سيف دونكيشوت وسيف بوليفار


*خيري منصور

للسيوف اسماء ايضا، رغم ان اكثرها انتهى الى المتاحف او صدأ في الأغماد، لكن هذا السلاح رغم بدائيته اقترن بالفروسية والشجاعة لأنه يشترط المواجهة والاقتراب من الخصم، وهناك ثلاثة سيوف على الاقل تحولت بمرور الزمن الى أمثولات، منها ما تاخم الاسطورة حتى حلّ فيها كسيف ديموقليس، الذي عُلّق مسلّطا على الرأس بحيث يملي شروطه على الضحية، ومنها سيف دونكيشوت الذي تحطّم على طواحين الهواء حتى توهم صاحبه ان ما يدور امامه هم الأعداء، وكان هذا العمى الذي سخر منه سرفانتس هو النقيض لحكايتنا التراثية عن زرقاء اليمامة التي حذّرت قومها من اشجار تمشي لأنها مجرد أقنعة خضراء لغزاة، لكنها وككل من يرون اكثر مما ينبغي دفعت الثمن، تماما مثلما كان على سنمّار ان يدفع الثمن ايضا، لأن من يملك الاسرار عليه ان يحتفظ بها حتى القبر .

والسيّف الثالث الذي بدأ يتاخم الاسطورة هو سيف سيمون بوليفار، جذر الحلم اللاتيني بالتغيير والثورة، وحين زرت القاهرة لأول مرة في صباي رأيت التماثيل التي تحمل معظم ميادين العاصمة اسماءها، طلعت حرب، مصطفى كامل، سعد زغلول وغيرهم، لكن ما ان شاهدت تمثالا بالقرب من فندق سميراميس الذي أعيد تشييده على النيل، حتى اثارت دهشتي الحروف اللاتينية لاسمه، وعرفت على الفور انه سيمون بوليفار، الذي لم اكن اعرف عنه غير الاسم، وكانت تلك اللحظة هي بداية تعرفي على قارة ساخنة وطازجة بكل المقاييس، ولم يخطر ببالي في تلك الايام انني سأكتب بعد اكثر من اربعين عاما عن بوليفار وأنا اسند ذراعي الأيسر على تمثاله الصغير في منزلي، وأقرأ من موقف احفاده من ثوار القارة ما يصيبني بالقشعريرة عن العدوان على غزة.. بحيث بدت لي تلك القارة بأنها امريكا الفلسطينية المقابلة لامريكا الاسرائيلية، خصوصا حين علمت بأن احفاد بوليفار قرروا بناء حي في غزة يحمل اسم جدهم الأعظم، والذي سيكون ذات يوم عنوانا لبيت ولد فيه او بالقرب من انقاضه طفل فلسطيني حمل كل ما جرى في ذاكرته وتحول الى شاهد يكتب ولا يدع احدا منّا ينوب عنه !
* * * * * * * *
سيف دونكيشوت تحول الى سلالة في التاريخ وهناك من أقعوا تحت قدمي سرفانتس طالبين الانتساب الى نادي طواحين الهواء، ما دام لكل واحد منهم تابع اسمه سانشو يتولى نشر اخبار انتصاراته الوهمية .
ان هذا الكاريكاتور لفارس بلا فروسية لم يعد حكرا على رواية، او على ذاكرة او لغة، فهو الان منشور على الملأ من خلال صولجانات يتناسل فيها السّوس ومواكب اشبه بجنازة يسعى فيها الموتى حاملين على اكتافهم او ما تبقى من هياكلهم العظمية تابوتا حشر فيه انسان حي، ففي هذا الانقلاب الكوني والكوبرنيكي المضاد لكل كشف او اجتراح اصبحت المفاهيم كلها بحاجة الى اعادة تعريف فالحاكم محكوم والميت حي، وحاتم الطائي هو من يذبح الخيول كلها للغزاة ويبخل حتى بجرعة ماء على اخيه الجريح، فالمعاجم والقواميس التي توارثناها اصبحت مضللة، لأنها اشبه برواية جورج اورويل 1984، حيث كل كلمة تعني عكس دلالاتها فالحرب سلام والحب كراهية والجمال دمامة والذكاء حمق وتنبلة .
* * * * * * * * 
من يربطون من اعناقهم تحت سيف ديموقليس تأقلموا، وأجادوا كتابة ما يملى عليهم، فالأرض بالنسبة اليهم لا تدور وهي شبه منحرف وليست مستديرة، والسنبلة هي التي تذبح المنجل والنجم يتطفل على ليلهم الدامس، لأنه يفسد الموعظة التي تتلخص في ان يد قاطع الطريق لكي تستطيل يجب ان يستطيل معها الظلام، ولو استطاع هؤلاء اطفاء الشمس واطلاق النار على القمر لفعلوا وتلك برقية عاجلة ارسلها لوركا في عنق حمام زاجل الى كل اطفال الأرض .
وان كان اللاتينيون او اهل امريكا الفلسطينية قد احتفظوا بسيف جدهم فأين هي سيوف اسلافنا ؟ وفي أية متاحف او اغماد مطرّزة بالعثّ والذباب ؟
لو صدقت «الغارديان» بما قالته قبل عقد من الزمن، وبالتحديد منذ سلّم العلاقمة الجدد مفاتيح بغداد للغزاة، فإن سيف صلاح الدين الايوبي بيع لضابط انغلوساكسوني من صاحب حانوت لا يفرّق بين الخوذة والمقلاة وبين صهوة جواد وغطاء دبابة !
* * * * * * * * 
احفاد بوليفار فهموا حصارنا لأنهم حوصروا، وشعروا بأن الزيتون مرّ في حلوقنا او مالح من دمع غارسيه لأنهم كما قال احدهم ذات يوم تذوقوا مرارة السّكر، واحسوا بنذالة الاغتيال ووحشية الرجل الأبيض فاستوعبوا على الفور اغتيالاتنا وما الحقه المستوطن بالمواطن، والاسخريوطي الجديد بالفدائي العريق، لهذا تمدد سيف بوليفار خارج الغمد واستطال كي يتاخم الاسطورة وكأنه يحل مكان ذلك السيف الرومانسي الذي كان يمدد بين عاشقين كما في اسطورة تريستان وايزولدا المرادف الأوروبي لحبنا العذري !
وها نحن بعد قرون نعود الى تلك المفاضلة التي عقدها ابو تمام بين السيف والقلم، وأيهما أصدق ؟ لأننا ادركنا قبيل فوات الأوان ان سيف دونكيشوت ليس سيف بوليفار !
لهذا ابتدع العربي المعاصر اسطورته عن السيف الرابع .. وهو ذلك الذي اوصى عليه احد الحكام كي يقاتل به الغزاة، واشترط على الحداد ان يكون طوله مترين لكنه غضب ورفض تسلم السيف لأنه كان اقصر من المترين ببضعة سنتمرات … عندئذ قال الحداد باسمنا جميعا للحاكم : تقدّم خطوة يا سيدي وسيكون طول سيفك ثلاثة امتار ! لكن الحاكم تراجع حتى تلاشى السّيف ولم يبق منه غير قبضة مبللة بدمه وماء وجهه ولعاب عدوّه !
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *