كريستيان غازي: أنا غيبوبة هذا العالم


*أحمد فرحات


كريستيان غازي (1934 ـ 2013) أحد أقوى الأصوات الشعرية الفرنكوفونية في لبنان والعالم الفرنكوفوني بأسره، لا لشيء إلا لأنه يضع أنموذجاً إبداعياً في نفسه، يقيس خلاله أناه الشعرية، نتاجاً وتقويماً، بمعزل عن تعالي صنمية المقاييس النقدية الغربية السائدة للشعر والشعراء و«الشعريات الطليعية».
.
وكذلك بمعزل عن دنيا فلسفة التنظيرات الأدبية المستجدة، بخاصة منها، تنظيرات جماعة «ما بعد الحداثة»، وميلهم الطاغي إلى اجتراح صيغ تصورات «تقويمية» للنص الشعري، تقوم على الشامل التوليفي الفوضوي الحرّ.
.
رؤية وتعيين تجاذبات وخلاصات.
ويرى في ذلك دعوة إلى انغلاق نظامي «كلاسيكي جديد» للنقد، يصارع استبطاناته بذاتها إلى ما لا نهاية، حتى في النص الشعري الواحد موضوع التناول.
وإذا كانت «ما بعد الحداثة»، تعني في بعض ما تعنيه، تحطيم كل المقولات المركزية في الغرب، بدءاً من العقل، والهوية والحقائق العليا المسمطة، والأنموذج المعياري، وانتهاء بالثوابت «الميتافيزيقية»، والتقدم الخطي الارتقائي، وتكذيب السرديات الكبرى على أنواعها، فإن الشاعر كريستيان غازي لا يأبه بكل هذه التصنيفات، لأنه يعتبر نفسه، مُحقّقا لكتابة الاختلاف والتجاوز، وكسر الأنساق المتداولة في الشعر، قبل زمن الحداثة، وزمن ما بعد الحداثة، خصوصاً في ديوانه الشعري الطويل باللغة الفرنسية (300 صفحة): «دفاتر السلام» carnets de paix.
كما كان أصدر من قبل ثلاثة دواوين شعرية بالفرنسية تحت عنوان بسيط التركيبة: «1,2.
3».
ويعلق الشاعر المغربي الفرنكوفوني الكبير محمد خير الدين بعدما قرأ «دفاتر السلام» لكريستيان غازي: «اجتاحني هذا الشاعر بسرديته الشعرية الاستثنائية، خصوصاً لجهة معادلة دمجه الغرائبي، بين السؤال الوجودي من جهة، ووقائع حركة التغيير على الأرض من جهة ثانية، ومنح الشعر، بالتالي، ما يلزمه من تواصل إضماري جوهري، يكفل وصوله إلى الامتلاء الإنساني التام.
كريستيان غازي شاعر من الطراز الأول، بل هو الشاعر الأول الذي يتقدم صفوف بانوراما شعراء الفرنكوفونية في العالم.
مخيلته دائمة الاندلاع.
ينصهر باللب، ليتقن بعد ذلك تفجير حدس المكبوت الشعري فيه».
ومن الأهمية الإشارة إلى أن الشاعر كريستيان غازي هو سينمائي كبير أيضاً، ويُصنّف كواحد من روّاد السينما اللبنانية المؤسسين، وقد أنتج أكثر من 43 فيلما روائياً وتسجيلياً، نال أحدها، فيلم: «مئة وجه ليوم واحد»، جائزة مهرجان السينما البديلة في دمشق عام 1972.
لكن هذه الأفلام كلها، أتلفت وأحرقت في الحرب الأهلية اللبنانية، باستثناء نسخة الفيلم الفائز بالجائزة، لأنها موجودة خارج لبنان.
قليلة جداً هي اللقاءات أو الحوارات الصحفية التي كان أجراها الشاعر كريستيان غازي.
وكان آخرها هذا اللقاء غير المنشور معه، وقد أجريته شخصياً، قبل رحيله في 11 ديسمبر 2013 بشهرين، وذلك بعدما اتصل بي شاكياً تعرّضه لعملية قرصنة من دار نشر أميركية هي ixlibriss نشرت مجموعته الشعرية الضخمة: «دفاتر السلام» مترجمة إلى الإنجليزية، ولم تعترف له بحقوقه، حيث «لطش» هذه الحقوق شخص آخر، ادّعى زوراً، وعبر وثيقة مزورة، أنه مكلف من الشاعر كريستيان غازي بالإشراف على الترجمة، وحصر حقوقها المادية فيه فقط.
