاريخي في استحضار الذئب كشخصية خرافية، لكن ذئاب كوستنر تمتعت بفروسية استثنائية على صعيد القيمة الأخلاقية، فكوستنر الأمريكي أدان الرجل الأبيض، وانحاز للضحية “الهنود الحمر” خط وثيقة سينمائية تدين التاريخ وتتبرأ من جريمة رجل الكاوبوي، وتعتنق الرقص مع الذئاب بعيدا عن أصوات الرصاص وفوهات البارود ووحشية الجنود.

إنها ألفة الذئاب التي تخلق حوارا حركيا بين جسدين يستبسلان بالرقص كلغة أليفة ومشتركة بين الكائنات الحية، في حين أن الذئاب البشرية لا تعرف لغة سوى النهش والدربكة على جثث الفريسة، وشتان بين الرقصين! إنها سينما المعنى، سينما الرموز المشحونة بالإسقاطات التاريخية، والانزياحات الإبداعية الراقية، التي جاء الذئب البريطاني جاك نيكلسون بعدها بأربع سنوات في رائعته الذئبية، ليستدل بأنف الذئب على سرير الخيانة في جسد زوجته، وهو بعد فني يحمل دلالات اجتماعية عميقة، يستعين بها الإنسان بالحيوان ليستدل على الانحطاط الأخلاقي في العلاقات الإنسانية ومدى التفكك غير المرئي بخيوط نسيجها الهش، ورغم النقد الهائل الذي تعرض له كاتب السيناريو لما فيه من مغالطات، إلا أن الأداء البارع للذئب نجح باستدراجك ـ ولو آنيا ـ للاقتناع بالخطأ والاندماج معه.

الآن يعتزل نيكلسون لأنه لم يجد ذئبا حقيقيا يليق بعوائه في تغريبة الذئاب السينمائية المعاصرة التي تبدى فيها الحس العنصري لأصحاب الدم الأزرق باختيار شقراء الغابة لتكون عشيقة لذئب الشمال الأبيض، في إعادة أسطرة للخرافة من منظور سينمائي متحيز، وشتان بين الأبيضين! لقد رقص زوربا كذئب، ومن دون وعي منك كقارئ سمعت لغة تعوي بين السطور، وحين رقص كيفن كوستنر مع الذئاب الهندية، خض دمك كمشاهد حتى لتكاد تعوي وأنت في ذروة انتشائك، بل وربما تتحول إلى ذئب قبيل اكتمال القمر! إنها لغة، عضها ذئب بدوي، فأصابته بلعنتها: قلبي معك يا ذيب يا موالف القمرة سامع نداك يجيب ياحرقة النبره ليلي إِنِتْ يا الذيب وجهك نصف بدره داخل عليك طْنيب مثلك بألف زمره قطعانها الْما تْهيب عثرة بقدم عثره لَاعْوي عليك نْحيب يا قهرة القهره وأنصب قليبي صْليب بجهنم الحمره ويلي هويت الذيب تاري الهوى غدره.

* الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *