*عبد الحليم أبو دقر
( ثقافات )
صحا “ أبو ساعة “ فجأة، فوجد بجانبه في الفراش حمارة منفوخة تنبعث منها رائحة كريهة، صرخ بأعلى صوته منادياً زوجته، فحضر أبوه، انتزعه من فراشه، فبال على نفسه وأبوه يجرجره إلى الحوش. كانت الشمس ما تزال غافية وراء الغيوم الكثيفة، والحوش ما يزال بارداً مبللاً عندما انحشر “ أبو ساعة “ في الزاوية التي اعتاد أن يعاقبه والده فيها، تدخلت أمه وهي ترتجف من البرد متهيبةً من زوجها الذي نهرها قائلاًَ: إلاّ هذه المرة. طلب منها أن توقظ ابنتها، وإذا بفتاة صغيرة جميلة بيضاء ناعمة، شعرها الكستنائي الفاتح مضموم في جديلة طويلة سميكة، تندفع من أحد الأبواب تردد: صاحية صاحية. فقال لها أبوها: إحكي القصة من طق طق للسلام عليكم. بكت الفتاة وهي تقول لأخيها “ أبو ساعة “ الذي كان ينتفض وهو يحاول تثبيت كفه على فمه ليتمكن من قضمها: كانت حمارة طيبة مخلصة، كيف قدرت تسممها يا حقير؟! ، وصفعته، فقال لها أبوها: هذه آخر مرة ترفعين فيها يدك على أخيك، قولي كيف تعرف على الحمارة؟ . وسأل ابنه “ أبو ساعة “ : كم حبة جوز كسرت على رأسك عندما سرقت حبات الليمون عن الشجرة وأكلتها مع أصحابك القواريط حرامية الرمل؟! لا تبك، ردّ، لا تبك.. عندما أسألك جاوب.. رجعت من جديد تأكل يديك . صفعه وقال له: سأجيب عنك، خَمس حبات جوز كسرت على رأسك مقابل خَمس حبات ليمون سرقتها عن الشجرة. انهار “ أبو ساعة “ في البكاء وفي تقريط كفيه وأوشك أن يغمى عليه. نظرت الفتاة إلى أبيها الذي أتم لف سيجارته وأشعلها وأخذ منها أكثر من مصة.. وقالت: كانت الحمارة أشطر منه، تنجو بالرمل المسروق، بالحصمة المسروقة، أما هو يعلق ويأكل ضرباً.. حتى عندما سرق الحديد وحمله عليها انجرحت ونزل دمها، ومع ذلك أنقذتة من بين أيديهم، كان انخرب بيته.اقتربت من “ أبو ساعة “ وصرخت فيه: سممتها لأنها أحبتك.صفعته من جديد، أبعدها والدها عنه وهو يصرخ فيها: قلت لك لا ترفعي يدك على أخيك.لكنها أكملت: بِفَضْلها لم يعد أحد يتعرض له.صرخ فيها أبوها: يا حيوانة، قولي كيف تعرف عليها. فقالت: آه.. كان يروح وحده على المزبلة، التقاها في الطريق عند السكة. صاحَبها، وصارت تروح معه على المزبلة، هي تأكل بندورة مخمجة، خياراً معفناً، بطاطا مضروبة. وهو يخرج من أكوام الزبالة سياخاً محروقة، صحوناً مطبوخة، قدوراً متحللة، وأشياء تنط من تحت الأكوام وتضربه في وجهه.. صرخ فيها أبوها: كيف صار يكرهها؟. أجابت: لحظة.. ، وحكت رأسها: صارت ما تقدر تبعد عنه ولا ساعة، ولا دقيقة، تنتظره أمام المدرسة، ومرة لمحها الأستاذ تحسين من النافذة وهو يشرح درس الرياضيات، فقال: عندنا حمار في المدرسة، وهذه الحمارة جاءت تنتظره، لو نظرنا من خلال عينيها لعرفنا من هو الحمار الذي جاءت من أجله.
قال له الطلاب: هذه حمارة “ أبو ساعة “ ، فعزره، وطلب منه أن يمنعها من العودة والوقوف أمام المدرسة، لأنها لا ينقصها حمير، فيها ما يكفيها، ويطفح عنها . من يومها انقلب على الحمارة، وصار الطلاب يزفونه الى الدار، يطبلون له على التنك، وعلى العلب الفارغة، والحقائب الممزقة، يهجم عليهم، يضربونه فيرجع يضرب الحمارة.. كسّر كيس الجوز كله على رأسه بالشاكوش لأنه قتلها. فصرخت فيها أمها: اخرسي، قطع لسانك، هو ناقصك؟. فقالت لأمها: هناك سر سأبوح به، سلسلتك الذهب لما انقطعت قَصّ منها شقفة، وباعها، وهي لم تكشّ مثل ما كنت تقولين.هجمت عليها أمها وسدت فمها بيدها، أفلتت منها وصاحت: سرق منك كاسيت لا تهزي كبوش التوتة وأعطاه لسميرة حتى تحبه. مد والد “ أبو ساعة “ يده الضخمة المكتنزة البيضاء في كيس الجوز، وأخرج منه أول حبة جوز، فاندفع “ أبو ساعة “ بالصراخ والعويل.. دخلت عليه زوجته في غرفة النوم وهي تقول: بدأ أبوك يكسر الجوز القاسي على رأسك.. رجعنا للكوابيس.
وهزت “ أبو ساعة “ وهي تقول له: صاحبك “ الربع الفارغ “ في الصالون.
رد عليها وهو شبه مسطول: كيف.. من..؟! كيف ترك “ الربع الفارغ “ السوق؟ كيف ترك “ الربع الفارغ “ مكتبه؟ كيف ترك “ الربع الفارغ “ محلاته؟ أكيد هناك مصيبة حصلت. نهض من فراشه يغسل وجهه.. كان “ الربع الفارغ “ يزمجر، يكاد يتفجر وهو يقول لـ “ أبو ساعة “ : وصلت بيننا للطلاق، رأسها وألف سيف تكمل تعليمها، الحقيرة متذكرة إني وعدتها. رد عليه“ أبو ساعة “ : كنت أقول لك، المرأة لازم تضربها الصبح، وتضربها بالليل، تستهجن كلامي، تعمل إنك جنتلمان ، على كل حال عندي حل نهائي لكل مشكلتك، حل مجرب، نجح مع زوجتي.. أول شغلة قل لها إنك بَيَّتَّ استخارة، وراجعت المفتي فأحل لك الرجوع عن يمينك، سجّلها في الجامعة.. وفي كل ليلة لا تتركها تنام قبل الفجر، ستفصلها الجامعة بسبب الغياب كما حصل مع زوجتي.. فرد “ الربع الفارغ “: عظيم، ممتاز، كيف راحت عن بالي؟.عدّل “ أبو ساعة “ قعدته في الكنبة الوثيرة، سعيداً بالانقلاب الذي أحدثه في “ الربع الفارغ “، رجل على رجل، ووسّع صدره بنفس عميق، طبطب على شعره البليل، وأكمل: بعد ذلك أينما وجدت عندكم في العائلة نساء هترش ، زوجات إخوانك، عماتك، خالاتك، إخواتك، اتركها دائماً معهم، عندها يكون مشروعك في تحويل زوجتك إلى حمارة قد بدأ، وستنجح معها كما نجحت أنا مع زوجتي. انقلب وجه “ الربع الفارغ “، وتطاير انشراح “ أبو ساعة “ متأثراً بانزعاج “ الربع الفارغ “ الذي ظل يعيد عليه: من قال لك عندنا هترش في العائلة؟. رد عليه “ أبو ساعة “ وهو يقترب منه، يلامس ركبته: يا سيدي حقك علي، أنا قصدي إلا ما تلاقي عندكم واحدة نص نص ، طول نهارها قاعدة على المسلسلات التركية والمكسيكية المدبلجة، وإذا أمسكت التلفون كل الدنيا ما تفكه منها، تظل تقول لزوجتك: نزلت على السوق، أعجبني الخاتم الفلاني، والفستان العلاني إلا أشتريه، نازل عطر جديد إلا.. بعدها اعمِها بالأولاد.. مهما قالت أو فعلت قل لها: حمارة ، بصوت خفيض في البداية، ثم مرتفع، ثم بوقاحة، في البداية بينك و بينها، بعدها بوجود الأهل، ثم بوجود الغرباء.. في الأماكن العامة اصرخ عليها: حمارة .. كل لحظة أعد عليها: عمرك ما فهمت علي، ولن تفهمي علي، ستموتين وأنت غبية، عندها تنتهي القصة مثلما حصل مع زوجتي، صار معها شهادة رسمية أنها حمارة .
أوشك “ أبو ساعة “ أن يطير من شدة الفرح، فقد اكتشف أن خبرته في أمور الزوجات مفيدة جداً لدرجة أنه صار مرجعاً فيها، وها هو “ الربع الفارغ “، الجامعي المتعلم، يرجع إليه كي يحاضره في: كيف تحول زوجتك إلى حمارة؟ ، وتخيل للحظة أنه ستنهال عليه الطلبات من جمعيات كثيرة ونواد أكثر ليحاضر في أسهل الطرق وأقلها تكلفة في تحويل الزوجة إلى حمارة، وتخيل أكثر من عنوان لمثل هذه المحاضرات تخلّص من إزعاجات زوجتك وحولها إلى حمارة.. بأقل التكاليف.. حول.. بأسرع الطرق.. ، وقرر أنه سيؤلف كتاباً في هذا الموضوع.أنهى “ الربع الفارغ “ مكالمته الطارئة، أشعل سيجارة، وشرب أكثر من ثلث فنجان القهوة برشفات متتالية، وقال لـ “ أبو ساعة “ : كل ما قلته صحيحاً، فزوجتك حمارة، حمارة حقيقية، حكت مع زوجتي ساعات على التلفون تصف لها ما حصل بينك وبين لينا في البحر الميت وبالتفصيل المثير، مع أنك قلت لي إن كل ما قلته لزوجتك هو أنك تعرفت على بنت بالصدفة اسمها لينا ونزلت تعشيت معها في البحر الميت.. نصحتك لا تتسرع، لا تعترف لزوجتك عن لينا، كم مرة قلت لك لا تَخَفْ من عديلك الأكاديمي، مهما وصلت المشاكل بينك وبينه لن يخبر زوجتك، هذا ليس أسلوبه.. والله لو زوجتي تعرف عني قصة مثل قصتك مع لينا، ساعة ما تقعد في الدار. رد “ أبو ساعة “ : أنت اعمل معها مثل ما قلت لك، لن تضايقك بعدها مهما عرفت عنك ، وأكمل: بالمناسبة، لا يخطر ببالك للحظة أني لا أعرف أنك نزلت مع لينا من وراء ظهري على البحر الميت؟ اعرف أنني أعرف أنك خنتني مع لينا . قهقه “ الربع الفارغ “: خنتك كيف؟ من عقلك، مصدّق؟ مع لينا؟! هي أخذت من تلفونك كل أرقام الشباب واتصلت فيهم واحداً واحداً، وكلهم نزلوا معها إلى البحر الميت.
– كلهم لا يهمونني، أنت أقرب واحد علي، كيف تخونني!. نهض “ الربع الفارغ “: كيف جئت عندك، أين عقلي؟.
– أنت خنتني، وعندما واجهتك بالحقيقة، عندما حشرتك وأحرجتك..غادر الربع االفارغ غاضباً مغتاظاً كما حضر.قال “ أبو ساعة “ لزوجته: راجع أنام، لا توقظيني لو انطبقت السماء على الأرض.عند الظهر دخلت عليه حماته وهو نائم تولول تهزه تقلبه تصرخ فيه: الحق ابنك الحق ابنك في قسم الطوارئ، قال لهم الطبيب وهو ينظر في نتيجة المختبر: للأسف، عنده سحايا.. كيف أهملتموه كل هذه المدة؟!. صرخ “ أبو ساعة “ في زوجته: أنت متآمرة علي، دمرتني في أعز مخلوق عندي، تركته يسخن خمسة أيام.ردت زوجته: حمارة، أنا حمارة، كيف لم أنتبه، أنا حمارة، كيف سكتُّ عنه؟! انعمى قلبي، أين عقلي؟!.صرخ فيها “ أبو ساعة “ : مَثْلي عليّ، قصدك تدمرينني، أنت حقيرة، أنت بنت حرام.ردت: ناسي إنه ابني؟ وغالي عليّ أكثر منك بكثير؟ ولكن أنا حمارة، طول عمرك تقول حمارة، لماذا تتراجع الآن؟. صرخ فيها: حمارة ولن أتراجع، أنت حمارة، وأنا أعرف كيف أتخلص من الحمير.
_________
*قاص من الأردن