.
.
ثم كانت النتيجة أن القرصان ذهب بالدفعة الأولى الدسمة من الأموال.
.
ولم يعد.
===========
في ما يلي تفاصيل الحوار المطوّل مع شاعرنا الكبير، وقد بدأته بسؤال حول أسباب إحجامه عن كتابة الشعر، هو الشاعر الفرنكوفوني الذي يحسب له حساب كبير في بانوراما المشهد الشعري الفرنكوفوني العام، فأجاب:
لم أتوقف عن دراما الممارسة الشعرية، أو الألم الشعري، فتلك مسألة لا أملك أن أخمد نيرانها فيّ البتة.
ربما اقتصر التوقف هنا، (أو على الأصح التأجيل) على تسجيل القصائد على الورق، ومن ثمّ طبعها ونشرها فقط.
.
نعم هذا صحيح.
أما لماذا؟ فلأنني ضجرت من هذا الاستعراض الكتابي «لأجل الخلود».
باتت اللعبة مملة، سمجة يا صاحبي، ولا طائل منها البتة.
* وكيف سيتابعك القراء؟ كيف ستعاين تطور تجربتك الشعرية في إطار تمرحلها الفني والإبداعي مع الأيام، والذي لا يتولاه أحد غيرك؟
** أظن أن صوغ أي معمارية شعرية جديدة، أو مغايرة لما سبقها، يظل مسألة لا يفرضها إلا الألم الشعري نفسه.
.
يفرضها عليّ، وعليك، وعلى الورق، وعلى النقد، وعلى التقويم، وحتى على التاريخ كله.
المهم هنا، كشاعر، أن تغادر ملكوت الأشياء المعلبة فيك، وفي النقد الممنهج التقليدي إياه، سواء بسواء.
* ماذا تقصد بالألم الشعري، بخاصة أنه يظلّ متغوّراً فيك حسبما تشير؟.
** الألم الشعري هو الوعي العميق بالعالم وعذاباته، من خلال عذابات الذات فيه، والمتأتية عن مواجهتها الكاسرة والحقيقية للظلم، أي ظلم.
.
سياسياً كان، أم وجودياً.
والظلم السياسي هو الأخطر دوماً، لأنه هو الذي يتسبب، غالباً، في ما يلحق من مظالم.
* ألهذا السبب ظللت راديكالياً بالمعنى السياسي، وتريد تغيير العالم على «الطريقة الغيفارية»؟
** وهل تراجعت السياسات الظالمة عن ظلمها في العالم، حتى أتراجع أنا وأمثالي ممن يسمونهم «بالتركة الثورية الأثرية»، عن قناعاتنا؟!.
.
على العكس، ازداد جبروت المتحكمين بالعالم جبروتاً وتوحشاً «ملحمياً».
.
قل لي مثلاً: هل حُلّت مشكلة الفلسطيني المقتلع من أرضه وهويته الإنسانية، أم ازدادت تعقّداً وانغلاقاً وإمعاناً في ممارسات الاجتثاث؟! ومن هنا أنا باق على قناعاتي، ثابت فيها، وإن ظلّ هذا الزمن يبيدنا كل يوم، من خلال إبادة الآخر لنا.
* يبدو أنك تحوّلت إلى دونكيخوت آخر، لا يقاتل طواحين الهواء هذه المرة فقط، بل الهواء نفسه؟!
** هذا توصيف جارح، لم أكن أتوقعه منك، أنت الأكثر تفهّماً لي، ولاغترابي بين جميع الأصدقاء.
* مهلاً.
.
مهلاً يا كريستيان.
.
ماذا دهاك؟ هل تتصور «دون كيخوت»، بطل رواية «دون كيخوتي دي لا مانتشا» لميغيل سرفانتس، شخصية خيالية يُستهان بها، أو هي مادة للسخرية والتحقير؟.
.
على العكس، هذه الشخصية هي عنوان للفروسية النبيلة والتفرّد المتمرد.
.
«دون كيخوت» هو أنت أيضاً فارس الظل الحزين.
.
** كلٌ يفهم شخصية «دون كيخوت» من زاويته، وأنت، بالتأكيد لا تفهمها على طريقة الهواة الهازلين من أنصاف القراء والمثقفين.
أقدّر لك ذلك.
وعلى أي حال، وعلى الرغم من واقعيتي الشديدة، فإنني لا أزال أرى، كشاعر أيضاً، أن الإنسان ليس كائناً عقلانياً تماماً، بل إن سلوكه ينطوي على جوانب لا عقلانية أساسية، ومن ثمّ، فإنه لا يستطيع أن يعي مصالح البشر، ويُخلص لهم تمام الإخلاص، إلا المبدعون من الثوريون، الذين يرفضون، وباستمرار، السياسة التي تقول لا بأس بالغدر والكذب والوقيعة، إذا كانت هي طريق النجاح.
.
لا أسلّم أنا بذلك البتة، وسأظل نقياً، طهرانياً، يتعلم فن أن يكون إنساناً، مهما كلفني ذلك من تضحيات.
.
سأظل أصارع أحلامي ومثالياتي على طريقة دون كيخوت، بتفسيرك أنت، كل يوم، وحتى الغيبوبة إن شئت.
.
أنا يا صديقي غيبوبة هذا العالم الآن، لكنها الغيبوبة الواعية، الغيبوبة العقلانية، الغيبوبة الثورية، التي ترى أن تمجيد العقل في الثورات، هو دوماً من تمجيد القلب.
.
وبالعكس.
زمن التضليل الكوني
* ولكن الثورة هي اللايقين اليوم.
.
كما يقول «جان بودريارد»، وذلك رداً على ما صنعه كل من العلم والتقنية في العالم كله، إذ حوّلاه إلى وهم، وإن ظل يتحرك هذا الوهم ويتمرأى.
.
ما تعليقك؟
** الفيلسوف «بودريارد» يتكلم من واقع مجتمعه الفرنسي الزاخر بالمشكلات المترفة بالنسبة إلينا، نحن الذين نعاني أصلاً من مشكلة وجود بشري فيزيائي مباشر.
.
ألا تراهم، مثلاً، كيف حوّلوا بلداننا إلى خراب مقيم؟ كيف جعلوا من إنساننا وحشاً غرائزياً يأكل نفسه حين يأكل الآخر من حوله؟.
نحن لسنا أكثر من كتل بشرية هائمة على وجوهها اليوم، يراقصنا ركام الحروب الأهلية ونراقصه، وأخشى ما أخشاه أن يأتي يوم في بلادنا المنكوبة، لا نجد فيه، حتى من يوارينا الثرى.
بتنا نحلم الآن فقط.
.
أجل نحلم، في أن نتجاوز مرحلة هذا الدم الأهلي المستفظع الواحد، وتحدثني بعد عن «بودريارد» وهمومه.
.
قال كذا واستنتج كذا؟!!.
* وماذا تطلب من «آلان باديو»، و«ريجيس دوبريه»، و« أوليفييه روا»، و«باسكال بونيفاس»، و«جان كلود ريمي» وغيرهم.
.
وغيرهم من فلاسفة وكتّاب فرنسيين يُظهرون حباً للعرب، وتضامناً مع قضاياهم المستعصية والمزمنة؟
** وماذا ينفع حبهم وتضامنهم معنا؟! هل يحرّك ساكناً في فرنسا وأوروبا والغرب كله؟ هل يضغط على سياسات ظالمة بعينها، ويهدّد مرجعياتها، حتى ولو برفع كليشيه حقوق الإنسان ضدها؟.
العالم تغيّر يا صديقي، نحن لسنا في زمن «فرانز فانون» و«ناظم حكمت» ويانيس ريتسوس» و«بابلو نيرودا».
بات الغرب الديمقراطي، بالنسبة إليّ، مجرد مصطلح عبثي وخادع.
عزلته منه في سباق مع نفسها.
إنه غرب ثقافي وسوسيولوجي من نوع مفزع الآن، لاهث في ضياعه بضياعه عن فلسفة تضامن إنساني جدّي، كان أسلافه يجترحونها كل يوم، بل كل دقيقة.
يبدو أن هذا الغرب «الجديد»، غرب المناورات المرآوية السبّرانية بخلفية وحشية، وإرادة عمياء، بات يطبّق مقولة «سوفوكل»: «إن جمال الحياة في عدم التفكير في شيء».
* وكيف نتصدّى للوحش التكنولوجي على أهميته القصوى؟.
.
وسؤالي هذا هو الجزء غير الخفي من سؤالي السابق المقتطع من مقولة «بودريارد»؟
** التصدي يكون بـ«وحش» تكنولوجي إيجابي آخر.
بعدم خداع العقل العلمي الحديث نفسه بحياديّة منهجه، والكفّ عن أن يكون مجرد غطاء استخذاء للعقل السياسي، أو باختراع وسائل معرفية مضادة للمعرفة السائدة، التي تُنظّر لـ«وحش العلم» كيفما اتفق، غير آبهة بالنتائج، التي قد تقلب الأمور الإيجابية فيه إلى عكسها الكارثي.
ألم يقل آينشتاين «إن التقدم العلمي مثل فأس في يد مجرم»؟!.
* كلامك شبيه تقريباً بما يردده «جياني فايتمو» أحد رموز الحداثة المابعدية.
.
فهو يرى أن التكنولوجيا لم تعد علماً، بل سياسة مرعبة من شدة فتكها، ومن شدة الحاجة إليها في آن معاً.
.
يا للغرابة، أليس كذلك؟
** ربما.
.
يستطيع مجتمع ما بعد الإيديولوجيات أن يسمي نفسه بـ«مجتمع الشفافية المطلقة»، لكنه سيظل ينتج وحشه، أو سلطان عنفه العاري ليأكل بلداننا، ثم ليلتف، بعد أن يتقيأنا، ليأكل بلدانه نفسها.
باختصار، نحن في زمن التضليل الكوني، زمن ألاعيب «السراب» التكنولوجي، الذي يئد العقول والثروات، في الوقت الذي يتصور فيه نفسه، تماماً، أنه يخدمهما كتجل إبداعي لهما.
* على الرغم من وضوح موقفك السياسي وواقعيته الصارخة، نلحظ أن نصك الشعري، يظل يفصح عن عدميّة منقطعة النظير.
.
ما تعليقك؟
** أرفض أن يكون الشعر خلواً من التفكّر العميق أوالتفلسف البعيد إن شئت.
.
ولكنه التفلسف الصادق المعاناة.
.
المشبوك طبعاً، بمعمار فني مشحون بالتجربة، والطبع العفوي، ودوام النظرة التفصيلية إلى الحياة.
لذلك تراني، شعرياً، وعلى المقلب الآخر، أفكر بإحساسي ودمي، وأتأمل بعصبي الحي والحار.
.
وأتأرجح دوماً، شاكاّ، حتى بوجودي كله، أمام قوى اليقين والجذب.
* كشاعر حر من كل شيء، هل أنت حر أيضاً من أن تكون رهينة للشعر وألم الشعرية؟
** يمنحني الشعر بالتأكيد حرية ألاّ أكون رهينته، حتى وإن كنت قامة هذه الرهينة بعينها.
كما يمنحني أن أكون حراً في تعاطي ومداولات هذا الزمن، وغيره.
.
طرداً وعكساً، أفقياً وعمودياً، ماضياً وحاضراً، مستقبلاً وما بعد مستقبل.
فحيناً تراني أقاتل، من خلال الشعر، لمصلحة عودة الحقبات الوثنية، وأحياناً أقاتل، من خلاله، للسفر في آت قد لا يطلّ أبداً.
فيلسوف الحياة السعيدة
* يبدو لي أنك تتمنى أن تكون صنو الشاعر الأبيقوري: «لوكريس»، الذي انخطف كلياً بمذهب معلّمه أبيقور، وخصّص موجزاً وافياً عن الأبيقورية في كتابه الشهير: «طبيعة الأشياء»؟
** لست أبيقورياً، ولا أنا على الضد من الأبيقوريين.
غير أني أحب الشاعر «لوكريس»، لأنه كتب ذات يوم قصيدة قصيرة تقول: «رويداً.
.
رويداً على دواخلكم/ هذبّوها بالشعر/ بالآلهة المتُسامحة/ بالسياسة العادلة العظيمة التي يهرب/ قائدها من سلطان الشهرة فيها/ هذّبوا دواخلكم بالسلام المتجدد/ لدقات قلوب الفلاحين/ وهم يغطّون بنوم هانئ/ بعد طول حراثة».
على أنني هنا وجواباً عن سؤالك، أحب أن أؤكد، أن لا شاعر عظيماً في حقيقته يشبه شاعراً عظيماً آخر، حتى وإن تأثر ذلكم الشاعر العظيم اللاحق، بذلكم الشاعر العظيم السابق.
هنا، لست بالتأكيد ألمّح إلى أنني شاعر عظيم، وإن كانت لا ترهبني العظمة، حتى في الإبداع، وإنما تراني أتكلم عن عظمة أي شاعر (خصوصاً من أولئك المجهولين في الماضي والحاضر) يستسلم بنباهة لمسار الحياة، ويدعها تمر من خلال شبكة أحاسيسه وهو يقظان، أو وهو متوحد مع صمته وجهاً لوجه.
التضامن مع المجهولين
* تتحدث عن الشعراء المجهولين، ماضياً وحاضراً، بشيء من الانحياز الإيجابي، أو النبرة المتضامنة معهم.
.
هل تتوسع في هذا الأمر؟
** ثمة شعراء مجهولون كبار لدى كل الأمم، تفوق أهميتهم ربما أهمية كل الشعراء المطروحين في الضوء لدى كل الأمم، خصوصاً أن بعضهم كان يهرب من الإعلام استنكاراً، أو لم يُرده مسبّقاً، أو كان يرفض أن يبتذل نفسه أمامه، أو كان على الضد من نقاد الشعر، والمدارس الشعرية بتصنيفاتها، خصوصاً أن كثيراً من النقاد، كان ولا يزال، يتحرك بأجندة بلهاء، تنطلق من أبعاد سياسية ودعائية خفية على اختلافها، أو يصدر عن حكم قيمة يحرّكه المزاج والحقد والغيرة والمرض والفشل.
.
.
إلخ.
ألم يقل «جيوم أبولينير» ذات يوم: «إن الناقد شاعر فاشل»؟! هكذا من واجبنا إذاً، قرّاءً ونقاداً، وحتى فضوليين، أن نبحث عن نصوص أولئك الشعراء الكبار المجهولين، وسيرهم الشخصية، ونقدمهم في لحظة امتلاء وتناغم بالضوء، حتى لا يبقى الضوء حكراً على غيرهم.
.
.
آن للشعراء المجهولين أن ينتصروا، وينتزعوا حقوقهم، عبر الآخرين المنصفين، نقداً وتقويماً.
* هل من أمثلة، يا صديقي، على ما تذهب إليه هنا، على الأقل في العالم الفرنكوفوني؟ هل من أسماء لشعراء مجهولين متفوقين على غيرهم، خصوصاً ممن «يطنطن»« بهم الإعلام ليل نهار؟
** في الحقيقة أنا لا أتكلم اعتباطاً هنا، أو عن عدم دراية، ولو بالحد الأدنى.
ففي حدود اهتمامي بالشعر والشعراء، الذين يكتبون باللغة الفرنسية، في فرنسا، كما في سائر البلدان الفرنكوفونية، باستطاعتي أن أذكر لك أسماء شعرية مجهولة بالغة الأهمية (منذ الأربعينيات وإلى اليوم) مثل: «أندريه لود»، و«دانييل بيغا»، و«جان بيار دوبري»، .
.
وغيرهم.
.
وغيرهم.
وحتى على مستوى الأسماء الشعرية السريالية، التي انطلقت بقوة في فرنسا الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، ثمة أسماء شعرية سريالية في رأيي، تتقدم على تلك الأسماء، التي ما انفك الإعلام يصدّع رؤوسنا بها حتى اللحظة مثل: جورج أونيي، مارك باتان، ساران سندريان، كلود تارنو، جون دومينيك، بيار جورج غارامس، دانيال نوريه، مونيك دي لابلاس، وديدييه فاران وغيرهم .
.
وغيرهم.
عفريت أنتونان آرتو
* كشاعر فرنكوفوني، أداته اللغة الفرنسية، بما هي مناخ ثقافي سوسيولوجي وسياسي تداولي، ألا تشعر أحياناً بأنك تحولت إلى كائن فرنسي صرف.
.
أو على الأقل، إلى كائن متماه بهوية هذا الآخر الفرنسي؟.
** اللغة، والشعر جوهرها، أداة تحرر بيد وعقل وقلب الشاعر الحقيقي، لا بيد الشويعر المرتعش، أو «الخواطرجي» المتسلق على هزاله.
وأعتقد، بتواضع، أنني من الذين حوّلوا اللغة الفرنسية فيهم إلى مجرد أداة تحرر، ولم أسمح لها البتة بأن تُشكّلني كهوية.
وهنا أريد أن أعترف لك بأن الذي ساعدني على التخلص من ضغط الفرنسية (في الشعر أو غيره) هو أنتونان آرتو، هذا المسرحي والشاعر والعفريت الرائع، خصوصاً بعد قراءتي لنصوصه المنصبّة حول هنود التاراهوماراس في المكسيك.
فمعروف عن آرتو، أنه كان ارتحل إلى المكسيك في عام 1936، وبقي فيها أشهراً عدة يلقي المحاضرات، ويدبّج المقالات الصحفية.
وقد انبهر بهنود التاراهوماراس، وتعلم منهم الحرية، وقوة تحدي الأشياء، سواء من داخل الذات أم من خارجها.
لقد تحوّلت الفرنسية على يديه في المكسيك إلى مجرد أداة تحرر.
.
إلى لغة حيادية، على الرغم من أنه هو أبو اللغة الفرنسية وأمها، وعفريت المشتغلين بها، إبداعاً وهوية حضارية خصوصية.
* ماذا علّمتك هذه الكتابات يا ترى؟
** أن أكون صاحب تجربة إنسانية في المجتمعات الأخرى البعيدة حتى الرمق الأخير.
تجربة نابضة بالبراءة والنزاهة، وعبادة الطيّب/ المتوحش.
كما تعلمت أن أي جهة قوية في العالم، مهما بلغ شأو جبروتها، لا تستطيع أن تجرف الثقافات القومية التي تتصور أنها جارفة لها.
* كيف هي علاقتك بالنقد الحديث وفي التنظير للحداثة وما بعد الحداثة؟
** لا أكترث للتنظيرات النقدية بوجهيها التقليدي والحديث، وأنا من القائلين بأن الشعراء هم أفضل النقاد لتجاربهم، وتجارب غيرهم، خصوصاً في المراحل الأدبية التاريخية الفاصلة.
لذلك، كنت سبّاقاً على غيري من شعراء الفرنكوفونية في كسر كل الأشكال والأنساق الكتابية السائدة، التي تنتمي إلى مرحلة الحداثة، وكذلك إلى مرحلة ما بعد الحداثة، والتي لا أراها حالة مفارقة عن سابقتها.
* الحداثة كسرت كل القيم والمعايير النقدية في النص الأدبي، وكذلك في «النص المجتمعي»، ومثلها فعلت نظريات ما بعد الحداثة، إنما ببروغندا أكثر صخباً وقوة، بخاصة لناحية تكريس «فوضى التحرر» من قيود التمركز، أو التمترس في الأفكار الكبرى، والتشكيك بالعقل، وضرب اليقينيات، وتكذيب السرديات الكبرى، والقطع معها، لكن ما بعد الحداثة تظل هي الحداثة نفسها، على حد تعبير الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، وأنا معه في هذا الاستنتاج.
كريستيان السينمائي
* أخرجت ما قوامه 43 فيلماً سينمائياً، ما بين روائي وتسجيلي ووثائقي، ومع ذلك قامرت بهذا الرصيد الفني، فضاع كله وكأن شيئاً لم يكن؟ فلماذا هذا التفريط، أو هذا الإهمال، يا كريستيان؟
** أنت تعرف قصة حرق أفلامي من طرف الميليشيات المتقاتلة زمن الحرب الأهلية اللبنانية المشؤومة، فهم دخلوا منزلي وأحرقوا كل مكتبتي السينمائية، باستثناء فيلم واحد لم يتمكنوا منه، هو فيلم «مائة يوم لوجه واحد»، والسبب احتفاظ «المؤسسة العامة للسينما» في دمشق بالنسخة الوحيدة منه، بداعي فوز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم في «مهرجان السينما البديلة» في دمشق عام 1972.
* وهل يُعقل أن تحتفظ بكل نيغاتيفات أفلامك في منزلك، حتى يأتي البرابرة ويحرقوها؟
** وأين تريدني أن أحتفظ بها؟ في وزارة الإعلام، حيث أحرقت محتوياتها هي الأخرى في الحرب؟! في وزارة الدفاع الوطني، والجيش وقتها في وضع مربك لا يُحسد عليه؟! في المتحف الوطني اللبناني، والآثار المهمة فيه نهبت وبيعت في مزادات الخارج؟! في دار الكتب الوطنية، وقد عبث العابثون بموجوداتها، لولا أن أنقذ موظفون مستنيرون مخطوطات ثمينة كثيرة منها؟!.
.
أنت تعرف بيروت والفوضى التي كانت سائدة فيها في عام 1983، وما سبقها.
.
وما لحقها أيضاً.
* وكيف حدث أنك لم تطبع نسخاً عدة من كل فيلم من أفلامك؟ ما الذي حال دون ذلك؟
العين بصيرة واليد قصيرة يا صديقي.
.
.
أرجوك!! فلنعبر عن هذا الموضوع رجاء؟ إنه يدمي منّي العقل والقلب.
.
ثم إن البلد كله احترق، و«منيح اللي بقينا طيبين».
* ما الفارق عندك بين الفيلم والقصيدة؟
** شعورياً، الدافع وراء تسجيل قصيدة، يكاد يكون هو نفسه الدافع وراء تسجيل أو إعداد اللقطة السينمائية.
صحيح أن ثمة اختلافاً بين الأداتين أو التعبيرين، لكن زاوية النظر تظل واحدة، والهدف يظل واحداً ألا وهو: تحقيق الشعرية بتأثيرها المتنامي عبر الزمن.
* هل شاهدت فيلم «درس البيانو» لجين كامبيون.
إنه فيلم شعري هائل، يؤثر في فهمنا للواقع ولعملية التخييل نفسها فيه.
.
إنه ثورة في الخيال على الخيال التقليدي، وغير التقليدي نفسه يا كريستيان.
.
ألم تلحظ ذلك؟
** بلى شاهدته.
إنه فيلم رائع، بخاصة لجهة أن الشعرية فيه تتراجع داخل نظام نفسها، مستنطقة إشارات لا يمكن إلاّ أن يلتقطها المشاهد، ويتأثر بها عميقاً، وخصوصاً لجهة ما تبثّ فيه من حيوية مساعدة على فهم المتغيرات الزمانية والمكانية.
ومن هنا أنا أركّز على وعي المُشاهد وذوقه وثقافته وفهمه وانخراطه في نسيج العمل الفيلمي.
فالسينما تظل هي المشاهد المتميز، تماماً كما القصيدة تظل تتجلى في قارئها المتميز المبدع، إذ القراءة عملية إبداع موازية لإنشاء النص.
* كامبيون أخرجت أفلاماً روائية رائعة، ومحبوكة التوليف الفيلمي الجامع، من حيث المقروء، والمُشاهد، والمتحرك والمتلوّن، اختيرت جين كامبيو لترؤس لجنة التحكيم في مهرجان «كان» الشهير.
.
.
وقبل أن أستطرد في سؤالي، أجاب كريستيان بطريقة مستنكرة وغاضبة:
** أكره تظاهرات أفلام «كان»، ولجان التحكيم فيها، وجوائزها المعدّة بتذاك كبير.
إنها «همروجة» دعائية تسويقية يا صاحبي مفضوح أمرها لكل ذي لبّ.
ومهمتها طمس باقي الأفلام الرائعة التي ينبغي أن تُشاهد، في عموم بلدان الغرب نفسه، كما في باقي أرجاء العالم.
ولا أريد لـ«جين كامبيون» أن تكون استعراضية، خصوصاً هذه المرة من بوابة «كان» الفرنسية.
.
على طريقة سلفها الأميركي «ستيفن سبيلبرج»، الذي يقدم الضخامة، ضخامة جبل الإنتاج، على حساب فأرة الإبداع.
لا أحب لـ«جين» أن تصير حالة استهلاكية بغيضة في بازارات السينما والتسويق التجاري البشع لها.
لا أحب لها أن تصير ضحية الكارتيلات المالية، وبهرجة إعلامها الذي لا يمكن أن يقدم البتة، ثقافة صحيحة وإنسانية.
ليت جين كامبيون تعود إلى نيوزيلندا، وتنتج لنا مزيداً من الأفلام الشعرية الرائعة، وتبتعد، بالتالي، عن وباء هذا الاستعراض السنوي الممل في «كان».
* دائماً تحشر السياسة، أو رائحتها، في حكمك على التجارب الفنية.
.
ثم إن المخرج الأميركي ستيفن سبيلبرج، عزّز بأفلامه الاستعراضية الضخمة اتجاهاً جديداً في السينما العالمية.
.
** سبيلبرج مخرج الإيرادات المالية وليس السينمائية.
جيء به ليدمر السينما، كفن ورسالة، في العالم.
انظر إلى أفلامه التي يكتب هو السيناريو لها، وينتجها أيضاً، مثل «كائن من الفضاء الخارجي»، أو «إي تي»، أو «ميونيخ»، أو «إنقاذ الجندي رايان».
.
إلخ.
كلها أفلام استعراضية، خلبية، سطحية، يستهدف بعضها، وبقوة، خدمة المصالح الصهيونية.
كما أن سبيلبرج نفسه يعتبر أن مقياس نجاح الفيلم، يبدأ من شباك التذاكر وينتهي به.
جاءت به السينما الأميركية لتضرب سينما المخرجين الكبار في أوروبا والعالم غير الأميركي: سينما «فيلليني» و«فيسكونتي»، و«بازوليني» و«أكيرو كوروساوا» و«جان لوك غودار» وغيرهم.
.
وغيرهم.
ثم أنت تعرف أن هذا المخرج سياسي وعدائي فظ للشعوب وحرياتها.
تصور أن شركة له هي «مؤسسة رايتيوس بيرسون» تتبرع لإسرائيل بملايين الدولارات سنوياً، لتقتل شعبنا الفلسطيني، وتبيد أطفاله، وتزرع المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية والقدس.
هو مخرج أقل بكثير من عادي في السينما، وشروط إبداعها العظيم.
.
ويحق لي، على كل حال، أن أحاكمه في الفن، كما في السياسة وأخلاقها.
فالفن سياسة، بل سياسة بامتياز.
والسياسة عندي تتلخص في الإنسانيات.
.
والإنسانيات لا تموت.
إنها وجودنا الواعي، الذي يجب أن ندافع عنه، ولا نترك للآخرين تعهيره، وتعهير الحياة برمتها من ورائه.
=============
للثورة أيضاً ضجرها المتكرر
==========
شعر: كريستيان غازي
ترجمة: أحمد فرحات الياس شاكر
==========
جيرونيمو الشرق
=====
ما عاد رأسك يسطع بالرؤية
بسرعة حجر الفلسفة الأحمر انطفأ فيك
وتقيّأت نفسها بنفسها الفراغات من حولك
جيرو نيمو.
.
أين هي روحك الآن؟
ينبغي أن أراها فوق مدار رأسك المسفوح
ينبغي أن أشرب معها نبع الأوقات الآفلة
وأتطلع إلى خواص من سيرث هذا العدم.
.
عدمك
قبل أن تتبدد لغته الخفية
من فوق خفاء الصورة المحوّمة
جيرونيمو هل تبخر الذي لا يتبخر فيك؟ ؟
هل فقدت حتى صمت لعبة التسرّي بالموت؟
لا شيء في المشهد عن بعد يا صديقي
سوى سهم حقدهم يثقب درقة سلحفاتك
بلا طائل
بلازما التكاثر في اللاشيء
=======
للثورة أيضاً ضجرها المتكرر
ما لم تتجدد بطقوس تجدّد العالم
وتغيّر جلدها كما الأرواح المائية
كما انقلاب الشمس الدائم على نفسه
«الثورة»، آه كم ابتذل هذا المصطلح
كم صار بؤرة للبؤس في عين البؤس
وسدة الفراغ في سوق أممية الفراغات
تغزّل بأفولك يا صاحبي
كما لو كنت تتغزل بالوردة
النظام فيك خرج على النظام
والفوضى الجميلة لحُلمك
ارتبطت بعلاقة وثيقة مع فقدانها
صرت أبداً تشبه هذا الآتي من ليل الأيديولوجيا
ومن ليل التاريخ.
.
استحلت طحينا أسود
لن تجدني بالقرب منك بعد الآن
فأنا هو الآخر، الذي يؤمثل آخره فقط
في قاع الشيء الميت.
.
كما في قمته
ومن ملامحه باتت تنطق القسوة
وبدايات امتحان طوفان الإلغاء
ما من شيء يبدو أكثر تهافتاً مني الآن
دُفعات الحياة.
.
ودُفعات الموت عندي سواء
مجرد زائدة في بلازما التكاثر في اللا شيء
_________
*الاتحاد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *